لن تنتصر ثورة يناير "بالتنظير" وحده، ولا باجترار الذكريات النبيلة في ميادين التحرير، وبالتأكيد لن تنتصر الثورة ما لم تتحول أهدافها وشعاراتها الكبرى إلى خطط وبرامج عمل وأفكار قابلة للتطبيق في واقع مصري صعب ومرتبك.
هذه حقائق مؤكدة، أثبتتها الأعوام الفائتة التي ظلت خلالها ثورة يناير الخالدة مجرد ذكرى سنوية جميلة.
في مساحات "التنظير"، قطعت الثورة خطوات مهمة للأمام، استمر الجدل طوال 13 عامًا، اتفق جميع من شاركوا في يناير، ومن أيدوها وتفاعلوا معها ودافعوا عنها، على شكل الدولة التي ينتظرها جمهور الشعب المصري والتي تليق بمصر، دولة الحرية والعدل والمواطنة والقانون.
عبر الحوار المتواصل والكتابات المنشورة، تحدث هؤلاء كلهم عن دولة ليس فيها مكان للفساد أو الاستبداد أو الديكتاتورية أو حكم الفرد. دولة مدنية ترفع رايات التنوع والعقل والاستنارة، وترفض القمع والإقصاء والتخوين والحكم بالحق الإلهي.
دولة تنحاز فيها السياسات إلى الغالبية الساحقة من البسطاء الذين دفعوا أكبر الأثمان من حياتهم واستقرارهم طول السنوات التي مضت. دولة تلحق بالعصر وتكون جزءًا منه، ولا ترفع أو تدافع عن أفكار ومفاهيم مستوردة من عصر ما قبل التحرر من الاستعمار.
لكن في حسابات السياسة، لا يمكن لفكرة، أو حتى ثورة، أن تتقدم للأمام بخطوات واثقة دون أن تمتلك تنظيمًا سياسيًا، يُخرِج كلَّ أهدافها ومبادئها، على نبلها وروعتها، من مساحات الحوار النظري والحديث المجرد، إلى فضاء الفعل والتأثير والتواصل مع الناس. لا يمكن لثورة أن تنتصر إذا لم تقنع عموم الناس أنها تملك البدائل التي يمكنها أن تغير واقعهم، وتنتشلهم من حالة بائسة إلى واقع أفضل ومستقبل أجمل.
هنا تبدو معضلة يناير الكبرى؛ فخلال 13 عامًا لم تطرح الثورة تنظيمًا سياسيًا حزبيًا ينقلها خطوات مهمة للأمام. صحيح أنَّ المناخ العام كان ولا يزال خانقًا، وغير مشجع على السير في هذا الاتجاه، لكنَّ أقدار المشتغلين بالعمل العام في الأوطان التي تعاني من الاستبداد هو الاشتباك مع الواقع السيئ وتطويعه، ليصبح أكثر حرية ورحابة وانفتاحًا.
ولعل الذكرى تنفع أهل يناير إذا ما قارنَّا بين واقعنا الذي يعاني من الثبات في المكان، وواقع قوى سياسية شابة وغير منظمة في إسبانيا، استطاعت أن تنجز وتتحرك للأمام. والمفارقة أنَّ تلك القوى الإسبانية الشابة خرجت إلى المشهد السياسي هناك متأثرة بثورات الربيع العربي.
من الغضب إلى العمل
فبعد احتجاجات غاضبة شهدتها إسبانيا في عامي 2011 و2012 متأثرةً بالربيع العربي، أسست رموز سياسية شابة حركة "الغاضبون"؛ ممثلة لتيار يرفض الواقع السياسي الإسباني ويتهمه بالفساد، وتتصدره رموز سياسية من أجيال جديدة تتشابه بشكل كبير مع شباب يناير في غضبهم من المناخ العام ورغبتهم في تغييره.
على قوى يناير أن تغادر محطة 2011 إلى العمل السياسي من موقع المعارضة الجادة لا الوديعة
مع الوقت والنضج تحولت حركة "الغاضبون" عام 2014 إلى حزب سياسي جديد سموه: بوديموس، واستطاع، بنشاط مبهر لشباب إسباني غاضب ولديه رغبة في التغيير، أن يجذب عشرات الآلاف إلى عضويته، ويلفت أنظار المجتمع الإسباني بشدة، ويطغى بأفكاره وحيويته على الواقع السياسي.
ونجح مؤسسوه في الإفلات من الخلافات السياسية بعدم ربط عضوية الحزب بأيديولوجية سياسية، بل بنى قوته على تقديم بدائل وبرامج للمستقبل، وبنهاية عام تأسيسه، أصبح الحزب الوليد واحدًا من القوى الرئيسية في البلاد، ثم حقق المفاجأة الكبرى بعدما شارك في انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو/أيار 2014، وحصل على 7.98% من الأصوات، أي خمسة مقاعد.
لم يقف حزب بوديموس على حدود الغضب من الواقع السياسي، ولم يكتفِ بالاحتجاجات، بل أدرك مؤسسوه في لحظة سياسية محددة أنَّ التحول إلى تنظيم حزبي بات ضرورة، وتعلموا أنَّ الرأي العام يشتاق إلى الجديد، ويتمنى أن يجد من يرسم خريطة طريق مختلفة بروح شابة ومتجردة ومخلصة. هذا الإدراك استغله الحزب الإسباني الشاب ليشكل علامة فارقة في مجتمع سياسي عانى من التكلس، وفي تجربة الحزب الإسباني خبرة مهمة لكل من يرغب في ترجمة الغضب والرفض إلى حراك وعمل وتقدم.
ظروف متشابهة
هناك تشابه واضح بين بوديموس وأجيال يناير في مصر، ففي كل السنوات التي مضت كشفت الوقائع عن تيار واسع ينسب نفسه لثورة يناير، غالبيته من الأجيال الشابة التي شاركت في الثورة وتفاعلت معها. هذا التيار يتشابه في أفكاره ورؤاه وأحلامه للمستقبل، لكنه غير منظم في أحزاب سياسية تعبر عنه، وهو في غالبيته حالم وغاضب ومحبط في آن واحد، وغير مقتنع بما تقدمه الأحزاب القائمة، ولا يظنها تعبيرًا مناسبًا عما يحلم به.
لكنَّ أزمته المزمنة أنه لا يفكر في بناء أحزاب أو ممارسة العمل السياسي. الأصعب في هذا التيار النبيل أنَّ الزمن توقف لديه عند لحظة 25 يناير 2011، امتزج تمامًا باللحظة الرائعة والاستثنائية، لا يستطيع أن يفارقها أو يغادرها إلى محطات جديدة ومختلفة، فمحطة واحدة على طريقة "بوديموس" يمكن أن تحول حلم يناير المشرق إلى واقع، وتنتشله من كونه مجرد ماضٍ إلى إمكانية أن يشكل المستقبل.
ظني أن واجب اللحظة الراهنة على هذه القوى أن تغادر محطة 2011 بكل روعتها ومثاليتها، إلى ممارسة العمل السياسي من موقع المعارضة الحقيقية والجادة، لا الوديعة المستسلمة، وأن تصبح مهمتها المقبلة هي بناء أحزابها التي تعبر عنها، وتدافع عن يناير، وتضعها على خريطة المشهد السياسي.
ثم، وهو الأهم، أن تحول هذه الأحزاب المنتظرة شعارات يناير إلى برامج وخطط وآليات عمل، تطرح البدائل، وتشتبك مع الواقع السياسي، وتواجه السياسات البائسة الحالية بأخرى أكثر عدلًا ومساواةً، وتضرب الأمثلة في الإيمان بالحرية والكرامة، وتخوض المعارك السياسية لضمان نزاهة وحيادية الانتخابات، أي انتخابات، وتشتبك معها بالمشاركة حينًا أو بالمقاطعة الإيجابية في أحيان أخرى، وتفرض نفسها كقوة حقيقية وجادة على المشهد الحالي، انتظارًا لمستقبل مختلف آتٍ لا ريب.