في اللحظة نفسها التي تشعر فيها السلطة في مصر بعبء الانتخابات الرئاسية المقبلة، وتتعامل معها بشكل مختلف عما سبقها من استحقاقات انتخابية، يبدو المزاج المصري في حالة هزيمة كاملة، ويأس من إمكانية التغيير السياسي عبر صناديق الانتخابات.
اليأس له مبررات مفهومة، وثقافة الهزيمة لها أسباب منطقية، لكنهما معًا يشكلان الخطر الأكبر على هذا البلد، ويهددان قدرته على التقدم خطوة واحدة للأمام.
بسيطرة مطلقة للحكم الاستبدادي على الدولة، وكل مؤسساتها وقواها وأنفاس أبنائها طوال عشرات السنين، بات الاستسلام التام لحتمية فشل النضال السلمي عبر الانتخابات أقرب لثقافة المصريين، فراجت عبارة "مفيش فايدة"، التي تُريح الملايين ممن يرغبون في التغيير؛ لكنهم يؤمنون بعدم قدرتهم على المشاركة كطرفٍ مباشرٍ في صنعه.
قلق السلطة الحالية من الانتخابات ظهر جليًا عبر مؤشرات دالة مثل تبكير موعدها بقدر المستطاع، إذ تواترت الأنباء عن احتمالية فتح باب الترشح في أول الشهر المقبل، والأصوات التي تتعالى، ومن ضمنها أصوات قريبة من السلطة، بضرورة تقديم ضمانات لنزاهة الانتخابات، واحترام إرادة الناس، وحياد مؤسسات الدولة. وكلها مؤشرات تثبت أن الانتخابات لن تكون سهلة، ولن تملك السلطة تمريرها بطرق تقادمت وأضحت مستحيلة في ظل غضب شعبي بادٍ ومستمر على خلفية أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وغلاء فاحش أضر بشدة بغالبية مواطني البلد.
وفي اللحظة التي تدرك فيها السلطة الحالية أن مساحات الغضب الشعبي تتسع، وأن تحالفاتها الخارجية لم تعد في أفضل أحوالها بعد أن تراجع الحماس الخليجي، وقلَّ الدعم الذي تقدمه هذه الدول لأدنى مستوياته، ما يزال العقل الجمعي المصري، بفعل ثقافة الهزيمة التي شكَّلها الاستبداد لسنوات طويلة، لا يرى أن الانتخابات المقبلة قد تشكّل نقطة تحول فارقة في المسار السياسي والانتقال الديمقراطي، ولم يتوافق على أن المشاركة فيها هو الخيار الأكثر أمنًا للبلد، والأضمن لمستقبل أفضل وأكثر عدلًا وحرية.
الاستبداد يحرم الناس من قدرتهم على الحلم، وتصميمهم على الانتصار في معارك المستقبل، هذه حقيقة مؤكدة تثبتها الأيام.
مرة واحدة فقط في تاريخنا الحديث لم تنتصر ثقافة الهزيمة على العقل الجمعي للمصريين؛ في يناير 2011، وقتها صنع المصريون ملحمة خالدة سيحملها التاريخ بين جنباته في أنصع الصفحات، لكن العشر سنوات الأخيرة كانت كافية لأن ينسى الناس ثقافة الانتصار، وأن يعودوا إلى سيرتهم الأولى في الاستسلام بعد عقد من الخوف وحصار الحريات وإقصاء الجميع.
طوال سنوات طويلة لم يؤمن الناس بنزاهة الانتخابات العامة أبدًا، برلمانية أو رئاسية، وكان وعيهم يدرك أن السلطة، أي سلطة، ستفعل ما تريد في النهاية، وتعلن من النتائج ما يوافق هواها ورغبتها.
المشاركة الجادة في انتخابات الرئاسة المقبلة واجب على كل المؤمنين بالدولة المدنية الديمقراطية
هذا التراث لم يتغير حتى هذه اللحظة، وثقافته لا تزال تعيش معنا، رغم أن المناخ السياسي لم يعد كما كان في السابق، ورغم أن الوعي العام تغير بفعل السوشيال ميديا وغيرها من صور التكنولوجيا، فضلًا عن الأفكار الحديثة التي أطلقتها الثورة في المجال العام، وانتشرت بين أجيال تحمل أفكارًا تنحاز بشدة إلى التغيير واللحاق بالعصر. أفكار ترتبط بالحريات العامة وتحترم حقوق الإنسان، وفي القلب من هذه الحريات وتلك الحقوق؛ حق الانتخاب وتداول السلطة عن طريق صناديق الانتخابات.
الانتصار ولو بالحدِّ الأدنى
في حسابات السياسة تبدو الانتخابات الرئاسية المقبلة فارقة في تحديد مسار هذا البلد لسنوات، وفي صنع مستقبل مختلف تمامًا عما مضى، لكنَّ العقل الجمعي وهو يتخلص من ثقافة الهزيمة وآثار الاستسلام بفعل الاستبداد، عليه أن يفكر أن الانتخابات، أي انتخابات، هي مكسب وخسارة، وعليه أن يناضل أولًا من أجل الحصول على ضمانات نزاهتها بدون الارتكان إلى المقولة الشهيرة "مفيش فايدة"، ثم بعد ذلك علينا جميعًا أن ندرك أن المشاركة في الانتخابات لها حدان؛ أقصى وأدنى.
فالحد الأقصى للانتخابات هو التوحد على مرشح واحد جاد يمتلك رؤية وبرنامجًا يُمكنّاه من وضع البلد على مسار جديد، وعلى طريق العدالة والحرية والمساواة، ثم العمل من أجل الفوز في هذه الانتخابات، ولتكن تجارب دول أخرى في العالم ماثلة أمام أعين الجميع وهو يناضل نضالًا سلميًا عن طريق الصندوق.
أما الحد الأدنى من المشاركة، فيكون من أجل بناء تيار سياسي جماهيري يستكمل معركة التحول الديمقراطي، ويناضل من أجل توسيع هوامش الحرية وخلق حياة سياسية حرة وبلا قيود، وليس هناك أفضل من الاستحقاق الانتخابي الرئاسي المنتظر لمحاولة بناء هذه الكتلة الجماهيرية المخلصة و"المسيسة"، التي تقدم للحياة العامة كوادر سياسية جديدة، وتضخ في شرايين المجتمع دماءً شابة.
بهذه الطريقة في التفكير، أي السعي للحصول على الحد الأقصى أو الأدنى، فإنَّ المشاركة الجادة في انتخابات الرئاسة المقبلة تعتبر واجبَ اللحظة على كل المؤمنين بالدولة المدنية الديمقراطية، وبضرورة الخلاص من الاستبداد والحكم الفردي المطلق، والانطلاق نحو الدولة المدنية والعودة إلى أحلام يناير الأولى، في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
المؤكد أن الثقافة التي كوَّنها الاستبداد على مدار سنوات أضرت بشدة بماضي البلد، ولكنَّ المطلوب ألا تستمر هذه الثقافة لتصادر على المستقبل أيضًا، لا سيما أن مصر تعيش اليوم لحظة تاريخية فارقة، أصبح معها التغيير، أو بناء تيار جماهيري جديد، أمرًا فارقًا في مستقبلها الذي نتمناه أفضل كثيرًا مما مضى.