ما يحدث في إسرائيل يتجاوز المظاهرات والإضرابات، سواء العمالية أو حتى العسكرية في سلاح الطيران وغيره من أفرع الجيش المعتمدة على الاحتياطي من التجنيد الشعبي. بل ويُهدد فعليًا بحرب أهلية بين التيار المدني العلماني مؤسس الدولة "اليهودية" والتيار اليميني الديني، الذي لم يصل إلى الحكم إلا بعد أول هزيمة عسكرية لإسرائيل في حرب أكتوبر 1973.
لكن ائتلاف الليكود اليميني الديني، بزعامة مناحم بيجن، لم يجرؤ على المواجهة التي يخوضها الآن، لتغيير أسس الدولة العلمانية، ائتلاف الليكودي نتنياهو مع أقصى أحزاب اليمين الديني المتطرفة. وهي المواجهة التي أعادت نتنياهو لرئاسة الحكومة للمرة السادسة بشرط تمرير قوانين من البرلمان/الكنيست، تعطي الائتلاف الحاكم بأغلبيته البرلمانية البسيطة حق اختيار القضاة، وتحصين قرارات السلطتين التنفيذية والتشريعية من طعن المحكمة العليا في مشروعيتها أو "معقوليتها"، ولا نقول "دستوريتها"، نظرًا لعدم وجود دستور في إسرائيل.
ورغم كل التحذيرات والمظاهرات منذ مارس/آذار الماضي، تحدى الائتلاف الحاكم الجميع، بما فيهم الإدارة الأمريكية. وأجاز بأغلبيته البسيطة في الكنيست أول تشريع، ضمن حزمة التعديلات القضائية، وهو ما يُسمى بقانون "فقرة التغلب".
كل ممثلي الحكومة في الوزارة والبرلمان لا يملكون مجتمعين أغلبية اختيار قاض واحد
يُمكّن القانون، بالأغلبية البسيطة للحكومة في البرلمان، التغلب على أي طعن أو اعتراض من المحكمة العليا على قرارات الحكومة أو قوانين الكنيست. ومنها الحق في الخصوصية، وحرية التنقل والتملك والتظاهر، والتعبير عن الرأي، وحقوق الأقليات، سواء كانوا من الفلسطينيين في الداخل، أو غيرهم من سكان الأراضي المحتلة. أما الخطوة التالية في هذه التشريعات فتتعلق بكيفية اختيار القضاة.
استقلال القضاء الإسرائيلي
منذ عام 1953، وعلى مدى سبعين سنة، ليس للبرلمان أو لرئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو وزير العدل، رغم أنه يرأس لجنة الاختيار، سلطة منفردة في اختيار أي قاض جديد لأي محكمة. بل حتى كل ممثلي الحكومة في الوزارة والبرلمان لا يملكون مجتمعين أغلبية اختيار قاض واحد.
تتكون لجنة اختيار القضاة في إسرائيل من تسعة أعضاء: وزير العدل الذي يرأسها، ومعه وزير واحد آخر من الحكومة، ونائبان من الكنيست، أحدهما من الائتلاف الحاكم، والثاني من المعارضة، وثلاثة قضاة من المحكمة العليا (منهم رئيس المحكمة، وهي امرأة حاليًا بالأقدمية الصرف، وقاضيان ينتخبهما زملاؤهما)، ثم اثنان من نقابة المحامين، يختارهما مجلس النقابة.
رغم أن رئيس الدولة، وهو منصب رئيس جمهورية رمزي يسود ولا يحكم، هو الذي يعلن تعيين القاضي الذي يحلف أمام الرئيس قسم الولاء للدولة، فإنه لا يملك إلا تعيين من اختارته اللجنة من بين المتقدمين للمسابقة في إعلان عام لأي محام أو قاض أو حقوقي أو أستاذ قانون. وبمجرد تعيين القاضي، لا يمكن لرئيس الدولة عزله أو نقله، حتى يكمل سن السبعين للتقاعد، كما لا يحق للقاضي أو أي مسؤول إبقاؤه قاضيًا بعد هذا السن!
الفارق الوحيد بين اختيار قاضي المحكمة العليا وبين قضاة محاكم الدرجة الابتدائية والمحكمة المركزية الأعلى، بجانب الخبرة الأطول نسبيًا والسن فوق الأربعين، هو أن اختيار قضاة المحكمة العليا، المؤلفة من 15 قاضيًا، يتطلب موافقة أغلبية أعلى من أصوات اللجنة. فلابد أن يوافق سبعة من الأعضاء التسعة على اختيار قاضٍ للمحكمة العليا، بينما يكفي خمسة من عدد لا يقل عن سبعة حاضرين لاختيار قضاة المحاكم الأقل.
أتت المواجهة بعد سنتين من تعاون الفقيه الدستوري مع الضباط الأحرار في صياغة المراسيم والقوانين التي يريدونها
التعديل القانوني الآخر الذي يضغط ائتلاف نتنياهو الليكودي مع أحزاب اليمين الديني المتطرف لتمريره في الكنيست بأغلبيتهم البسيطة، هو إخراج المحامين من عضوية لجنة اختيار القضاة، ليحل محلهم وزير ثالث من الحكومة بدل اثنين، ونائب برلماني ثالث من الكنيست يكون ثاني عضو من نواب الائتلاف الحاكم في اللجنة، مقابل عضو واحد من المعارضة. كما يحل محل القاضيين من المحكمة العليا قاضيان متقاعدان من محاكم درجة أدنى، يختارهما وزير العدل بالتوافق مع رئيس المحكمة العليا.
بذلك التعديل، لو تمكن الائتلاف الحاكم من تمريره، تضمن الحكومة مع نوابها الموالين في الكنيست اختيار القضاة المتفقين مع توجهاتها، حتى في المحكمة العليا التي يريدون أن يكون اختيار أعضائها بنفس الأغلبية البسيطة لقضاة محاكم الدرجتين الأقل، وهي موافقة خمسة أعضاء في اللجنة وليس سبعة من مجموع التسعة، الذي وضعه الليكود نفسه عام 2008 ليضمن حق الفيتو في الاعتراض على اختيار أي قاض بالمحكمة العليا يرفض توجهاته.
"استقلال" القضاء المصري
مائة سنة مرت على دستور 1923، شهدت فيها مصر وقفات عدة لحصول قضاتها على الاستقلال، سواء قبل استقلال الدولة المصرية الكامل بجلاء الاحتلال البريطاني، أو بعد تولي ضباط الجيش الحكم على مدى السنوات السبعين الماضية.
وحتى محاولة التأريخ لنهاية استقلال القضاء بالمواجهة المؤسفة عام 1954 بين عبد الناصر ورئيس مجلس الدولة آنذاك، القاضي عبدالرازق السنهوري، المؤيد لعودة الحكم الديمقراطي شأن الرئيس محمد نجيب المطاح به، والتي انتهت باقتحام أنصار ناصر مكتب السنهوري وضربه بالأحذية، إلا أنها مواجهة أتت بعد سنتين من تعاون الفقيه الدستوري مع الضباط الأحرار في صياغة المراسيم والقوانين التي يريدونها، بدءًا بوثيقة تنازل الملك فاروق عن الحكم، وتشكيل مجلس الوصاية للحكم نيابة عن ابنه القاصر، إلى "قوانين" الإصلاح الزراعي بتجريد ألف من ملاك الأراضي ما يزيد عن مائتي فدان بحوزتهم.
بالتالي، حسمت السلطة التنفيذية، في عهد عبد الناصر وحكم الحزب الواحد، من خلال القانون 43 لسنة 1956 ثم عهد السادات، بقانون 46 لعام 1972، وبعده مبارك وبرلماناته الموالية بأغلبية ساحقة، وقانون 10 لعام 2004، حَسمت كلها عملية اختيار القضاة بأنها بيد "السلطة" التنفيذية، أو "الدولة" فكلاهما واحد.
يخشى الإسرائيليون من توغل السلطة التنفيذية وضياع الديمقراطية
لذلك، أحيت ثورة/انتفاضة يناير الشعبية في 2011 آمال وتطلعات القضاة، شأن باقي فئات الشعب، في تحقيق استقلال القضاء كمطلب وطني ديمقراطي. ومثلما اتُهم دعاة استقلال القضاء في عهد ناصر بأنهم يدافعون عن النظام "البائد" وأحزابه "الرجعية"، سواء كانوا وفديين أو سعديين لاحقًا، مثل القاضي السنهوري، واجه محمد مرسي، أول رئيس منتخب بعد 2011، أكثر من معركة مع القضاء الذي أراد أعضاؤه التأكيد على استقلاليتهم بالنذر اليسير المتوفر في قوانين السلطة القضائية.
كانت أبرز تلك المواجهات في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، حين أصدر إعلانًا "دستوريًا" بتحصين كل قرارات الرئاسة وقوانين مجلس الشورى وعزل النائب العام من منصبه وتعيين مستشار آخر بدلًا منه!
لعل الاحتجاجات والانقسام الشعبي والإعلامي الذي شهدته مصر في تلك الفترة، والذي أجبر الرئيس على التراجع عن بعض قراراته بعد ثلاثة أشهر ولم يتوقف التظاهر حتى تدخل الجيش للإطاحة به وتعيين رئيس المحكمة الدستورية محله مؤقتًا، قد بدا وكأنه صورة مصغرة من التظاهرات في إسرائيل ضد توغل السلطة، خصوصًا ذات الطابع الديني، على باقي مؤسسات الدولة واستقلال القضاء.
وهي انقسامات يخشى الإسرائيليون بالسكوت عليها من توغل السلطة التنفيذية وضياع الديمقراطية، بينما يحذر الأمريكيون من مخاطر الانقسام على وجود الدولة ذاته.
السيناريو المصري في إنهاء التظاهر
كل من طرفي النزاع داخل إسرائيل يخيف الآخر بأن تلحق الدولة العبرية بمصير الدول العربية المحيطة بها، من حيث غياب الديمقراطية، في علاقة الحاكم بمواطنيه، وهي الديمقراطية والمحاسبة الشعبية التي يعتبرونها سبب انتصاراتهم وسبب دعم الغرب لهم، سواء بحق أو بدون.
انتهت المظاهرات واحتجاجات المصريين بعد ثورة يناير بحظر التظاهر نفسه وتقنين تجريمه، وباختيار رئيس الجمهورية ووزير العدل كل قضاة مصر، بعد تدريب الجدد منهم في أكاديمية على أيدي ضباط، وبعد موافقة الأمن والمخابرات والاطمئنان على ولائهم.
وحتى رؤساء الهيئات القضائية يختارهم رئيس الدولة، وينقلهم لمناصب أخرى أو يعزلهم. ولم يعد قضاة المحكمة الدستورية العليا يختارون رئيسهم من الثلاثة الأقدم فيهم، بل اختار الرئيس رابعهم، وفي محكمة النقض اختار ثامنهم وليس خامسهم أو حتى سابعهم أقدمية.
بالتالي، يحذر أنصار الدولة في إسرائيل المتظاهرين والمضربين، حتى من ضباط الجيش والطيارين الحربيين، من مخاطر أن "تكشف البلد ظهرها وتعري كتفها" بهذا الانقسام. بينما يُفضّل المدافعون عن الديمقراطية في إسرائيل الهجرة منها، بدلًا من أن تتحول لأشباه دول فاشلة وقبائل يحكمها مطلقًا أمراء وملوك وجنرالات!