كل الضربات التي تلقتها ثورة يناير الخالدة خلال العشر سنوات الفائتة بنت ما مكن أن نعتبره "أقواسًا"، بعضها حدث بسبب التشويه الكبير الذي تعرضت له الثورة، وبعضها الآخر تعود أسبابه للإحباط الذي عانى منه أنصار يناير بعد هزيمة موجتها الأولى على يد خصومها وكارهيها. أقواس "الوهم والإحباط" تمددت وبدأت تظهر في شكل شعارات ومقولات يومية نستخدمها جميعًا دون أن ندري.
الآن وفي الذكرى الثانية عشر للثورة بات ضروريًا فك هذه الأقواس، وتحليل معناها، ربما نستطيع أن نفهم ماذا حدث، وكيف تحولت الثورة النبيلة لأوهام وإحباط من أبنائها، وهجوم وتشويه وإساءة من خصومها الذين خافوا منذ اللحظة الأولى لقيامها أن تحولهم من "آلهة" إلى بشر عاديين.
أولًا: إحنا ليه قمنا بالثورة؟
يبدو من هذه المقولة كبر مساحة الإحباط التي يعاني منها كل الذين يرددوها، وهي مقولة لا تحمل إدانة للثورة ولا تبرؤًا منها، بقدر ما تحمل "غضبًا كبيرًا" على ما آلت إليه الأوضاع في مصر الآن، هي مقولة لا تعادي الثورة ولا تهاجمها ولا ترفع شعار الندم بقدر ما تحاول أن تنعي الحلم الذي تحول مع الأيام إلى كابوس.
وهي مقولة يخالف ظاهرها باطنها، يحاول من يرددها بحزن أن يتمسك بالثورة وبشعاراتها الكبرى في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية قبل أن يصحو على واقع بائس ينتزع كل ما نادت به يناير ليتحول أبناؤها إلى نعيها.
نفس الذين يرددون هذه المقولة يعلمون جيدًا لماذا قام المصريون بالثورة، صاحبها بنفسه كان يردد منذ عشر سنوات أسبابًا منطقية تبرر اندماجه وسط الملايين في الميادين، كنت تسمعه وهو يبدأ الأسباب بالفساد الذي انتشر بشكل لم يسبق له مثيل، ولا ينتهي بالديكتاتورية التي جثمت على أنفاس البلد ثلاثين عامًا متصلة. هذه مقولة بالقطع تحمل إدانة للواقع الحالي لا للثورة.
وبين هذا وذاك لا ينسى كيف أدار البلد "شلل ومحاسيب" امتلكوا الثروة والسلطة في مقابل الملايين الذين كانوا خارج أي سياق اجتماعي أو سياسي، ثم هو نفسه الذي لم ينس أن البلد كانت قاب قوسين أو أدنى من أن يورثها الرئيس الأب إلى ابنه الطامح للوصول لعرش مصر، وكأن البلد تحولت إلى ملكية لمبارك يفعل فيها ما يشاء حتى لو ورَّث حكمها "الجمهوري" إلى ابنه غصبًا عن شعب حاصر الاستبداد صوته.
ثانيًا: ولا يوم من أيامك يا مبارك
هذه أيضا مقولة تحمل إدانة للواقع الحالي لا للثورة. تخلق المقارنة بين مبارك والسلطة الحالية لا بين مبارك و25 يناير. فلم تحكم الثورة حتى يمكن مقارنتها بمبارك، بل ظلت حلمًا جميلًا في الميادين. شعارات نبيلة لم يحولها أحد إلى برامج وخطط عمل وسياسات.
يتبنى هذه المقولة الذين رأوا أن حكم مبارك كان ينم على انحياز ما للفقراء في مواجهة حكم لا يعيرهم اهتمامًا. فلم تصل مساحة الديون وقت مبارك إلى مئات المليارات من الدولارات، ولم تسحق السياسات الاقتصادية الفقراء كما يحدث الآن، ولم يدفع أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة ضريبة ما يسمى إصلاحًا اقتصاديًا، ولم يصل سعر الدولار وقت حكم مبارك إلى ما يقترب من الثلاثين جنيهًا لتشتعل الأسعار، ويصرخ الجميع بلا استثناء من عدم القدرة على التعليم والصحة والسكن والنقل وغيرهم.
لم يكن مبارك هو الأفضل لمصر جديدة حلم بها من الذين خرجوا في يناير، ولم تكن سياساته هي التي يمكن أن تدفع بمصر إلى اللحاق بعصرها والسير على طريق العدل والحرية والتقدم، لكنه وفقًا لهؤلاء كانت لديه خطوط حمراء لا يقترب منها، جل هذه الخطوط كانت تتعلق بلقمة العيش والصحة والتعليم وغيرها مما يضمن للمواطن أن يعيش مستورًا لا ميسورًا.
وهي المقولة الأكثر تعبيرًا عن الظلم، لا الندم، ولا ينبغي تحميلها على وجه التبرؤ من الثورة، ولا التراجع عن رغبة التغيير التي حملت الملايين إلى الميادين في 2011، بل هي مقولة تحمل إدانة كاملة للسياسات الحالية وللزمن نفسه.
ثالثًا: يناير انتفاضة وليست ثورة
يحلو لبعض هؤلاء الذين حلموا أن تكتمل ثورة يناير أن يصفوها بأنها لم تكن ثورة بل مجرد هبة جماهيرية أو انتفاضة عابرة. وبعيدًا عن التعريفات الأكاديمية فإن هذه المقولة تنتقص من شأن يناير حتى ولو يكن من يرددها قاصدًا الإساءة، ولو رددها أصحابها تحت وطأة إحباط من هزيمة موجة يناير التي انطلقت في 2011، لكنها تبدو مقولة لا تعبر عن الواقع.
هذا هو الوعي الذي خلقته ثورة يناير، وينمو ويزداد كل يوم حتى يصل محطته الأخيرة، فالتاريخ يشهد على أن الثورات الكبرى لم تغير الواقع بشكل جذري في شهور أو سنوات، وأن الثورات تبدأ بخروج جماهيري كبير وحاشد، لكنها تنتصر وقت أن تتخلص من كل الأسباب التي أدت لقيامها، والمؤكد أن هذه المهمة ليست سهلة، فلم تحقق الثورة الفرنسية أهدافها إلا بعد سنوات طويلة، بل أنها تعرضت للمد والجذر الذي أعاد من قامت الثورة ضدهم "أسرة البوربون" إلى مقاعد الحكم مرة أخرى.
كذلك كانت ثورة يناير التي تعرضت منذ لحظتها الأولى لمحاولات الاحتواء والهدم، ثم لكل صور التشويه والإساءة، ثم إلى التقليل منها ووصفها بالمؤامرة الخارجية، ثم إلى حكم الثورة المضادة بشكل كامل، لكنها بقيت وستبقى ثورة كاملة، دفع فيها المصريون من دماء أنبل وأشرف أبنائهم ثمنًا كبيرًا، ولا تزال تتمتع بالتقدير البالغ في ضمائر الملايين الذين حلموا معها.
ثم وإن كانت فشلت في تغيير السياسات والأدوات، فإنها نجحت في تغيير ما هو أهم، تغيير الوعي العام بدرجة كبيرة، وأخرجت أجيالًا جديدة انفتحت بشكل كامل على العالم بعلمه وحضارته، وباتت تلك الأجيال تنظر برفض وتبرم إلى صيغ الحكم الاستبدادي والسلطوي.
هذا هو الوعي الذي خلقته ثورة يناير، والذي ينمو ويزداد كل يوم حتى يصل محطته الأخيرة، وقت أن تنتصر شعارات الثورة وأحلامها وأهدافها الكبرى، وقتها فقط لن يمكن لأحد أن يصف يناير بـ"مجرد هبة أو انتفاضة جماهيرية وانتهت".
المؤكد أن كل المقولات التي تظهر تحت وطأة الإحباط من الواقع لا تقصد هدم يناير ولا الإساءة لها، لكنها أقواس مغلقة يجب فتحها وتوضيح مقصودها، حتى لا يستخدمها كارهو الثورة، ولا تتحول مساحة الإحباط إلى خناجر جديدة توجه إلى الثورة الجريحة، وتبقى رغم كل شيء أكبر وأعظم من أي تشويه.
ليس هناك برنامج سياسي واحد يصلح للحكم وينجز التقدم المنشود إلا يناير بأهدافها الكبرى، تلك الأهداف التي طالب بها الشعب ورسمها بنفسه في الميادين بدماء أبنائه، وستظل شعاراتها التي لم تتحول إلى سياسات هي الطريق الوحيد المتاح للمضي نحو مستقبل أفضل، وسيظل غيرها مجرد حرث في البحر لا يفعل أكثر من إضاعة سنوات من أعمارنا وعمر البلد في تجارب لن تخلق نجاحًا ينتظره المصريون ويستحقونه.