في أبريل/نيسان الماضي، قررت الحكومة الكندية إغلاق المنزل رقم 24 في شارع سوسيكس في أوتاوا، والمهجور منذ سنوات لعدم ملاءمته للحياة الآدمية صحيًا بعد انتشار الفئران والبكتريا والفطريات بداخله، مع ترك حديقته وحمام السباحة الخارجي متاحان للاستخدام.
هذا المبنى الحجري الذي يعود تاريخه للقرن التاسع عشر، هو المقر الرسمي لمعيشة كل رؤساء الحكومة الكندية المتعاقبين منذ عام 1950. لكن رئيس الوزراء الحالي جاستن ترودر الذي يعرف الحالة المتردية للمنزل، وعاش فيه صبيًا حين كان والده رئيسًا للوزراء في السبعينيات، اضطر لاستئجار منزل أصغر بكثير لأسرته المؤلفة من زوجته وأبنائه الثلاثة، لأن تكلفة إصلاح مقر إقامة رأس الدولة الكندية تُقدَّر بمبلغ باهظ يصل لنحو 29 مليون دولار، لن يقبل به الناخبون الكنديون دافعو الضرائب!.
كندا ليست فقيرة فترتيبها التاسع* في قائمة أغنى اقتصادات العالم، بإجمالي ناتج قومي بلغ العام الماضي تريليونين و118 مليار دولار!.
أما المسكن الصيفي لرؤساء وزراء كندا منذ 1958 فهو منزل بحيرة هارينجتون بمقاطعة كيبيك. ولأن صيانته تتم بعناية تحت إدارة الحدائق العامة الكندية، فلا يزال صالحًا للاستخدام، لكنَّ تكلفة صيانته الشهرية، وتشمل رسوم الكهرباء والغاز، أثارت ضجة حين كُشفت في تقرير عام يعارض إصلاحات جديدة للمبنى كلفت ثمانية ملايين دولار، حيث أظهر أن الصيانة الشهرية تتكلف نحو 20 ألف دولار، فيما كلفت إجمالي صيانة المبنى في السنوات الست الماضية دافعي الضرائب مليونًا وأربعمائة ألف دولار.
جمهوريات لا تدلل رؤساءها
فرنسا، التي تقع في المرتبة السابعة من حيث أغنى اقتصادات العالم، بناتج إجمالي وصل تريليونين و863 مليار دولار، لم تترك لرؤساء جمهوريتها منذ عام 1848 سوى قصر واحد فقط من بين كل قصور ملوك فرنسا وأباطرتها السابقين، وهو قصر الإليزيه، الذي يضم بجانب مسكن الرئيس مكاتب وقاعات الرئاسة واجتماعات مجلس الوزراء. أما حديقته، فمفتوحة للجمهور.
القصر الذي تعاقب على العيش فيه كل رؤساء فرنسا باستثناء فترة الاحتلال النازي لباريس خلال الحرب العالمية الثانية، به 300 غرفة وقاعة، مقارنة بقصر عابدين الذي توجد به 500 غرفة وقاعة، وبناه الخديوي إسماعيل متأثرًا بالعمارة الأوروبية وحياته في شبابه في فرنسا، ليجعل قصر عابدين بالمثل مقرَّ حكم أسرة محمد علي منذ افتتاحه عام 1874، وحتى استيلاء الجيش على الحكم وتحويل مصر لجمهورية، بعد قرابة ثمانين سنة.
وخلافًا لحكام مصر من الخديوي للسلطان والملك إلى رؤساء الجمهورية الذين تعاقبوا على قصر رأس التين الذي تركه لهم الوالي محمد علي باشا، ليكون قصر الحكم في الصيف، فإن المسكن الصيفي الوحيد لرؤساء فرنسا المتعاقبين منذ عام 1968 هو قصر القلعة العتيق منذ العصور الوسطى والمعروف باسم "فور دي بريجانسون"، المطل على سواحل الريفيرا الفرنسية. وهو أقرب إلى مكان استجمام من كونه مقرًا للحكم.
أما الولايات المتحدة، الدولة العظمى الأولى على رأس قائمة أكبر اقتصادات العالم بإجمالي ناتج قومي 25 تريليونًا و838 مليار دولار، فلا يوجد بها أي مقر لإقامة رئيس الجمهورية مع عائلته، ومكاتب لطاقم وزرائه، سوى البيت الأبيض، الذي تعاقب على السكن فيه جميع الرؤساء الأمريكيين منذ الرئيس الثاني جون آدمز عام 1800.
يحتوي البيت الأبيض 134 غرفة وقاعة. لكن باستثناء غرف نوم ومعيشة الرئيس وعائلته في الطابق الثاني من الجزء الجنوب الغربي للمبنى، فإن أغلب المبنى بطوابقه الأربعة مخصص لمكاتب الإدارة.
على الناحية الأخرى من البيت الأبيض منزل متواضع كبيت ضيافة رسمي اسمه "بلير هاوس" وينزل فيه زعماء الدول حين يكونون في "زيارة دولة" وليس مجرد زيارة رسمية، ويفضل أغلب الزعماء العرب عدم الإقامة فيه لتواضعه، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يفضله. وكتبت الصحافة في آخر زياراته وقت رئاسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه وزوجته استغلا الخدمة المجانية لضيوف المنزل، فأحضرا من إسرائيل حقائب مليئة بالملابس التي تحتاج غسيلًا وكيًّا على حساب دافع الضرائب الأمريكي.
أما المنزل الصيفي أو المنتجع الرئاسي الأمريكي فهو مجموعة أكواخ ريفية جبلية معروفة باسم منتجع كامب ديفيد، ويستخدمه رؤساء أمريكا منذ الأربعينيات.
لا يوجد أي منزل أو منتجع ساحلي لأي رئيس أمريكي أو مسؤول، إذ يقيم الرئيس على نفقته بينما تدفع الدولة نفقة إقامة مساعديه وحراسه المضطرين لمصاحبته، سواء قرب منزله الخاص أو قصره، مثل منتجع ترامب في فلوريدا.
رئيس وزراء يبحث عن متسع
في بريطانيا، الدولة الديمقراطية الأغنى من فرنسا وكندا، ترتيبها السادس في قائمة أغنى وأكبر اقتصاديات العالم، بناتج قومي يصل إجمالي ثلاثة تريليونات و88 مليار دولار، يوجد قصر بكنجهام الذي يعدُّ مقر الملك لا رئيس الوزراء الحاكم الحقيقي للبلاد. ويكتفي فيه الملك مرتين في السنة باستضافة أحد زعماء العالم في "زيارة دولة"، مثلما استضافت الملكة الراحلة اليزابيث ترامب وقت رئاسته، كلفتة تكريم.
أما رئيس الوزراء، فيقع مقر عمله وسكنه في مبنى صغير متواضع في 10 بشارع داوننج، منذ أن منح الملك جورج الثاني المنزل عام 1735 لرئيس وزرائه، وظل أسلافه يتعاقبون عليه حتى يومنا هذا.
المسكن يقع في شارع لا يزيد طوله عن مائتي متر ويلاصقه مسكن وزير المالية في رقم 11، ثم زعيم الأغلبية البرلمانية في رقم 12. ومن المفارقات الدالة على مدى ضيق مقر إقامة رئيس الوزراء، اضطرار توني بلير حين أصبح رئيسًا للوزراء عام 1997 إلى العيش بأسرته وأطفاله الأربعة في المنزل رقم 11 الأكبر نسبيًا، بعد قبول زميله وجاره وزير المالية جوردون براون، الأعزب، التبديل معه!.
وهذا ما فعله أيضًا رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، حين بدّل مقر إقامته مع وزير المالية ريشي سوناك، الذي أصبح رئيس الوزراء الحالي. ولكن جونسون تورط في فضيحة مالية سياسية سُميت بفضيحة "النقود مقابل الستائر"، وكشفتها لجنة المراقبة الانتخابية، لأنه جدد المنزل رقم 11 بستائر وديكورات قال إنه دفعها من جيبه الشخصي، ولكن ثبت أنه حصل على 58 ألف جنيه استرليني كتبرع أو قرض من رجل أعمال بريطاني لدعم حملته الانتخابية، دون الإبلاغ عن استخدام هذه الأموال لتجديد ستائر سكنه وأوراق الحائط، وهو ما اعتبرته المعارضة فسادًا سياسيًا.
أما المسكن الصيفي لرؤساء وزراء بريطانيا منذ عام 1921، والذي ظل دون أي تغيير أو تبديل، فهو قصر أوبيت "تشيكرز" الريفي المبني منذ القرن السادس عشر في ضيعة بالريف البريطاني، وتبرع به للمملكة المتحدة السير آرثر لي.
مصر وقصورها
في مصر، لم يشأ الضباط الأحرار استخدام قصر عابدين كمقر للحكم، أسوة برؤساء فرنسا في استخدام قصر الإليزيه دون سواه. بل أصبح قصر القبة قصر الرئاسة في عهد عبد الناصر، ثم قصر العروبة الاتحادية منذ عهد السادات مرورًا بمبارك، واستخدمه مرسي كمقر للحكم فقط دون أن يسكنه، قبل أن ينتقل إليه السيسي بعد ذلك.
السيسي يؤكد أنه بنى وسيبني قصورًا رئاسية
لكن السيسي قرر عدم الاكتفاء بنحو ثمانية قصور رئاسية منها قصران صيفيان بالإسكندرية: رأس التين والمنتزه؛ بالإضافة لعشرات الاستراحات الرئاسية من أسوان إلى القناطر والإسماعيلية؛ ليؤكد ما كشفه المقاول محمد علي في سبتمبر/أيلول 1919 بأنه يبني قصورًا رئاسية جديدة في العاصمة الإدارية والعلمين.
كان مبرر الرئيس السيسي أن هذا يتعلق بصورة مصر كدولة أمام العالم، وربما كان يقصد المقارنة بقصور الدول الغنية بالنفط ذات الحكم المطلق، لا الدول الغنية الديمقراطية التي يحاسب شعبها. إذ قال رئيس مصر التي يأتي ترتيب اقتصادها عالميًا في المركز 32 من حيث إجمالي الناتج القومي الذي يبلغ 461 مليار دولار "آه أومال ايه. أنا عامل قصور رئاسية وهعمل. هي ليًّ؟ أنا بعمل دولة جديدة.. هو انتو فاكرين لما تتكلموا بالباطل هتخوفوني ولا إيه،.. لا أنا أعمل وأعمل وأعمل، بس مش بعمله ليا، مش باسمي، مفيش حاجة باسمي، ده باسم مصر".
وأضاف السيسي "أنا بابني في العاصمة دولة، لا مؤاخذة، الدنيا كلها هتتفرج عليها. هي مصر شوية يعني ولا حاجة ولا إيه. انتو فاكرين مصر شوية؟".
* جميع المعلومات الخاصة بالناتج الإجمالي للدول في هذا المقال مأخوذة عن البنك الدولي.