لم يكن خبرًا جيدًا القبض على أكثر من 70 شخصًا، استباقًا لدعوات انتشرت على السوشيال ميديا للتظاهر يوم الجمعة 12 يوليو/تموز الحالي تحت عنوان "ثورة الكرامة"، وحبسهم بالتهم التقليدية من مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها، ونشر الأخبار الكاذبة، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. لكنه أيضًا لم يكن خبرًا مفاجئًا.
فمنذ أن وجّه المقاول والممثل محمد علي دعوته الشهيرة للتظاهر من منفاه الاختياري في سبتمبر/أيلول 2019، التي لاقت استجابة مفاجئة وغامضة، تتكرر دعوات مشابهة لـ"ثورات" مختلفة في تواريخ محددة، تكون أحيانًا رنانة يسهل حفظها مثل 11/11، أو متزامنة مع ذكرى حدث فاصل ما.
بالطبع باءت كل تلك المحاولات بالفشل ولم يتظاهر أحد في تلك المواعيد، إما لعدم الاقتناع بدعوات للتظاهر في تاريخ رنان تطلقها جهات مجهولة، أو خوفًا من القبضة الأمنية الباطشة التي تلقي بضحاياها في دوامة الحبس اللانهائية، أو حتى تصديقًا لمبررات الحكومة بأن ما يحدث أسبابه خارج إرادتنا من الجائحة إلى حرب الإبادة في غزة، وبينهما الحرب الأوكرانية، وأن تماسك الوطن وأمنه القومي مهددان في محيط إقليمي مشتعل. ولكن رغم الفشل المتكرر لجميع هذه الدعوات، لم تكف الأجهزة الأمنية أبدًا عن حملاتها الاستباقية بالقبض على المئات، من باب الحيطة والحذر.
الطقس وأشياء أخرى
ربما كان القائمون على دعوة "الثورة" الأخيرة هذه سيغيرون رأيهم، لو أنهم فقط راجعوا النشرة الجوية. في يوم 12 يوليو، بلغت الموجة الحارة التي نعيشها بشكل دائم تقريبًا منذ شهر ونصف الشهر إحدى ذُراها، حيث وصلت درجة الحرارة إلى 42 في القاهرة. طبعًا لن يثور أحدٌ في هذا القيظ، حتى لو اختفت الكهرباء من المنازل وبلغ الغلاء مداه.
نظرة إلى الخلف في تاريخنا، ستجعلنا نلاحظ أننا شعب يفضل التعبير عن غضبه في الشتاء، على حد تعبير أحد الأصدقاء، كما حدث في يناير 2011 وقبله يناير 1977، أو حتى في ثورة 1919 التي اندلعت في مارس/آذار.
ربما كان مجديًا أكثر بالنسبة للقائمين على هذه الدعوة، أن يبذلوا الجهد لمعرفة حقيقة ما يشغل بال المصريين ويثير الجدل بينهم هذه الأيام، خصوصًا مع خبرتهم الواضحة في استخدام حملات الترويج والهاشتاجات على السوشيال ميديا.
تبقى استجابة الحكومة لبعض مطالب المصريين أسهل وأقل تكلفة في القضايا الاجتماعية والرياضية
تحولت السوشيال ميديا إلى مصدر معلومات رئيسي يهدد حتى وسائل الإعلام التقليدية، وترنداتها ليست سرية. ولو أن الداعين إلى "ثورة الكرامة" أجروا مراجعة سريعة لها، وللسياق العام، كانوا سيدركون سريعًا أن المزاج العام للمصريين في هذه اللحظة ليس ثوريًا، وإن غلب عليه غضب وإرهاق من موجات الغلاء المتتالية وانقطاع الكهرباء.
كما كانوا سيكتشفون بسهولة من الترندات ونسب المشاهدات، أن أهم المواضيع التي يتقاتل ويتناحر ويتخاصم قطاع واسع من المصريين بشأنها هذه الأيام هي الفيديو المُسرَّب للبلوجر هدير عبد الرازق، الذي حشد ضدها المحافظين وحماة الأخلاق، واستبعاد شهد سعيد لاعبة منتخب مصر للدراجات من المشاركة الأولمبية بعد تعمدها إسقاط إحدى المنافسات، والوفاة المؤسفة للاعب كرة القدم أحمد رفعت، وأخيرًا أزمة شهادات وزير التعليم الجديد. بالإضافة طبعًا إلى التفاعل مع ما يحدث في غزة، وإن بات هذا الأمر مقتصرًا على الحسبنة والحوقلة والدعاء إلى الله لينتقم من الأعداء.
متى يستجيبون؟
بينما يبدو تأثير السوشيال ميديا محدودًا في دفع الحكومة للاستجابة لمطالب عامة شديدة الأهمية مثل تخفيف الغلاء وتحسين أوضاع التعليم والصحة ومراجعة أولويات الإنفاق والمطالبة بالمزيد من الحريات العامة، تبدو درجة الاستجابة أكبر في الترندات الاجتماعية الساخنة مثل الفيديو المسرب وأزمتي استبعاد شهد ووفاة رفعت، إذ اتخذت إجراءات يبدو من خلالها أن هناك من يستمع ويتفاعل مع رغبات المواطنين.
قد تدفع أحيانًا تقديرات الحكومة والأجهزة المعنية بازدياد حالة الغضب من إجراءات معينة مثل الغلاء والكهرباء، إلى مراجعة بعض القرارات أو تأجيل اتخاذ المزيد منها إلى حين. ولكن تبقى الاستجابة أسهل دائمًا وأقل تكلفة بالطبع في القضايا الاجتماعية والرياضية.
طبعًا في القضايا الأكثر أهمية، مثل مراجعة أولويات الإنفاق أو أزمة وزير التعليم الذي كان أحد مؤهلاته التي قُدِّمت لنا كمصريين في سيرته الذاتية أنه سافر في صباه إلى الولايات المتحدة حيث عمِل بائعَ صحف، وأنه يجيد الإنجليزية، وكأن التعليم سيتطور عندما يتحدث الوزير عن الـinnovation بدلًا من التجديد والـintegration بدلًا من التكامل، في مواجهة الـlots of challenges، أي الكثير من التحديات، فإن غضب المصريين يذهب أدراج الرياح دون أن يستجيب له أحد.
لا يتعلم أحد من دروس الماضي القريب. تفشل دعوات التظاهر دائمًا ولكن من يطلقونها لا يملون تكرارها رغم ما تسببه من ضرر، بحملات القبض والاعتقال التي تشنها الأجهزة المعنية. والأهم من ذلك، هو الفشل في تقدير وقراءة ما يشغل المصريين بالفعل، ومدى دعمهم المتوقع لدعوات مريبة لـ"الثورة" وفقط، ومن قِبل أطراف مجهولة بالنسبة لهم، دون أهداف أو بدائل محددة سوى التعبير عن الغضب والسخط.
هذا التكتيك الذي تدعمه غالبًا جماعة الإخوان من خارج مصر أثبت فشله المتكرر، ولم يؤدِّ إلا إلى تشديد القبضة الأمنية والتقليل من فرص الإصلاح السياسي المحدود، بزعم أن الدعوات لإثارة الفوضى والاضطرابات لا تتوقف.
وفي انتظاركم في الثورة القادمة وموعدها يوم 13/13.