في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، كان الصحفي محمد الجارحي في قرية الشبراوين بمحافظة الشرقية، مسقط رأسه، وسط جموع تحتفل بافتتاح حلمه؛ مركز طبي سيتطور فيما بعد إلى مستشفى خيري يحمل الإسم الملحمي "25 يناير".
قبل عامين من يوم الافتتاح، تحديدًا في 11 نوفمبر 2009، كان الجارحي يحتفل بقدوم أحمد، مولوده الذي عرف به ﻷول مرّة مشاعر الأبوة وكذلك آلامها عندما رحل في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2011.
رحل الصغير وأنهى صراعه مع المرض ومعاناة والده في التنقل بين المستشفيات لضمان رعاية طبية له، "كانت عسيرة في كثير من الأحيان". وبرحيله فقد الرجل ابنًا، عوّضه القدر عنه بـ"ابن آخر" هو مستشفى 25 يناير، التي يقترب موعد افتتاحها خلال العام القادم 2020، وفقًا لما أعلنه للمنصّة، محمد الجارحي.
محنة ومنحة
في 25 أكتوبر، وحين كان الجارحي متجهًا من المستشفى التي يرقد طفله في عنايتها المركزة إلى البنك، للانتهاء من إجراء طال انتظاره شهور يتعلق بجمعية يترأس مجلس إدارتها وتحمل اسم "شباب 25 يناير"، تلقى اتصالًا من زوجته، لم يزد عن ثلاث كلمات "أحمد مات يا محمد".
يصف الأب تلك اللحظة التي ودّع فيها صغيره "كانت لحظة صعبة قوي، كان نفسي أكون جنبه، كان عندما يتألم أبكي لأني عاجز أعمل له حاجة، كان نفسي يعيش، بس ربنا رحمته كبيرة ﻷنه كان تعبان جدًا".
كان الأب في حداده حين بدأت بشائر الإنجاز في الظهور "أراد ربنا إني في عز محنتي وفي فترة العزاء، إني أجري علشان نفتتح المركز الطبي، وكان الافتتاح يوم 11 نوفمبر 2011، نفس يوم ميلاد أحمد".
ومنذ ذلك اليوم، صار الجارحي ممتنًا لمنحة عوضته عن المحنة "بقى الحلم ده، المركز الطبي اللي أصبح مستشفى 25 يناير، هو ضنايا وابني، وربنا أراد من الألم يكون فيه أمل، يتولد حلم حياتي. مستشفى 25 يناير اللي الحمد لله بيتحقق النهارده".
استغرق الحلم رحلة مضنية لتحقيقه، يتذكرها الآن وهو يدنو من افتتاح المستشفى "إحساسي شبه الوصول للشاطئ بعد مصارعة الأمواج، في رحلة شاقة وجو ملبد بالغيوم مليئ بالعواصف. أكيد فخور بما حدث، وممتن لكل من وضعوا ثقتهم في وصدقوني ودعموني عندما كان الحلم مجرد فكرة. أنا سعيد جدًا الآن".
سعادة الجارحي الحالية تستدعي سعادة أخرى انتابته قبل أعوام وهو في الشبراوين عقب "لحظة التغيير" التي يصفها أيضًا بـ"الحدث الفارق" في حياته، ثورة 25 يناير، التي يتذكرها بقوله "بعد التنحي بأسبوع أقمنا مؤتمرًا هناك، وأعلنت فيه أننا كشباب يناير لدينا خطة، منها إنشاء جمعية وبناء مركز طبي".
لكن يناير لم تكن وحدها التي غيّرت حياة الجارحي، فوفاة الطفل كانت نقطة تحول أخرى "بعدها بأسبوعين افتتحنا مركزًا طبيًا بسيطًا، ومن وقتها قررت أسخّر حياتي للحلم ده، المركز الطبي اللي اتحول بعدها لمستشفى".
اختيارات محسوبة
على الرغم من حقيقة أن الجارحي واجه صعوبات خلال رحلة علاج ابنه تتعلق بالأماكن المتاحة في المستشفيات، إلاّ أنها لم تكن دافعه لاختيار المستشفى كحلم، خاصة وأن للجمعية أنشطة أخرى "كنا نقوم بأنشطة كثيرة في نطاق القرية، مثل كفالة اليتيم والمساعدات المالية والمواد التموينية الشهرية ومائدة الرحمن وتكريم المتفوقين وتجهيز اليتيمات، والمساعدات العلاجية".
لكن من بين جميع هذه الأنشطة، بقيت المستشفى "الحلم الأكبر" وفقًا لوصف الجارحي، وذلك لأنها "بتخدم شريحة أكبر وبالمجان، دي أولوية ﻷنها متعلقة بالصحة، أي إنسان ممكن يتحمل الجوع والعطش والمسكن غير الجيد، لكن لا أحد يتحمل الألم والوجع، واحنا بنركز على مشكلة أساسية هي حضّانات الأطفال، عندنا نقص حاد فيها".
في أكتوبر 2018، كشف مستشار وزير الصحة أن نسبة النقص في عدد حضّانات الأطفال الموجودة في مصر بلغ 25%، وهي النسبة نفسها الخاصة بنقص أجهزة التنفس، مشيرًا إلى أن تكلفة تجهيز حضّانة مكتملة بأجهزة التنفس تبلغ 500 ألف جنيه.
وكما كان اختيار المستشفى محسوبًا، جاء اختيار مكان إقامتها أيضًا بعد حسابات دقيقة، فبجانب كونها مسقط رأس الجارحي، وعلى أرضها ولدت الفكرة، إلا أن للصحفي أسبابه المنطقية لاختيار الشبراوين "عدد سكان الشرقية يقارب 8 ملايين نسمة، والمستشفيات مكتظة بالمرضي، والعيادات والمراكز الصحية أصبحت لا تستطيع توفير الرعاية الصحية بسبب الزيادة السكانية".
يضيف "عدد الأطباء لكل ألف مواطن في الشرقية هو 5.2 طبيب في حين أن المعدل على مستوى الجمهورية هو 28.3، وهناك عجز في تخصصات التخدير والجراحة العامة والقلب".
الاختيارات المحسوبة كان لمجلس أمناء مؤسسة يناير نصيب منها، وذلك بعد سنوات تطور بدءً من ظهور فكرة المستشفى عام 2011، حين كان الكيان القانوني وقتها هو "جمعية أهلية"، وصولًا إلى 2018 "حين آلت الجمعية وأموالها لمؤسسة مستشفى 25 يناير، وتتبع المؤسسة مركزيًا وزارة التضامن"، وفقًا لما يوضحه الجارحي، رئيس مجلس الأمناء الذي يضم حاليًا في عضويته "الدكتور علي عيسوي، الأستاذ في مودرن أكاديمي للهندسة، والمستشارة السابقة لوزير الصحة، نشوى حافظ".
عراقيل البدايات
العمل وفقًا لخطط وحساب الاختيارات لا يمنع وجود عراقيل على مستويات عديدة، واجهت محمد الجارحي في رحلته، ويحكيها الآن "واجهنا مصاعب كتير، أهمها توفير أرض للمستشفى، حاولنا في البداية الحصول على أرض غير مستغلة تخص الجمعية الزراعية لكن فشلنا؛ واضطررنا لشراء الأرض من فلوس التبرعات".
عن هذه المرحلة يقول الجارحي "أصعب شيء إنك تحاول تقنع حد بالتبرع لحاجة مش موجودة على أرض الواقع.. الناس لم تكن تعرفنا، نحن لا نعلن في التليفزيون، واعتمادنا كان على السوشيال ميديا فقط".
لكن صاحب الحلم استطاع التغلب على هذا الأمر "الحل كان الشفافية مع الناس، إنك تعتبر المتبرع شريكك في كل التفاصيل. ودائمًا ما أنشر إيصالات التبرع والميزانية على الموقع الإلكتروني. وفي 2018 عملنا دعاية بسيطة غير مُكلّفة على أتوبيسات النقل العام وداخل مترو الأنفاق، وتسببت في تعريف الناس بالمستشفى، خاصة في القاهرة التي يأتي منها 90% من التبرعات تقريبًا".
واجه الرجل صعوبات أخرى تتعلق بفتح الحسابات، لكنه حلّها تباعًا حتى وصل لهذه المرحلة "الحمد لله، بدأنا بحساب في بنك واحد، والآن لدينا حسابات في 18 بنك للصدقة الجارية، و5 بنوك للزكاة، بالجنيه المصري وبالدولار".
ثاني العراقيل كانت الموافقة على تعلية المستشفى، التي تفاقمت حد لجوء الجارحي لإجراء احتجاجي "رئاسة الجمهورية تدخلت لحلها بعدما أعلنت إضرابي عن الطعام".
لم تتوقف المشكلات على الأرض أو تعلية المستشفى، فمع كل خطوة على الطريق، كانت مشكلات جديدة تظهر "ثالث مشكلة كانت مستحقات المقاولين في الوقت الذي لا تتوفر فيه تبرعات كافية، ولجأت إلى السوشيال ميديا لسداد المستحقات، ولم يخذلني المتبرعون. وهناك مشاكل أخرى متعلقة بمحاولة البعض التشكيك في المشروع والمزايدة، لكن أقوى رد هو النجاح الذي نحققه على أرض الواقع".
سر النجاح
النجاح الذي حققه الجارحي بشهادة مَن يزورونها له عوامل، أبرزها إيمان الجارحي بحلمه وما بذله من مجهودات، سواء بتسخير حساباته على فيسبوك وتويتر لخدمة المشروع، أو على الأرض باللجوء لـ"تاكسي الخير" الذي يرد له الفضل الآن، ويصفه بأنه "أحد أسباب تحقيق الحلم".
يستعيد الجارحي تجربته، ويقول "كل أسبوع كنت بنزل يوم إجازتي أروح منطقة مختلفة. أعلن عنها مع رقم هاتفي الخاص، وأتلقى اتصالات المتبرعين، أو بذهب لهم في أماكنهم أو أنتظرهم في مكان عام، ومعي دفتر إيصالات تبرعات معتمد من التضامن الاجتماعي. وكان يرافقني في هذه الجولات أصدقاء صحفيين وإعلاميين وفنانين".
يمتن الجارحي للتاكسي، كما يمتن لأصدقاء عاونوه في مشواره "أعضاء الجمعية المتطوعين معايا من أول يوم، وعلى رأسهم أستاذي سامح طلعت. وكل شخص كان بيعمل ريتويت أو شير عن المستشفى، وكل متبرع. رجل الأعمال نجيب ساويرس، وشركات كوكاكولا والسويدي وبيت الخبرة الهندسي، ومؤسسة مصر الخير ومستشفى57357، والإعلامي شريف عامر، وكل اللي كتبوا ودعمونا في برامجهم. أسماء كتير أكيد أنا ناسي منهم، كلهم وقفوا في ضهرنا، ونفسي أشكرهم فردًا فردًا".
إحباطات الطريق
لم يكن الطريق ممهدًا، لم تقتصر عراقيله على ما واجهه الجارحي في البدايات، فالإحباطات واجهته في لحظات أخرى، ولم تكن تتعلق باللوجيستيات، بل أيضًا باختياره "25 يناير"، بما يحمله الاسم من رمزية ودلالة.
يقول صاحب الحلم "بالتأكيد حدثت مضايقات، وصلت أحيانًا حد السب والقذف، وبعض الناس عرضوا علينا تغيير اسم المستشفى، لكننا رفضنا لأنه لا يوجد داع لذلك، ولأن اسم المستشفى ليس سبة بل شرف وفخر لنا. وكتبت في وصيتي ألا يتم تغييره مهما حدث".
ظهرت مشكلة أخرى على الطريق، تمثّلت في قرار تحرير سعر الصرف عام 2016، والذي كان له أثرًا واضحًا على المشروع تمثل في ارتفاع التكاليف من 30 إلى 70 مليون جنيه، وفقًا لما يذكره الجارحي "كانت سنة كبيسة جدًا بالنسبة لنا، أجبرتنا على إنهاء التعاقد مع أحد المقاولين لأن التكلفة تضاعفت 3 مرات. وكل التبرعات التي كانت لدينا حينها فقدت ثلثين قيمتها، وهو أمر صعب. إضافة إلى أن الضغوط الاقتصادية وارتفاع الأسعار تسببا في ضعف التبرعات".
وكما تغلب الصحفي على جدل "يناير" ورمزيته، تغلّب أيضًا على أزمة التعويم "فكرت في حلول كثيرة، منها إطلاق كول سنتر، ويعمل فيه حاليا 13 موظفًا. أصبح لدينا شبكة من المحصلين في القاهرة الكبرى والإسكندرية والشرقية. وشكّلنا إدارة للإعلام تتولى التعريف بتطورات المشروع من خلال فيديوهات ننتجها بأنفسنا، لأن إنتاجها في الخارج مكلف جدًا".
إحباط يناير وعقبة التعويم أمور تتعلق بالمجال العام، لكن كان للرجل أيضًا إحباطات على المستوى الشخصي "أنا بشر في النهاية، وعلى المستوى الشخصى تعرضت للحظات يأس نتيجة فقدان عملي في فترة من الفترات، لكنني صبرت وتجاوزت تلك المحنة".
زالت المحنة الشخصية، لكن ظهرت مشكلة أخرى متعلقة بالمستشفى، تمثلت تأخر الافتتاح الذي كان مقررًا له النصف الثاني من عام 2019، والذي يدنو الآن من نهايته، دون تحقيق ذلك.
يردّ الجارحي سبب التأخير إلى "عدم التزام بعض المقاولين بالمواعيد"، بجانب مشكلة تتعلق بـ"إجراءات وتصاريح متعلقة بالدفاع المدني ومحول الكهرباء"، متوقعًا الانتهاء منها قريبًا. "التأخير خارج عن إرادتنا، لكن للأمانة هناك تعاون. وبمجرد انتهاء التصاريح والتراخيص سنعلن عن الافتتاح. أنا أكتر واحد في الكون نفسي افتتح المستشفى".
خطط مستقبلية
على الرغم من كونها في طور الإنشاء، إلاّ أن الجارحي وضع بعض الخطط للمستشفى بالفعل، ومنها ما يتعلق بالتشغيل "المرحلة الأولى ستشمل العيادات الخارجية وحضّانات الأطفال والأشعة والتحاليل والاستقبال. والمرحلة الثانية لا ينقصها إلا أجهزة الجراحات والرعاية المركزة والطوارئ والإقامة، لأن البنية التحتية للمستشفى والتشطيبات كلها اكتملت".
تشغيل المستشفى سيكون عن طريق أطباء، سيعتمد الجارحي في اختيارهم على عامل واحد "سيتم الإعلان عن الوظائف المتاحة عبر موقعنا الإلكتروني الذي اقتربنا من الانتهاء منه أيضًا، وذلك لتعزيز الشفافية وعدم وجود وساطة أو محسوبية في التوظيف، فالمعيار الوحيد هو الكفاءة والخبرة".
وعلى المستوى المادي، اﻷمر محسوب أيضًا لدى الجارحي "رواتب العاملين سيتم توفيرها من التبرعات، وسنعلن عن برامج كفالة خاصة بها وبالتشغيل الذي خصصنا له ميزانية، ولنا وديعة بنكية بها مخصصة لهما وللصيانة والتجهيزات. وفي النهاية، هدفنا الأسمى هو توفير العلاج بالمجان للمواطنين في مكان آدمي يحترم حقوقهم ويعاملهم بكرامة".
حلم "25 يناير" لا يتوقف عند الافتتاح والتشغيل، فما يزال لدى الجارحي خطط لمنح حلمه المزيد من المساحات "الشهر الماضي وقّعنا عقود مساحة أكثر 500 مترًا بجوار المستشفى، جزء كبير منها تبرع، وقد تزيد المساحة قريبًا لوجود متبرع جديد. والخطة الآن هي التوسع في المستشفى، بالتوازي مع الحلم الثاني ببناء مدرسة ومصنع بالاسم نفسه، 25 يناير، لنكون أكملنا ثالوث الصحة والتعليم والتشغيل، وهي أكبر تحديات تواجه الوطن".