في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، الذي استمر ثلاثين عامًا، كنا نتساءل دائمًا كصحفيين أو منخرطين في العمل السياسي عن الخطوط الحمراء التي يضعها النظام لحرية الرأي والتعبير، وتُعرّض من يجاوزها لمخاطر الحبس والتضييق.
وطيلة سنوات، وحتى ظهور حركة كفاية في 2004، قبل أشهر من تعديل الدستور للسماح بإجراء انتخابات رئاسية أولى، كنا نعتقد أن الخطوط تتمثل في عدم التعرض بإهانة شخصية مباشرة للرئيس وأفراد أسرته، أو اتهامهم بالفساد، خاصة زوجته التي عُرفت بـ"الهانم" بعد أن تنامى نفوذها، وكذلك تناول شؤون المؤسسة العسكرية، وأخيرًا إذكاء الفتنة الطائفية.
ولكني في عام 2006 عندما جئت في زيارة للقاهرة من واشنطن، حيث كنت أعمل مراسلًا صحفيًا، وشاركت للمرة الأولى في مظاهرة أمام مقر أمن الدولة القديم في لاظوغلي، لم أصدق نفسي عندما وجدت الناس يهتفون ونحن نردد وراءهم "يسقط يسقط حسني مبارك"، و"كفاية"؛ الكلمة التي لخصت برمزيتها كل ما كان يسعى له المحتجون.
أدركت مع مشاركتي في تجمعات مماثلة على سلالم نقابة الصحفيين الشهيرة أن خطوطًا حمراء أطيح بها، وأننا انتقلنا لمرحلة مختلفة يقودها جيل جديد من الشباب والحركات المعارضة، بعيدًا عن الأحزاب المحسوبة رسميًا على المعارضة، ولكن قياداتها شاخت وقبلت بعقد الصفقات مع نظام مبارك ولجنة السياسات.
ما بين 2005 و2011 سنوات مليئة بالحيوية والنضال الحقيقي من قبل أحزاب ومجموعات معارضة متنوعة، تراكمت حتى اللحظة التي لم يتوقعها أحد بخروج ملايين المصريين إلى الميادين لا يكتفون بهتاف "كفاية"، بل "ارحل"، ويبهرون العالم بثورتهم السلمية المتحضرة ضد رئيس يسعى إلى توريث الحكم لنجله في انتهاك فج لمبادئ الجمهورية، في بلد يكتسب نظامه شرعيته من إطاحته بالملَكية وتمسكه بخروج المحتل البريطاني.
هذه مقدمة تاريخية لازمة لفهم الخطوات العديدة التي عدناها إلى الوراء في مجال الحريات العامة، بعد عزل نظام مرسي وجماعة الإخوان المسلمين إثر المظاهرات الحاشدة في 2013، ثم تولي الرئيس السيسي منصبه في 2014، حين ضاقت هوامش الحرية واتسعت الخطوط الحمراء، وأصبح ثمن تجاوزها باهظًا.
على رأس الخطوط الحمراء الجديدة تقع إهانة شخص الرئيس باستخدام عبارات السب والقذف الصريحة التي لا يجوز أن أرددها هنا. صحيح أن كثيرين يدفعون ثمن تعبيرهم عن رأيهم ونقدهم لأداء الرئيس وسياساته، ولكن هناك أيضًا من اختار السباب والبذاءات، التي لا أعتقد أنها ممارسة صحية لحرية الرأي والتعبير، يدفع من خلالها من يمارسون العمل العام، نحو توسيع هوامش الحرية والعمل السياسي والسعي للتغيير عبر الانتخابات.
يفسر البعض لدينا حرية الرأي على أنها الحق في أن تقول ما تشاء من دون حساب، قياسًا على ما يجري في دول ديمقراطية لها تاريخ طويل في مجال تداول السلطة عبر الانتخابات وفي وسائل الإعلام، متجاهلين أنه حتى في هذه الدول يوجد من القوانين ما لا يقبل التشهير بالعاملين في مجال السياسة، بكيل اتهامات الفساد أو "الخيانة" و"بيع الأرض والعرض" دون أدلة.
من الخطوط الحمراء في السنوات العشر الماضية تناول الشؤون الداخلية للقوات المسلحة، التي تذهب بالبعض أحيانًا إلى حد التحريض صراحة أو ضمنًا على الانقلاب العسكري
لا يُسجن الناس في تلك الدول الديمقراطية شهورًا وسنوات دون محاكمة إذا ارتكبوا هذه الأفعال، بل ينتهي الأمر على الأكثر بفرض غرامات مالية. كما أن أجهزة الأمن في هذه الديمقراطيات العريقة تُلاحق من يحرضون على العنف والقتل والتخريب، وتترفع عن تعقب من يعبرِّون بلا قيود عن آرائهم على السوشيال ميديا، أو رسامي الكاريكاتير الساخرين مثل الزميل أشرف عمر الذي أمرت النيابة بتجديد حبسه 15 يومًا مطلع هذا الأسبوع للأسف الشديد.
ولكن في مصر، أصبح لدينا من يتنافسون في القدرة على التطاول بأقذع الألفاظ، سعيًا لاكتساب السمعة الشجاعة وتحقيق الانتشار في فقاعة السوشيال ميديا التي نعيش فيها. تمتد جذور هؤلاء إلى تيار انتشر في أعقاب ثورة يناير بين النشطاء من الشباب الأصغر سنًا، أن من حقهم استخدام الألفاظ البذيئة في نقد السياسيين، وبرر أحد الأصدقاء مرة ذلك بأنها الطريقة التي يتحدث بها الناس في الشارع، وعلينا أن نتحدث إليهم مثلما يتحدثون.
ربما تكون حال البعض كذلك للأسف، ولكنَّ المؤكد بالنسبة لي أن هناك دوائر وفئات أخرى من الطبقات المصرية المتوسطة والمحافظة والأكبر سنًا، لا تتحدث هكذا ولا تراه مشروعًا في العمل السياسي والعام. بل على العكس، قد يكون هذا الأسلوب منفرًا لتلك الطبقات والفئات العمرية، ولن ترى في أصحابه إلا شبابًا عديمي اللياقة، إذا استخدمت أكثر التعبيرات دبلوماسية.
ومن الخطوط الحمراء في السنوات العشر الماضية تناول الشؤون الداخلية للقوات المسلحة، التي تذهب بالبعض أحيانًا إلى حد التحريض صراحة أو ضمنًا على الانقلاب العسكري، أو تدخل قيادات الجيش لتغيير أوضاع لا يرضون عنها. وفي ذلك ترويج لنفس الخطاب التحريضي الذي تتبناه جماعة الإخوان وأنصارها مدفوعين برغبة الثأر الشخصي من الرئيس، لا السعي الحقيقي لتحقيق الديمقراطية والتعامل مع المشاكل العويصة التي تواجه ملايين المصريين، وعلى رأسها الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
المشكلة في هذه الحالة أن الأمر هنا لا يتعلق فقط بحرية الرأي والتعبير، بل بتقدير السلوك المسؤول في ظل الظروف الحالية للدولة المصرية، وما تمر به منطقتنا عمومًا من اضطرابات غير مسبوقة وصلت حد تفكك العديد من الدول العزيزة على قلوب المصريين مثل ليبيا والسودان، بجانب الإبادة الجماعية التي تحدث في غزة.
كما أن هذا الخطاب يتجاهل أن قطاعًا لا بأس به من المصريين يصدق التحذيرات الرسمية المتواصلة من خطر تفكك الدولة انهيارها، مثلما يفوت من يدعمون هلاوسه غير المسؤولة أنهم عمليًا يدعمون خيارات مجهولة، وكأننا لم نتعلم شيئًا من دروس 2011 و2013.
من المؤكد أن المشكلة ليست شخصية مع الرئيس، بل مع منظومة متكاملة اعتادت لعقود العمل بعقلية السيطرة الأمنية المطلقة، واعتبار المعارضة تهديدًا لاستقرار الدولة وليس فقط النظام.
نعم، إن دور كل من يخشى على مستقبل مصر تحذير القائمين على الحكم من خطورة سياسات السنوات العشر الماضية، بما تتضمنه من إغلاق للمجال العام وقمع الجميع حتى من يتمسكون بالعمل السلمي في إطار القانون والدستور، لأن ذلك لن يؤدي سوى إلى مزيد من الاحتقان، بل وتهديد استقرار الدولة بمنح المصداقية للمجموعات التي تدعو للعنف والإرهاب.
ولكن مطلوب من بعض المعارضين أيضًا إعادة النظر في الطريقة التي يمارسون بها حرية الرأي والتعبير، وأن يضعوا في اعتبارهم الواقع الذي نعيشه وعقلية النظام الذي نتعامل معه وخطوطه الحمراء. ولست بحاجة للتأكيد أن المطلوب في كل الأحوال هو التعامل مع جميع المواطنين وفق الدستور والقانون، وضمان الحق المحاكمة العادلة والسريعة للجميع، لا السجن الاحتياطي بلا نهاية.