مؤخرًا كنت أفكر كثيرًا في كيفية تشكيل الثورة لي. إلى أي مدى أثرت ثورة يناير في تكوين شخصيتي ووعيي بنفسي وبالتغيرات الإجتماعية والسياسية في مصر.
أعتقد أن البداية كانت في يونيو 2010، حين قام قريب لي بمشاركة صفحة "كلنا خالد سعيد" عبر فيسبوك. كنت وقتها في الثالثة عشر من عمري، ودفعني الفضول الشديد إلى الدخول للصفحة لأعرف من هو خالد سعيد هذا الذي أصبح الجميع يرون فيه أنفسهم.
على الصفحة رأيت شابًا في العشرينيات من عمره مشوه الوجه من التعذيب، انقبض قلبي ولم أتمالك نفسي من البكاء. تخيلته واحدًا من أصدقائي أو أقاربي، فقد كان صغيرًا في مثل عمرهم. علمت أنه تعرض لهذا التشويه على يد الشرطة، وأنه قُتل بدون أي وجه حق. أذكر أنني قرأت حينها أن من أعطى القتلة الحق شئ يدعى "قانون الطوارئ".
من هنا بدأت أبحث، رأيت الكثير من الفيديوهات لأناس يُعذَّبون ويُضرَبون ويهانون: فتاة معلقة بطريقة ما على كرسي خشبي ويتم استجوابها بطريقة وحشية، مواطن يتم صفعه من قبل ظابط شرطة بشكل وحشي، كما رأيت فيديو "عماد الكبير".
بدأت أبحث وأبحث. قرأت عن قطار الصعيد، عبارة السلام، وحريق مسرح بني سويف. كنت أجيد فهم كل هذا حتى لو بشكل بسيط. كل هذا أوجد بداخلي كراهية لكل من كان له يد في الأمر.
وبدأت اهتماماتي تتجه نحو مسار ليس من المعتاد أن تتبعه طفلة لم تتجاوز 13 عامًا من العمر، فكنت أتابع أحوال البلاد، وأخبار الفساد الذي يحيط بنا. كنت أتابع ما وصلت إليه قضية "خالد سعيد" بكل شغف، وكنت أحدث أسرتي عنه دائمًا وعن ما يحدث على مواقع التواصل الإجتماعي.
25 يناير
قرأت دعوات التظاهر ليوم الخامس والعشرين من يناير، والتي كان أصحابها ينددون بكل مايحدث في البلد. رأيت فيديو أسماء محفوظ وهي تدعو الجميع للنزول والتظاهر، ورأيت صور كثير من الشباب ممسكين بورق مكتوب عليه أنهم مؤيدون للثورة والتظاهر للحصول على "حقوقنا المشروعة". كنت متحمسة، أمي قالت لي: "لن يحدث شيء" ولكني كنت أشعر بأمل ما. شعرت أن هناك شيئًا يحدث، ربما هو أكبر من قدرتي وقتها على الإدراك، ولكني تحمست من كل قلبي.
كنت أتابع التلفاز ومواقع التواصل الإجتماعي وأتابع تطورات الأحداث بكل حماس. حدث وراء حدث، إنفجرت شرارة الثورة. رأيت اعتصام الملايين في الميادين مطالبين برحيل مبارك، مطالبين بحقهم في الحياة وفي الـ" عيش .. حرية .. عداله إجتماعية".
وتوالت الأيام والأحداث من رحيل مبارك إلى تولي المجلس العسكري لشئون البلاد، اشتباكات محمد محمود ومجلس الوزراء وأحداث العباسية، ثم الإنتخابات الرئاسية الأولى التي تتم ف مصر لأول مره بشكل ديموقراطي، ووصول الإخوان للحكم ثم فشلهم فيه، أحداث 30 يونيو، وفض ميداني رابعة والنهضه وما تبع ذلك من أحداث.
مع كل حدث وكل يوم في الثورة، كانت شخصيتي تُبنى وتتشكل كما تشكل اليد قطعة من الطين. اختلطت بأصحاب جميع الأفكار والأيدولوجيات: ثوار ، إخوان، "حزب الكنبة"، 6 ابريل والاشتراكيين الثوريين... كل مجموعة من هؤلاء كان لها أثرها منذ بدأت في النزول للشارع والهتاف وسط حشد المتظاهرين.
أتذكر شعوري في تلك المظاهرات، إحساس أني جزء من شئ أكبر، من حركة تغيير أكبر، أذكر جيدًا شعوري بالأمل والحماس.
الحب تحت مظلة الثورة
وعندما حان الوقت لأخوض تجربة الحب، لم تتركني الثوره وتوابعها، فقد تم إعتقاله.
ربما لا يمكنني الكتابة عن الملابسات. المهم أني أتذكر جيدًا ما تعلمته: كنت في السابعة عشر حينها، وفي هذا العمر تعلمت الدخول إلى النيابات والمحاكم وأقسام الشرطة. رأيت وعشت ما لم يكن واجبًا أن أعيشه في هذا السن. تعلمت دفع الرشوة حتى يتم السماح لي بالدخول إليه ورؤيته. وامتلأ هاتفي بأرقام المساجين الجنائيين المسموح لهم بامتلاك هواتف محمولة داخل أماكن الاحتجاز على عكس السياسيين الذين يتعرضون للتفتيش الدائم.
تعلمت كيف أُهرِّب ما يحتاجه حبيبي كي ينجو في الداخل. عرفت كل أمين شرطة في السجن. وكنت أعرف أشخاصًا في كل سجن، طرة والعقرب ووادي النطرون والكيلو 10 ونص. كان هذا ضروريًا لأستطيع التواصل مع حبيبي وأصدقائي الذين تم القبض عليهم.
في جوابات حبيبي، لم يخبرني بحبه لي ولم يخبرني كيف أن العالم يبدو أجمل وأكثر اشراقًا كما يكتب الأحبة للفتيات الأخريات، بل أذكر أنه أرسل في يوم جوابًا من داخل محبسه يقول فيه: "أحلى لحظات حياتنا هي أوقات النيابة. لما يبقى عندنا نيابة بستنى وقت طلوعي من الزنزانة وخروجي من القسم عشان أركب عربية الترحيلات. صحيح ببقى متكلبش وبتبقى دقيقة، بس هي دي الدقيقة اللي بشوف الشمس فيها وبحس بدفا الشمس على جلدي وبشم فيها الهوا الجديد. بتبقى لحظه ممتعة جدًا ميحسش بيها غير المحبوس".
انكسر قلبي أكثر مما أستطيع أن أعد، علي حبيبي وعلى أصدقائي المعتقلين. ولم يفارقني إحساس العجز.
ربما كان من المتوقع أن أخاف، أن أصمت ولا اتكلم عن حقوقي مرة أخرى، حتى لا تكون من أحلى لحظات حياتي هي خروجي من الزنزانه إلى عربة الترحيلات. حتى لا أُسجن مثل الكثيرين من حولي، الجدير بالذكر أنهم كانوا في مثل سني وأحيانًا أكبر بقليل، ولم أخف بل زادني هذا تمسكًا بالقضية وإيمانًا بالثورة.
لم أكن في هذا استثناءً بين من هم في سني، فهنالك كثيرين مثلي، ليسوا آسفين على ما مروا به وما فعلوه. حينما سألت صديق لي عن الثورة وعن موقفه منها حينها وما تعنيه لهٌ قال : "نحن جيل صنعته الثورة على عينها. كنت حينها في الصف الثالث الإعدادي، ألححت على أستاذي في الصفّ المدرسيّ الذي كان يعيرني الكتب منذ طفولتي الأولى كي يأخذني معه. كنت لا أعرف عن الثورة إلا اسمها ومن الميدانِ إلا شكله، ولكنني كنت ألمس القبح في كل شيء، وكنت أعرف أن هناك شيئاً خاطئًا، وأن التغيير آت لا مفرّ ولا بدّ من أن أكون جزءاً منه. ذهبت، واعتصمت، وانتصرت، ثم تركت هناك مع من تركوا ما تبقى منا... تركنا شيئًا من روحنا. لسنا مضطرين لأن نرسل باقات اعتذار لشهداء قاسمناهم الفرحة والخبز والجرح والغاز والطلقات، فقد ماتوا مثل ما مات منا، وما خسرناه على الطريق الدموي. لن نعتذر عن الحلم لكنا سنعتذر عن هشاشة الجسد البشري أمام الطلقات الوطنية".
ثم تحول إهتمامي بالثورة وأحداثها وتوابعها من مجرد إهتمام إلى طريق اخترته لنفسي ولحياتي، فقد اخترت أن أعمل بالمجال الحقوقي، أن استمر في رفض الظلم والفساد. من الممكن أن نقر بفشل ما فعلناه سابقًا في الثورة لكن هذا لا يعني بالضرورة فشل الثورة ككل، فما زالت الثورة بداخلنا: في عقولنا وفي وعينا وفي قلوبنا. قتلوا أصدقائنا في مختلف الميادين والأحداث والإشتباكات، لكنهم لم يستطيعوا بعد قتل الأمل والإيمان بالثورة داخلنا.
ربت الثورة جيلًا يعلم أن له حقوقًا يطالب بها، ويعلم أنه يجب ألا يصمت على حقه. وعاجلًا أم آجلًا سوف يأخذ هذا الحق المسلوب.
"ولساها ثورة يناير ".