برخصة المشاع الإبداعي: حسام الحملاوي، فليكر
معتصمون ينظفون ميدان التحرير. 16 يوليو 2011

ثورة 25 يناير التي لن تنمحي ذكراها

منشور الثلاثاء 28 يناير 2025

سعي الأجهزة الرسمية الدؤوب لتجاهل ذكرى ثورة 25 يناير، والتركيز على أن هذا اليوم هو عيد الشرطةِ وفقط، أكبر دليل على أن هذه الثورة لا تزال حيةً وفاعلةً، وأنها أسست قواعد جديدة للعلاقة بين الحكام والمحكومين في مصر، أساسها أن لهذا الشعب حقوقًا في مقدمتها محاسبة الحكام، والمطالبة بتغييرهم إذا لم يكونوا على قدر المسؤولية، وحوّلوا مناصبهم إلى فرصٍ لاستباحة المال العام وخدمة مصالحهم فقط.

كما أن وضع المناسبتين على طرفي نقيض؛ إما أن تحتفل بعيد الشرطة أو بذكرى ثورة 25 يناير، هو انعكاس لحالة الخوف والقلق المتجذر لدى الأجهزة المعنية من أي احتمال لتكرار حالة "الشعب ركب يا باشا"، التي انهارت فيها صورة الحاكم الباطش وأجهزته التي يجب أن تأمر فتُطاع، لأنهم وحدهم يعرفون مصلحة الشعب الذي يسهل خداعه وتضليله من قبل العناصر المندسة وأصحاب الأجندات المدعومة من الخارج.

لا أعرف شخصيًا ما الذي يمنع الاحتفال بالمناسبتين معًا. فأي دولة متماسكة تحتاج إلى جهاز شرطة قوي يقوم بدوره في حفظ الأمن والاستقرار، وهو دور ضروري في أي دولة حديثة ومزدهرة اقتصاديًا. كما أن جهاز الشرطة المصري قدم بالفعل العديد من التضحيات على مدى تاريخه، بدايةً من مقاومة الاحتلال الإنجليزي والسعي لطرده من أراضينا، ونهاية بالأثمان الغالية التي دفعها لحماية الوطن من إرهاب الجماعات المتطرفة على مدى العقود الماضية.

يد القمع تُقطع

من مواجهات الشرطة مع المتظاهرين في ثورة يناير

ساءت علاقة الناس وتدهورت مع تلك المؤسسة الوطنية، عندما قرر النظام المخلوع استخدامها أداةً سياسيةً لضمان استقراره ولقمع حريات المواطنين، ولهندسة المشهد السياسي عمومًا، ليصبح جهاز الأمن مسؤولًا عن إدارة ملفات الانتخابات والأحزاب والنقابات والمنظمات غير الحكومية وكل أوجه الحياة العامة، وهو ما يتجاوز بكل تأكيد دوره الأصلي في توفير الأمن والاستقرار للشعب أولًا، وليس للحكام.

وفي الوقت نفسه، فإن الاحتفال بثورة 25 يناير يعني تقدير حيوية هذا الشعب وتمسكه بحقوقه في مواجهة من يحكمونه إذا تجاوزوا الخطوط الحمراء واستباحوا ثرواته، خصوصًا وأن للشعب المصري تاريخًا طويلًا من النضال من أجل المطالبة بهذه الحقوق، على الأقل على مدى تاريخنا المعاصر الممتد منذ أكثر من 200 عام. ومن المؤكد أن الشعب عندما ثار في يناير لم يكن يبدأ من نقطة الصفر، وكان مستعدًا بكل تأكيد للمطالبة بالديمقراطية والعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.

على مدى عقود، عبَّر الشعب عن إصراره على ممارسة حقه في اختيار حكامه، ورَفْض أن يتصرف الحاكم باعتباره مبعوث العناية الإلهية القادم لضبط الرعايا، وقدم في سبيل ذلك الكثير من التضحيات. وكذلك الحال في سعيه الدؤوب لضمان حرية الرأي والتعبير دون خشية من السجن أو بطش الحكام، وذلك منذ زمن محمد علي وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وعبد الله النديم. وفي هذا السياق، فإن ثورة 25 يناير كانت حلقة مهمة من حلقات نضال الشعب المصري الممتد، وليست اختراعًا أو نبتًا شيطانيًا فرضته المؤامرات الأجنبية كما يحلو للأجهزة الرسمية الترويج على مدى السنوات الأخيرة.

من كانوا أطفالًا أثناء ثورة يناير في عز شبابهم اليوم، ولذلك قد لا يعرفون أهمية ذلك الحدث الفاصل في تاريخ الشعب المصري لأنه كسر تقليدًا لا يغادر فيه الحكام مناصبهم في مصر إلا بالوفاة المفاجئة أو الاغتيال. ولا يعرف ذلك الجيل ما معنى أن تعيش ثلاثين عامًا متصلة في عهد نفس الرئيس، الذي كان، رحمه الله، يكره التغيير ويخشاه، وأمضى أول عقدين من فترة حكمه تقريبًا محتفظًا بنفس الوزراء والوجوه.

نفيُ ما شهدناه 

عندما طفت موجة توريث الحكم للأبناء في العالم العربي برمته، بدءًا من محاولة الأسد التي نجحت في سوريا، مرورًا بمساعي صدام والقذافي وعلي عبد الله صالح الفاشلة في العراق وليبيا واليمن، أُعجب بها مبارك وكانت المحاولات حثيثة لتوريث الحكم لنجله جمال، باستخدام كافة أنواع الحجج والمبررات، بداية من إبراز كونه مدنيًا ذا خبرة في مجال البنوك والأعمال، والترويج إلى أن هذا ما تحتاج إليه مصر في مرحلة الإصلاح الاقتصادي، ومرورًا بالتركيز على أنه خريج جامعة أجنبية ويتحدث الإنجليزية، وانتهاءً بأن "عينه شبعانة" لأنه نشأ ابنًا لنائب الرئيس ثم الرئيس. وبالتالي لن يكون نهمًا في نهب المال العام.

حملات التضييق المتزامنة مع ذكرى الثورة في كل عام دليل على أن الأجهزة الأمنية ما زالت خائفة

ووسط حالة الهجوم الشامل على ثورة 25 يناير، وكل ما كانت تمثله من طموح واسع لتغيير حقيقي في مصر يُنشئ جمهورية جديدة بالفعل، مؤسسة على قواعد احترام حقوق الشعب في تداول السلطة وإجراء انتخابات نزيهة والرقابة على المال العام وطرق إنفاقه، بدأنا نقرأ تصريحات لرموز النظام السابق ينفون وجود مشروع توريث من الأساس، رغم أنهم كانوا شخصيًا في مقدمة المتورطين في مساعي تنفيذه، من خلال لجنة سياسات الحزب الوطني التي أنشأها جمال في سياق سعيه لتهميش قيادات الحزب المخضرمة التي تقدمت في السن.

بل إن الأمر كان مطروحًا للنقاش العام في كل الأوساط السياسية لدرجة أن قادة جماعة الإخوان صرحوا بعدم رفضهم أن يتولى الوريث الحكم، سعيًا ربما لمنحهم صفة الشرعية والسماح لهم بخوض الانتخابات في ظل حزب سياسي بدلًا من العمل دائمًا عبر الصفقات مع جهاز أمن الدولة السابق، لتحديد عدد المقاعد التي يحصلون عليها في كل انتخابات.

عندما كنت مراسلًا صحفيًا في واشنطن خلال السنوات الأخيرة لحكم مبارك، ظللت أتابع كم الاهتمام الذي تحظى به زيارات الابن للعاصمة الأمريكية، وكيف يتعاملون معه باعتباره وريث الرجل الذي تقدَّم به العمر وازدادت عزلته، ولم يعد قادرًا على إدارة شؤون البلاد. وكان المحيطون بمبارك في آخر سنوات حكمه لا يترددون في القول إن الراجل الكبير "زهق" وسايب الملفات لجمال. ولو لم يكن جمال هو الوريث المحتمل، لما دأبت السفارة المصرية في واشنطن على ترتيب جدول لقاءاته مع المسؤولين في البيت الأبيض والكونجرس.

هذه حقائق من الواجب تسجيلها وتذكرها ونحن نحتفل بالذكرى الرابعة عشرة لهذه الثورة العظيمة، التي شارك فيها ملايين المصريين في كل أرجاء وطنهم، ولم تقتصر على العاصمة القاهرة وميدان التحرير. ومهما بلغت محاولات تشويه تلك الثورة الشعبية وتجاهل ذكراها، فإن ما حفرته لنفسها في التاريخ لا يمكن طمسه، بل إنها قدمت نموذجًا ملهمًا لشعوب أخرى تبارت في إطلاق اسم "ميدان التحرير" على أماكن تظاهرها واحتجاجها.

أما حملات التضييق والقبض التي تسبق ذكرى الثورة في كل عام، فليست أكثر من دليل إضافي على حيوية هذه الثورة، وعلى أنها لا تزال تثير مخاوف الأجهزة الأمنية المعنية بعد كل هذه السنوات بما شهدته من تغيرات عديدة.

ستبقى هذه الثورة العظيمة نبراسًا ونقطة مرجعية في النضال المتواصل للشعب المصري، المتمسك بحقه في اختيار ومحاسبة حكامه رغم كل المصاعب والمساعي الحثيثة لمصادرة المجال العام، ومنع أي نشاط حقيقي للأحزاب السياسية، والتضييق على وسائل الإعلام والنقابات والمنظمات غير الحكومية.

فعلها الشعب المصري من قبل، ولن يصادر عليه أحد، حتى من يحاولون محو ذكرى ثورته.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.