قبل حوالي مئة عام، اكتسح حزب الوفد مقاعد مجلس النواب في أول انتخابات برلمانية جرت في مصر، وهزموا مرشحي حزب يحيى باشا إبراهيم رئيس الوزراء ووزير الداخلية المقرب من الملك، الذي خسر مقعده هو نفسه في دائرته الانتخابية أمام مرشح حزب الوفد.
شكَّل الوفد حكومة برئاسة زعيمه سعد زغلول. وبعد أشهر، جاءت انتخابات مجلس الشورى فوجد الملك أحمد فؤاد فرصته الدستورية الوحيدة لكبح جماح الوفد، في الصلاحية الممنوحة له وفق المادة 74 من دستور 1923، بتعيين خُمسي أعضاء المجلس المؤلف من 120 عضوًا، مدة كل منهما عشر سنوات.
لكن رئيس الحكومة المنتخب سعد باشا رفض أن يملي الملك وحده أسماء الشيوخ الـ48 المعيّنين، واستند إلى أن المادة 48 من الدستور التي تنص على أن يتولى الملك سلطته بواسطة وزرائه، تُقيّد صلاحيته في تعيين النواب وتفرض موافقة مجلس وزرائه. وأكدت هذا الموقف مذكرة للملك من وزير الحقانية (العدل).
طلب الملك مشورة مستقلة من النائب العام للمحاكم المختلطة، البارون البلجيكي فان در بوش، الذي جاء تفسيره لصالح الوفد بضرورة استشارة الملك للوزارة المنتخبة وموافقتها على قائمة المعينين لمجلس الشيوخ.
امتثل الملك فؤاد، حتى سنحت الفرصة له بعد ثلاث سنوات بحل البرلمان.
اختيار هادئ لصاحب مكانة
كثيرًا ما يُضرب المثل بهذه القصة على مكانة النائب العام في مصر، منذ إنشاء هذا المنصب القضائي عام 1881 وتولاه مصري هو إسماعيل يسري باشا، ثم جاء الاحتلال البريطاني في العام التالي لتتم "ترقية" النائب العمومي المصري بعد سنة أخرى، كذريعة لإخلاء منصبه للأجانب، فتعاقب عليه أربعة من البريطانيين والفرنسيين، حتى عاد ليقتصر على المصريين وحدهم منذ 1908، عندما تولاه عبد الخالق ثروت باشا.
أما النائب العام البلجيكي الذي احتكم اليه الملك أمام سعد زغلول عام 1924، فكان مختصًا بالمحاكم المختلطة لا القضاء المصري. وربما اعتقد الملك فؤاد المُهادن للأجانب والإنجليز أن البارون سينصفه ضد سعد زعيم الثورة الشعبية الداعية للاستقلال وطرد الاحتلال الأوروبي!
يأتي الحديث عن منصب النائب العام في مصر بعد مرور 142 سنة على إنشائه، بمناسبة الإعلان الأسبوع الماضي عن اختيار الرئيس السيسي المستشار محمد شوقي عياد (66 سنة) نائبًا عامًا جديدًا، يتولى منصبه بدءًا من 19 سبتمبر/أيلول المقبل لأربع سنوات، هي الفترة المحددة دستوريًا للمنصب، وكذلك المتبقية ليبلغ سن تقاعده.
ورد خبر الاختيار في هدوء وبشكل عارض، ضمن الموضوعات التي ناقشها رئيس الجمهورية مع وزير العدل في وقت سابق من يوم الإعلان عن الاختيار، وفق موقع "برلماني" الذي تُصدره مؤسسة اليوم السابع، قبل حذف الخبر لاحقًا.
لم يكن النائب العام الجديد أول من يطبق عليه الرئيس الصلاحيات التي حصل عليها بموجب التعديلات الدستورية عام 2019 في اختيار رؤساء الهيئات القضائية، وهي صلاحيات كان دستور 2014 يُقيدها. بل حدث ذلك أيضًا عند اختياره النائب العام الحالي، المستشار حمادة الصاوي، الذي تنتهي مدته في 19 سبتمبر.
كانت المادة 189 من دستور 2014 قبل تعديله تُعطي مجلس القضاء الأعلى حق اختيار المرشح لمنصب النائب العام ليصدر قرار تعيينه من رئيس الجمهورية، لكن بعد خمس سنوات فقط من إقرار الدستور، عُدلت مواده لتمنح الرئيس صلاحية "اختيار" رؤساء الهيئات القضائية. استخدم الرئيس صلاحياته بغض النظر حتى عن الترشيحات والأقدمية، سواء في اختيار النائب العام أو رئيسي المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض، التي طعن محامون مؤخرًا على اختيار رئيسها من غير أقدم سبعة من قضاتها.
لكن من غير المعروف إن كان الطعن سيصل المحكمة الدستورية التي اختار رئيس الجمهورية رئيسها قبل سنة ونصف، فإذا به رابع أقدم قضاتها، الذين كانوا في السابق هم من يختارون رئيسهم من أقدم ثلاثة!
كلّ الأمور تبدو هادئة حين يتلاشى أي خلاف وتنتفي الحاجة لاستقلالية وتوازن السلطات في مصر المحروسة!
إهمال ترشيحات الجهات القضائية ومعايير الأقدمية، كانت من بين أكثر الانتقادات المُوجهة للرئيس السابق محمد مرسي، حين عيّن المستشار طلعت عبد الله لمنصب النائب العام بعد توليه الحكم عام 2012، خلفًا للمستشار عبد المجيد محمود الذي عينه الرئيس الأسبق مبارك عام 2006.
كان من بين انتقادات القضاة الأخرى للتعيين وقتها، أن المستشار طلعت كان معارًا وقتها في الكويت. واليوم، جاء اختيار الرئيس السيسي لنائب عام جديد انتدب في الإمارات لست سنوات منذ 2012، قبل عودته ليعمل في محاكم الاستئناف لفترة قصيرة، انتقل بعدها للعمل في شؤون التفتيش القضائي في وزارة العدل.
احترام الأقدمية قبل يناير
في الثمانينيات، كان معيار الأقدمية سببًا في تأجيل مبارك اختياره لمرشحه المفضل رجاء العربي لمنصب النائب العام، فعيّن المستشار محمد بدر المنياوي ظنًا أنه سيصل سن التقاعد القضائي بعد سنة واحدة. ولكن بعد مرورها، فوجئ مبارك أن الرجل أمامه سنة أخرى لأنه من خريجي كلية الشريعة والقانون، الذين يتأخر تخرجهم من جامعة الأزهر سنة للدراسات الدينية عن أقرانهم من الجامعات المصرية. وبعد ذلك، جاء الدور على النائب العام العربي.
ومع قلة الحالات التي اختلف فيها الملك أو رئيس الوزراء في العهد الملكي، أو رئيس الجمهورية لاحقًا، مع النائب العام وسعى إلى إقالته واستبداله، فإن جميعها تطلبت إيجاد منصب قضائي أو شرفي أعلى.
هذا ما فعله رئيس حكومة الوفد مصطفى النحاس مع المستشار محمود عزمي عام 1951 بشأن تحقيقات النيابة في قضية الأسلحة الفاسدة، ومثله فعل الرئيس عبد الناصر حين تولى ضباط الجيش الحكم، ليُرقي النائب العام منذ العهد الملكي المستشار عبد الرحيم غنيم لمنصب رئيس محكمة الاستئناف بدرجة وزير.
وحتى رغم تعاون النائب العام محمد عبد السلام مع الرئيس عبد الناصر، الذي عينه في المنصب عام 1963، مرورًا بالتحقيق في ظروف موت عبد الحكيم عامر، فقد انتهى الأمر بالاستغناء عنه بعد ست سنوات، فيما عُرف بمذبحة القضاء عام 1969، ولكن بحجة ترقيته رئيسًا لمحكمة الاستئناف، ليتولى منصبه رئيس محكمة النقض علي نور الدين.
بل حتى حين حاول الرئيس مرسي تعويض النائب العام عبد المجيد محمود بمنصب بديل، عينه سفيرًا لدى الفاتيكان، مما أثار شكوكًا حول مقاصد الرئيس وجماعة الإخوان المسلمين بربط الرجل بالكرسي البابوي!
كل شيء على ما يرام
لم نشهد في عهد السيسي خلافًا بين الرئيس والنائب العام، فباستثناء النائب العام هشام بركات الذي قضى سنتين فقط في منصبه بسبب اغتياله عام 2015، أكمل كلٌّ من الاثنين اللذين جاءا بعده سنواته الأربع في المنصب.
السبب الظاهر هو أنه خلافًا لأي رئيس قبله، حصل رئيس الجمهورية الحالي على كامل الصلاحيات في اختيار وتعيين رؤساء كل الهيئات القضائية التي لم يختلف أي منها مع ما تريده السلطة التنفيذية، وإن حدث أي خلاف على سبيل الاستثناء، فلا توجد صحافة مستقلة لتخبرنا بأنه حدث. ولكن كلّ الأمور تبدو هادئة، حين يتلاشى أي خلاف وتنتفي الحاجة لاستقلالية وتوازن السلطات؛ التنفيذية والتشريعية والقضائية، في مصر المحروسة!