قبل الثاني من سبتمبر/ أيلول الماضي كان محمد علي اسمًا بالكاد يعرفه أحد، وإن تذكّر البعض وجهه، في دور جيد لضابط شرطة في مسلسل طايع، أو كبطل ومنتج لفيلم البر التاني الذي لم يحظ بشعبية تذكر، رغم الضجة الكبيرة التي أثيرت حول الفيلم وكيفية دخوله المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة.
اليوم، وبعد شهرين فقط من هذا التاريخ، أصبح محمد علي نجمًا تتسابق أهم وسائل الإعلام الدولية لتُجري معه حوارات مصورة ومكتوبة. ولما لا وقد أثار الرجل زوبعة، بإطلاقه لمجموعة من الفيديوهات على فيسبوك أسفرت، فقط من ضمن ما أسفرت، عن نشوب أول احتجاجات جماهيرية ضد السيسي ونظامه منذ التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية في 2016، وأكبر موجة اعتقالات منذ مذبحة رابعة.
مقابلة محمد علي مع قناة بي بي سي
أعود للفيديوهات وتبعاتها في محاولة لقراءة وتحليل اﻹشارات السياسية التي طفت على السطح، سواء داخل فيديوهات محمد علي نفسها أو من خلال ردود الفعل عليها.
المقاول معارضًا
محمد علي، مقاول اقتصر حظه في التعليم على دبلوم سياحة وفنادق وسنتين بالجامعة المفتوحة، حظي منذ أكثر من 15 عامًا بفرصة للعمل مع القوات المسلحة عن طريق مشاركة نجل أحد اللواءات، لتصبح شركته مع الوقت واحدة من أهم شركات المقاولات التي تتعامل مع الجيش، بحسب روايته.
هذه القصة أصبحت معروفة، وكذلك قصة خلافه مع المؤسسة العسكرية، بداية من قيام أحد العاملين معه بالتسجيل له وهو يسخر من السيسي ومما اعتبره مشاريع فاشلة مثل العاصمة الإدارية وتفريعة قناة السويس، وتحويله لمحاكمة عسكرية نتيجة لذلك (بحسب روايته في أحد فيديوهاته) ثم التضييق عليه ماديًا، حتى تصفية أملاكه وسفره لإسبانيا، وانتظاره حتى لحق به أبناؤه ليبدأ مشواره في معارضة النظام، أو الـgame كما يحب أن يطلق عليه.
راس براس
في لغة شعبية فجة، قدم محمد علي نقدًا صريحًا ومباشرًا للمؤسسة العسكرية، لم نعتد عليه إلا في مداخلات مكتوبة على وسائل التواصل الاجتماعي، أو خلال محادثات خاصة، لكن نقد محمد علي جاء صوتًا وصورة، فاتهم الجيش بعدم المهنية "بيشتغلوا بطريقة احفر بكرة... zero دراسة"، كما اتهمه بالفساد "الإسناد المباشر أول خطوط الفساد". واعترض على أولويات الإنفاق العام "هل ده وقت ومكان (التجمع الخامس) تعمل فيه فندق بالتكلفة دي (2 مليار جنيه)... و"الناس بتاكل من الزبالة".
وسخر علي من الخطاب الذي يستخدمه المسؤولون العسكريون عن المشاريع المخصصة لسكن الرئيس وحاشيته "لازم تيجي على نفسك علشان مصر"، بل وتهكم على الرئيس نفسه "علشان احنا فقرا قوي"، ومن رغبته الدائمة في إنشاء الأكبر والأضخم، دون الإقدام على مشروع واحد يستهدف تحسين جودة الحياة لغالبية المصريين المطحونين بالأعباء المالية، والذين لا يتلقون سوى أردأ أنواع الخدمات؛ التعليم تتوقف جودته على القدرة المادية، والمواصلات معجنة. كل هذا وهو يخاطب الرئيس "راس براس" ويهاجمه بندية.
ومن هذا السقف العالي بدأ محمد علي في التعبير عن قناعاته السياسية واحدة تلو الأخرى. "مليش في جو السياسة والأحزاب... تقعدوا تتكلموا كتير ولابسين بدل وفورمال قوي... وفي الآخر مفيش مَم حضرتك... ومفيش مستقبل... no هاوس... no عربية". "أنا مش إخوان ومكنتش راضي عن إدارة مرسي للبلد... أنا ضد الإخوان في الفكر لكن مش عاوز أقتلهم... ولما عارضتهم متحبستش ولا طلعت خاين للبلد". "رأيي إن مفيش حد من القوات المسلحة يدير البلد علشان همَّ مش aware بالاقتصاد". "أنا مواطن مصري من حقي أقول رأيي بس للأسف عندنا مش من حقك تقول رأيك"؛ "لو كنت أتكلمت وأنا في مصر كنت هتسجن أو أتقتل... لو رفعت قضية، هلبس قضية".
محمد علي أوضح أيضًا، إنه ضد عسكرة الدولة. ضد ميل النظام لتكليف عسكريين بمناصب عامة مثل المحافظين ومديري الشركات. ضد أن تكون المؤسسة العسكرية فوق النقد والرقابة والمحاسبة رغم انتشار الرشوة والفساد بها "كل حاجة under table... أي حد ممكن يتحاسب لكن ظابط الجيش... no... مَلاك". ضد تغول الجيش في شتّى المجالات الاقتصادية بما فيها مجال الإعلام والفن والدراما، اعتمادًا على مميزات استثنائية مثل الإعفاء الضريبي والجمركي، وعلى عمالة مجانية تتوفر عن طريق التجنيد الإجباري "أنت قلبت الجيش لتاجر محدش يقدر ينافسه".
اتهامات بالفشل
في مقابل هذا التغول الرهيب للجيش في الحياة المدنية، اتهم محمد علي المؤسسة العسكرية بالفشل الذريع في مواجهة الإرهاب "بيبعت العساكر الغلابة اللي يموت يموت... بتلفوه في علم وعشرتلاف جنيه بتصرفهم انت في ساعة".
وعقد مقارنة بين التحصينات المنيعة التي تتوفر لحماية الرئيس وحاشيته وللمنشآت السيادية ومستوى التأمين الذي يحظى به المجندون في سيناء؛ "سور شايك ويافطة ممنوع الاقتراب والتصوير وعسكري نايم مش لاقي ياكل". متخذًا ذلك مدخلا لانتقاد أوضاع المجندين بشكل عام؛ "بتوهمه إنه بيحافظ على وطنه... وانت بتشغله عندك خدام ببلاش... علشان تكسب من وراه... الخدمة دي بفلوس".
انتقد محمد علي أيضًا سياسات العمران التي خصخصت الشواطيء بالكامل لصالح الطبقات القادرة ماديًا، حارمة غالبية المصريين من حقهم في الوصول للبحر أو حتى مجرد رؤيته. كما انتقد كون رجال الجيش والشرطة والقضاء والجهات السيادية فوق القانون، أو أن يحظوا بوضع ومعاملة وخدمات استثنائية، مسلطًا جام غضبه على الشرطة "كل همهم مين معاه ست ومين بيسكر ومين بيشرب سيجارتين"، "بدل ما تقبض على اللي معاه الحشيش... وكله حسب الواسطة... ما تشوف المخدرات بتعدي الحدود إزاي".
واتهم الرئيس بالانبطاح أمام حكام الخليج وأمريكا، في الوقت الذي يمن فيه على المصريين بمناسبة وبدون مناسبة؛ "مطلعكم من العوز" كما اتهمه ضمنًا بأنه غير أمين على الأرض؛ "بعت تيران وصنافير. اتحارب قد إيه علشان تحافظ على الأرض دي.". واستنكر التهديد الدائم بمصير سوريا والعراق؛ "كل حاجة تقول سوريا والعراق... هو يا إما نقبل قرفك يا إما نبقى زي دول، ما نبقى زي أوروبا".
المقاول المعارض باختصار شخص غير مسيّس. يرى الدولة شركة كبيرة، بحاجة لمدير مُلم بالاقتصاد وليس لحاكم؛ "الرئيس مجرد موظف".
ظهر محمد علي في هذه الفيديوهات كشخص يعرف حقوقه كمواطن، ويعلم أن هذه الحقوق مقموعة في مصر. ويرى أن أجهزة الدولة ومؤسساتها لا تتمتع بالكفاءة، وقياداتها عبارة عن "شلة منتفعين فاسدين"، لا يشعرون بمعاناة الناس وغير معنيين بها. حريص على وزن كلامه؛ عندما يقول "يا مسلمين"، يستدرك ويقول "ويا مسيحيين"، عندما ينوّه لمعارضته للإخوان، يستدرك "مع احترامي للإخوان".
لا يرى الخطأ في الأشخاص ولكن في النظام الذي يفرز الفساد، وبالتالي فالمطلوب، من وجهة نظره، ليس تغييرًا في الوجوه لكن تغيير السيستم "ومحدش يسأل مين ييجي بعده... أي حد ييجي... نجربه ولو معجبناش نغيره".
زي أوروبا
يريد محمد علي أن تصبح مصر "زي أوروبا"؛ مجتمع فيه الحريات العامة والخاصة مكفولة، وخصوصية المواطنين مقدسة، ومن حقهم جميعًا حياة كريمة وسكن مناسب وتعليم وصحة ومواصلات آدمية، أما الفرق ما بين الغني والفقير فيعود للموهبة و"الشطارة" والذكاء.
يخلط محمد علي بين داعش والربيع العربي. من الممكن طبعًا أن نرى ذلك باعتباره محض جهل، أو يمكن النظر له باعتباره عينة من تصورات قطاع كبير من الناس، بعيدين عن دوائر المثقفين والمسيسين، وليس لهم من مصدر للمعلومات خلاف بروباجاندا النظام، التي دائمًا ما تربط ظهور الإرهاب، متمثلا في داعش، بالربيع العربي، وتُلصِق بكل معارض تهمة الإرهاب.
المُعارِض ثائرًا
فجأة، من الهجوم وكشف المستور والتجريس، قفز محمد علي قفزة هائلة في الفراغ معلنًا "خلص الكلام بكره هبتدي في العملي... أنا هقوّم عليك ثورة... يا شعب مصر خلصنا الكلام... يا معايا يا انتم مش معايا نشوف حياتنا ومصالحنا ونعيش حياتنا وننبسط ده حقنا... لازم كل واحد لمرة وحيدة في حياته يكون عنده كرامة ويقول كلمة حق".
أما عن خطته للتخلص من السيسي فيمكن تلخيصها في خطوتين لا ثالث لهما؛ التدوين على هاشتاج #كفاية_بقى_ياسيسى[1] لبضعة أيام، ينزل الناس بعدها للتظاهر لمدة ساعة على الأكثر "علشان ميتعبوش"، و"يتصوروا" فيجبر السيسي على الرحيل بعد أن يرى حجم معارضته.
أجندة المقاول السياسية
وفقا للنموذج الذي ينشده المقاول، يُكتب الدستور بواسطة لجنة تنتخب جغرافيًا وليس لجنة تعيّن فئويًا، تُحرص على ألا يكون للرئيس صلاحيات، أما إدارة البلد فهي مسؤولية حكومة، ينتخبها ويراقبها الشعب. وهو صاحب السيادة "فلو أراد النظام عمل شيء في حي، فلابد من استفتاء أهل الحي. لو عاوز يعمل حاجة في بورسعيد يستفتي أهل بورسعيد، ولو عاوز يعمل حاجة تأثر في المصريين كلهم، يبقى يستفتي المصريين كلهم". وهو ما أكد على ضرورة كتابته في البند الأول من الدستور الجديد "لازم ياخدوا رأينا... إحنا صحاب البلد... ياخدوا رأينا إليكترونيًا... بالصناديق... نضطر ننزل الشارع... المهم رأينا هو اللي يمشي".
بخلاف هذه الأفكار التقدمية والجذرية، تضمنت دعوة محمد علي، من وجهة نظري، فكرتين كارثيتين، للأسف لهما شعبية ليست بالبسيطة وسط صفوف المدافعين عن الحرية والعدل. الأولى هي كراهية الأحزاب أو السياسة والسياسيين؛ "لازم نتوحد وننسى إخوان وليبراليين وسلفيين الكلام ده غلط... سيبوهم هم أحرار ينتقدوا ويطلعوا مساوئ اللي بيدير... لكن متخلوش حد يمسك من أحزاب... الأحزاب دي خطر... اختاروا حد من الشعب". وإن كان تراجع خطوة عن هذا الموقف في مجرى حديثة؛ "يطلع مسيحي... يطلع إخوان... ليبرالي... نجرب إيه يعني".
أتفهم هذا الموقف الذي لا يرى المعارضة كجزء طبيعي من نسيج المجتمع. ولم لا والمعارضة لدينا تنقسم لقسم منفصل عن المجتمع يقاوم بالسلاح، من الطبيعي ألا يشعر الناس بأي ارتباط بينهم وبينه. وقسم تشغله بالكامل جماعة الإخوان المسلمين، وهي جماعة رغم اتساعها وانتشارها تظل مغلقة؛ إما أن تنتمي لها أو تتعاطف معها أو تضعك في خانة "الآخر" الغريب. أما القسم الثالث والذي يتضمن كل المعارضة الباقية، التي لا تزيد عن كونها مجموعة من الأبواق الإعلامية، خفت صوتها بالتدريج منذ منتصف عام 2013 حتى كاد أن يتلاشى. لا امتداد طبيعي لأي من أطيافها وسط عموم الناس، الذين لم يسمعوا عن رموزها غير من خلال وسائل الإعلام[2].
نادي المعارضة السري
في إطار هذا الواقع، من الطبيعي أن تكون تصورات محمد علي وغيره عن المعارضة أنها عبارة عن نادي سري مغلق ومريب. لكن تفهمي لهذه التصورات لا يجعل انتشار معاداة ممارسة السياسة والتنظيم أقل كارثية. وثورة يناير ليست ببعيدة؛ ألا تتذكرون أننا كنا نبيت كل يوم ونحن لا نعلم إن كان الميدان سيمتلئ في الصباح أم لا؟
أتعرفون السبب؟ تعرفون لماذا لم نتمكن من حصاد زخم الحركة في الشارع؟ لأننا لم نكن منظمين ولم يكن هناك كيان أو كيانات تمثّل من يضحون بأرواحهم في الشوارع. كيانات تستطيع أن تطرح مطالبهم وتتفاوض باسمهم. التنظيم ووجود قوة تمثل حركة الشارع سياسيًا مثل اتحاد الشغل في تونس وتجمع المهنيين في السودان هو ما وفّر للحركة أو لبخار الغضب وللاحتجاج العفوي في البلدين، المكبس الذي وجّه كل الغضب والاحتجاج في اتجاه أهداف محددة.
الفكرة الكارثية الأخرى التي تضمنتها دعوة المقاول هي تصور أن الأنظمة تسقط بالضربة القاضية؛ نعمل حركة أو فاعلية، تلقط، فيتهاوى النظام تلقائيًا. أصحاب هذا التصور هم ذاتهم المؤمنين أن ثورة يناير قامت بفاعلية على الفيسبوك، متجاهلين عشر سنوات على الأقل من الحراك السياسي والاجتماعي، كانت يناير 2011، مجرد ذروته. الثورة هي أحد الظواهر الاجتماعية التي لا تحصل على هذه الصفة غير بعد أن تحدث. الثورة الفرنسية أو الروسية أو الإيرانية... لم يصبح اسمها ثورة إلا بعد حراك طويل شارك فيه الملايين بغرض إسقاط النظام ونجحوا في مسعاهم. لا يوجد شيء اسمه "تعالوا نعمل ثورة".
ردود الفعل
يمكن تلخيص مجمل ردود الفعل على هذه الدعوة على النحو التالي؛ ناس "شطبت على الموضوع" من أوله لآخره، لأن بطله رجل أعمال فاسد تراكمت ثروته بالأساس نتيجة للتعامل مع المؤسسة العسكرية التي لا يهاجمها الآن إلا بسبب خلاف مادي. يجوز أن يكون لهؤلاء حق في حكمهم على الرجل وعلى دوافعه، لكن رأيي أنهم يرتكبون خطأ كلاسيكيًا؛ وهو أنهم في مواجهة فعل احتجاجي يسألون أنفسهم سؤالين أساسيين؛ هل الشخص الذي يمارس الفعل الاحتجاجي "حلو" ولا "وحش"؟ وهل دوافعه "نبيلة" أم "انتهازية"؟
السؤال الصحيح
قد تكون هذه أسئلة مهمة، ولكنها ليست الأهم، وطرحها في الأغلب لن يُسفِر غير عن صدور أحكام أخلاقية غير مبنية على أي أساس موضوعي. السؤال الصحيح، من وجهة نظري، هو بغض النظر عن نزاهة محمد علي ونبل مقصده، هل الفعل الاحتجاجي الذي يقوم به، في صالح قضية العدل والحرية أم لا؟ أليس في مصلحة القضية التي أصيبت بغيبوبة منذ منتصف 2013، أن يظهر صوت يتحدث بلغة بسيطة ويتوجه لجمهور، لم يعد أحد يتجرأ على التوجه إليه، يعري النظام أمامه ويضرب في نزاهته وفي هالة القداسة المفروضة حوله؟
في رد فعل ثانٍ رفض البعض دعوة محمد علي لأنها تأتي من الخارج. رأيي أن هؤلاء أيضًا يقعون في خطأ كلاسيكي آخر. أليس من المصلحة أن يرتفع صوت للحق أيًا كان موقعه في الوقت الذي يتعرض فيه المعارضون في الداخل لكافة أنواع التنكيل، لمجرد أنهم في يومٍ ما تجرأوا على الحلم؟
وفي رد فعل أكثر تعقيدًا رفض البعض دعوة محمد علي، لأنها جاءت من شخص ليس لديه امتداد تنظيمي في الداخل، ولأنها أتت في وقت تم القضاء فيه على كل الهياكل السياسية والحقوقية والتنظيمية من أحزاب ومجموعات سياسية وحركات شبابية ونقابات.
أصحاب هذا الرأي يرون أن مهمة إسقاط النظام الحالي شديدة الصعوبة، تتطلب نضالًا طويلًا والسعي لتكوين كيان سياسي أو نقابي أو حزبي له جذور في أماكن العمل الحيوية، وله جهاز دعاية قوي يستطيع إعلان الإضراب العام[3] . وأن هذه المهمة يجب أن تبدأ الآن وفورًا بأن يحاول كل فرد تكوين تنظيم نقابي في موقع عمله.
أتفق مع روح هذا الطرح وإن كنت لا أرى لزامًا أن تأتي دعوات التغيير من أناس لهم ارتباط عضوي بأحد تنظيمات الداخل. يكفي جدًا أن يكون صاحب الدعوة على اطلاع ومعرفة كافية بالخريطة السياسية والاجتماعية، وبأحوال الناس وبدرجة غضبهم واستعدادهم للنضال الجماعي. وطبعًا أن تكون مجمل أفكار صاحب الدعوة معبّرة عن قطاع معتبر من المجتمع المصري.
كما أني لا أتفق مع أن المهمة الآنية هي محاولة تكوين تنظيمات نقابية. فهذه مهمة أكبر بكثير من إمكانيات اللحظة. المهمة الممكنة الآن من وجهة نظري هي أن يحاول المهتمين بالشأن العام التواصل مع الأقرب لهم من حيث الأفكار والمواقف، ليتناقشوا سويًا فيما حدث ويحدث وما يمكن أن يحدث، ودورهم كمجموعة في هذه العملية، بهدف خلق مجموعة من الأنوية تطرح أفكارًا وأدوات ليستخدمها من يجدها معبرة عنه.
وفي رد فعل رابع، تعامل الكثيرون مع دعوة محمد علي باعتبارها "خناقة أجهزة" أو إعلان عن انقلاب، يسعى لغطاء شعبي، وبدأ الناس يفكرون ويخمنون أسماء الأشخاص والقوى التي تقف وراء محمد علي. وهو في ظني رد فعل مفهوم؛ فلو كانت معرفة وصلة محمد علي بالمجتمع المصري محدودة وإذا كان قمع النظام يزداد كل يوم، فمن أين يأتي بجرأته وبيقينه إن "السيسي خلاص ماشي" لابد وأن هناك إذًا من سانده.
لا أخفي عليكم، كان تبني سيناريو "صراع الأجهزة" جزء منه تمني أو رجاء أن يقوم جناح من النظام بإنجاز جزء من مهمة إسقاط النظام الصعبة وشديدة التكلفة، بدلًا أن تظل المهمة كلها ملقاة على عاتقنا ونحن في قمة الإرهاق والهلهلة ولا نعرف من أين نبدأ.
النظام يضرب بيد من حديد
بعد إطلاق دعوة المقاول، حاولت قوات الأمن القبض على مجدي شندي، رئيس تحرير صحيفة المشهد، واحتجزت نجله حتى سلّم نفسه، بسبب نشر موقع الصحيفة مقالا عن المقاول الثائر. كما تم اعتقال محمد حمدي يونس من منزله في القليوبية، وهو محامٍ شاب أعلن عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن نيته التقدم ببلاغ للتحقيق في وقائع الفساد وإهدار المال العام التي ذكرها المقاول في فيديوهاته. وبالمرة تم اعتقال كمال خليل[4] وتم تحويل بلاغ متقدم في نادر فرجاني[5] للنيابة. وهو ما تكرر في وقت لاحق مع الدكتورة عايدة سيف الدولة أحد مؤسسي مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب.
وجاء اليوم المشهود، وعقب انتهاء مباراة السوبر يوم الجمعة 20 سبتمبر، شهدت القاهرة والجيزة والإسكندرية والسويس والدقهلية والغربية والشرقية مظاهرات، كان لها صدى قوي رغم صغر حجمها، واستمرت حتى ساعات الصباح الباكر من يوم السبت. استخدمت قوات الأمن المصرية الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين، واعتقلت قرابة 800 شخص في هذا اليوم وحده، لتبدأ حملة شرسة لمداهمة المنازل واختطاف المعارضين وتفتيش الهواتف في الشوارع والمترو والجامعات بحثًا عن أي محتوى سياسي، كدليل كاف لاعتقال صاحبه.
بلغ عدد المعتقلين الآلاف[6] من 24 محافظة من بينهم؛ علاء عبد الفتاح[7] وماهينور المصري[8] والمحاميان الحقوقيان محمد الباقر وعمرو إمام، ومعظم قيادات حزب الاستقلال[9]، وعلى رأسهم الأمين العام للحزب مجدي قرقر[10] ونجلاء القليوبي[11] أمينة المرأة، إضافة إلى عبد العزيز الحسيني نائب رئيس حزب الكرامة وعبد الناصر إسماعيل نائب رئيس حزب التحالف الشعبي وخالد داود الرئيس السابق لحزب الدستور[12] وحازم حسني[13] وحسن نافعة[14] الذي قال في آخر تغريدة كتبها على تويتر قبل اعتقاله "استمرار حكم السيسي المطلق سيقود إلى كارثة، وإن مصلحة مصر تتطلب رحيله اليوم قبل الغد، لكنه لن يرحل إلا بضغط شعبي من الشارع".
كما ضمت قائمة المعتقلين أيضًا سامح سعودي، الذي كان قد اعتقل في 2018 على خلفية مبادرة السفير معصوم مرزوق التي طالبت بالاستفتاء على استمرار النظام السياسي الحالي في مصر، إضافة لكوادر من أحزاب مصر القوية والعيش والحرية تحت التأسيس.
تم إيداع علاء عبد الفتاح ومحمد الباقر في سجن العقرب 2، حيث تعرضا لإهانات واعتداءات جسدية شديدة. كما تم اختطاف إسراء عبد الفتاح[15] من الشارع وتعذيبها لليلة كاملة ليحصلوا على كلمة السر الخاصة بهاتفها الخلوي. وتعرض جمال عيد المحامي الحقوقي ومؤسس الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان لعدة اعتداءات منها سرقة سيارته وهاتفه، وتهشيم سيارة كان استعارها من زميلته بالشبكة لقضاء بعض المشاوير، علاوة على تعرضه لاعتداء بدني من بضعة أشخاص مسلحين في زي مدني، مما أصابه بإصابات بالغة.
كما ظهر ثلاثة معتقلين (أردنيان وسوداني) في برنامج عمرو أديب ليعترفوا بقائمة الاتهامات التي وجهت إليهم. لكن بعد أن ضغطت دولهم للإفراج عنهم وترحيلهم لبلادهم، أعلنوا هناك أنهم أدلوا باعترافاتهم تحت التعذيب. وبعد اعتقال طالبين من جامعة أدنبره، حثَّت الجامعة كل طلابها في مصر على المغادرة.
اضرب المربوط
باختصار كابوس. لكنني أعتقد أننا لو أخذنا خطوة بعيدًا عن دوامة الألم سنتمكن من رؤية ما هو أبعد من ذلك. فصحيح أن هناك دائرة دفعت ثمنًا باهظًا، وستظل في الأغلب تدفع المزيد، ﻷن النظام لا يعرف غيرها ويريد أن يصنع منها عِبرة على طريقة "اضرب المربوط يخاف السايب". لكن على الأقل عرفنا أن هناك من لا يرضى عن هذا الوضع، خارج هذه الدائرة المعزولة.
اقرأ أيضًا: بمناسبة الأمل وأصحابه ومخططه
وأنا هنا لا أتحدث فقط عمن تحركوا في السويس أو المحلة أو منفلوط أو أسوان أو الوراق، ولكنني أتحدث أيضا عن حوارات ونقاشات، تدور على نطاق واسع جدًا، حول معنى وأفق ما حدث، وهو حديث لم يكن يجري إلا خلسة وبين مجموعة محدودة من البشر. هذه إشارات مهمة يمكن بحث إمكانيات البناء عليها، على الأقل ﻷن الكثيرين منا لن يستطيعوا مغادرة البلد، كما تمكّن المعتقلون الأجانب.
[1] تخطى المليون تغريدة على تويتر في أقل من 24 ساعة، فقامت تويتر الشرق الأوسط بحذفه.
[2] يجب التأكيد على أنني هنا لا ألوم هذه المجموعات المعارضة، بقدر ما أُقر بأمر واقع فرض علينا جميعًا لأسباب كثيرة لا مجال هنا لذكرها.
[3] كثيرا ما يتم الخلط بين الإضراب العام الذي يسيطر فيه العاملين بأجر على مواقع العمل ويوقفوا حرفيًا عجلة الإنتاج كأقوى وسيلة للاحتجاج السلمي، وبين العصيان المدني الذي يعني اختصارا المكوث في المنزل والذي يعد وسيلة ضغط أضعف بمراحل.
[4] مناضل اشتراكي ثوري منذ أن كان طالبًا في سبعينيات القرن العشرين.
[5] مفكر اجتماعي مصري. وأستاذ بجامعة القاهرة. رئيس فريق تحرير تقرير التنمية العربي الصادر من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ورئيس مركز المشكاة.
[6] shorturl.at/DELRW
[7] اعتقل بعد موعد المراقبة. وكان أفرج عنه في 29 مارس/آذار الماضي، بعد قضائه خمس سنوات في السجن، في قضية عرفت إعلاميا باسم "أحداث مجلس الشورى". لكن الحكم القضائي كان يشمل خمس سنوات من المراقبة، أي أنه مطالب بتسليم نفسه للسلطات من السادسة مساءً حتى السادسة صباحًا يوميًا لقسم الشرطة التابع له.
[8] اعتقلت من أمام مقر نيابة أمن الدولة بالتجمع. وهي محامية وناشطة حقوقية واشتراكية ثورية.
[9] اسم جديد أطلق على حزب العمل المصري بعد الثورة. وهو حزب سياسي تأسس كحزب اشتراكي العام 1978 ثم تحول إلى "حزب إسلامي" وتم تجميده بسبب خلافات على رئاسة الحزب في مايو/ آيار 2000. طالت الاعتقالات معظم قيادات الحزب كرد فعل لدعوته للتظاهر بعد أن كان قد طالب بالتحقيق في وقائع الفساد التي ذكرها محمد علي.
[10] المُخلى سبيله بتدابير احترازية في مارس 2016.
[11] وهي زوجة مجدي حسين القيادي بالحزب والمسجون منذ عام 2014.
[12] صحفي وسياسي مصري عمل مراسلا لقناة الجزيرة في الأمم المتحدة وناطقا رسميا باسم جبهة الإنقاذ الوطني. وهو الرئيس السابق لحزب الدستور.
[13] سياسي مصري وأستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة والمتحدث السابق باسم حملة الفريق سامي عنان.
[14] الرئيس السابق لقسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة ويعمل أستاذًا بها منذ العام 1978. له نشاط عام بارز فقد كان مسؤولا عن النشاط الثقافي في نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة، وأمينًا عامًا للجمعية العربية للعلوم السياسية، ومنسقًا عامًا للحملة المصرية ضد التوريث ثم للجمعية الوطنية للتغيير.
[15] من مؤسسي حركة 6 أبريل، التي دعت إلى الإضراب العام في أبريل/ نيسان عام 2008. جرى اعتقالها أكثر من مرة بعد ذلك في حوادث مختلفة. وتم منعها من السفر.