تعيش الصهيونية أزمة متشابكة، تتداخل فيها أسباب مع الأخرى، وكذلك الأسباب مع النتائج، والأيديولوجيا مع الواقع، لكنها في النهاية تدور حول أربعة أشياء: إشكالية الديني والعلماني، وأزمة الهوية، ومشكلة التسكين أو الاستيطان، وتفكك الإطار الفكري بسبب النزعات الاستهلاكية والعلمنة والأمركة والعولمة والخصخصة، لتقود الأزمة في ذروة نضجها إلى ظهور تيار ما بعد الصهيونية/Post-Zionism.
تستند أطروحات ما بعد الصهيونية إلى رؤية مختلفة نسبيًا عن الصهيونية، تكشفت إفلاس هذه الأخيرة وعجزها عن المحافظة على حيويتها، وقدرتها على حل إشكاليات تلفيق عناصر تزعم الجمع بينها، مثل التقليدية والخصوصية القومية والعالمية والتحديث والدين والعلمانية. وإن كانت لم تقدم حتى الآن تصورًا متماسكًا، ولم تنجَ من التناقض الثقافي أو الفصام أحيانًا، ولم تُكمل قطيعتها مع أفكار الصهيونية وتاريخها، ولا تزال بعيدة عن النفاذ إلى السياسات الإسرائيلية بشكل فعال.
ورغم أن بعض من يقدمون هذه الأطروحات يتراجعون عن مواقفهم المعلنة تباعًا، فإن أهمية الفكرة تتضح برصد ردود الفعل الإسرائيلية العنيفة والتي تتضمن قيودًا مادية وتشويهًا معنويًا، لحصار تيار ما بعد الصهيونية، على قلة المنتمين إليه.
لكن الجدل الذي أثارته الفكرة انتقل إلى اليهود في الخارج، بما في ذلك المنظمات أو اللوبيات الموالية لإسرائيل، وكان جزء من حجيته في التأثير هو تفاعله مع بعض أطروحات الليبرالية حول التقليل من الدور الذي تلعبه الإثنيات في تحليل الدولة القومية في الديمقراطيات الغربية.
صدام حتمي مع الحداثة
لا يمكن فصل تمدد تيار ما بعد الصهيونية، الذي يضم من يوصفون أحيانًا بـ"المنفيين وسط اليهود"، عن الثورة المعرفية التي شهدتها العلوم الإنسانية في الغرب ورفضها الكثير من المُسلمات حول التنوير والعقلانية والتقدم، والرؤية التاريخية استنادًا إلى المركزية الأوروبية، ومحاولة تجاوز أخطاء الماضي وتصحيح آثاره المستمرة في الحاضر.
خلصت هذه الرؤية إلى ضرورة إلغاء التمييز داخل إسرائيل على أساس العرق والدين والجنس واللغة والطائفة، وإعلاء مبدأ المواطنة أو المساواة السياسية والاجتماعية بين جميع السكان. واعتبار مصالح الفرد وحريته هي الأساس، عبر مسار ليبرالي، بعيدًا عن فاشية الصهيونية وشوفينيتها. بالإضافة إلى تعزيز المدنية ورفض عسكرة المجتمع الإسرائيلي، والإقرار بكونه متعدد الثقافات.
يعني ذلك بطبيعة الحال الإقرار بالتعددية، بما فيه تفكيك الثنائيات الصهيونية التقليدية التي تحاول الجمع قسرًا بين يهودية الدولة وديمقراطيتها، وتقسم المجتمع على أساس اليهودي وغير اليهودي، مع الادعاء بفرادة اليهود وتميزهم.
يؤسس ذلك مستقبلًا يتجاوز رؤى الصهيونية ومقولاتها وممارساتها، ويرفض تجاهل حقيقة وجود الفلسطينيين وهويتهم، ولا ينكر حقوقهم الوطنية والقومية، ويعترف بمسؤولية إسرائيل عن مأساتهم، ويقر بمشكلة لاجئيهم، ويدرك كل ما ترتب على رفض إسرائيل للسلام الحقيقي من مشكلات، ولا يتجاهل تاريخية الصراع بين الطرفين، ويطرح حقائق فكرية جديدة في مواجهة نزعة حنين اليهود إلى ماضيهم.
ويقع على جانب هذا التيار من يسمون بالمؤرخين الجدد وعلماء الاجتماع النقديين. شهدت إسرائيل مجموعة من المؤرخين الإسرائيليين، سبقوا زمنيًا تيار "ما بعد الصهيونية"، وحولوا النقاش والانتقال من الحديث عن إنجازات الحركة الصهيونية، إلى الحديث عن ثمن هذه الإنجازات، وعن إخفاقات هذه الحركة خصوصًا مع العالم العربي، وموقفها من الهولوكست، واستيعاب المهاجرين اليهود من البلدان العربية، وعلاقتها مع الأقليات والمجموعات الأخرى المهمشة اجتماعيًا.
ميلاد سردية بديلة
دعا المؤرخون الجدد إلى إعادة النظر في المسلمات التاريخية والأساطير التي اتكأت عليها الرواية الصهيونية والإسرائيلية حول ما جرى عامي 1947 و1948، بما فتح الباب لسردية الفلسطينيين عن النكبة، باعتبارها عملية تطهير عرقي لسكان أصليين بطردهم من أرضهم، من أجل إحلال مهاجرين آخرين مكانهم.
واعتبر هؤلاء أن الصهيونية جزء أساسي من الحركة الاستعمارية الحديثة، التي أرادت إيجاد إسرائيل كرأس حربة لمشروعها في منطقة الشرق الأوسط، واتهموا نظراءهم من مؤرخي الصهيونية بصناعة بطولات زائفة لقادة عسكريين إسرائيليين، رغم ارتكابهم فظائع ضد الفلسطينيين في أنحاء البلاد.
ينظر المواطن العالمي المستنير إلى الدولة اليهودية باعتبارها ظاهرة قديمة ومكروهة
أسس المؤرخون الجدد، على رأسهم بني موريس وآفي شلايم وإيلان بابييه وتوم سيجف، سرديتهم على ما ورد في الوثائق والمستندات المحفوظة في الأرشيف الإسرائيلي نفسها، ومعه أرشيف الأمم المتحدة وبريطانيا وغيرهما. وأعطى هذا التوثيق مقولاتهم وتصوراتهم حجة ومصداقية.
صحيح أن تراجع بعضهم إثر ضغوط الإعلام والمؤسسات الأكاديمية في إسرائيل ضيق الخناق عليهم، لكنَّ رؤيتهم لم تلبث أن أطلقت حركة مراجعة نسبية لباحثين ومؤرخين غربيين، طرحوا دراسات مختلفة حول النكبة.
وهناك أيضًا تيار ما بعد اليهودية، الذي جاءت إرهاصاته في سبعينيات القرن الماضي، ويقدم رؤية نقدية لتعامل الدولة الإسرائيلية مع الأقليات من العرب واليهود الشرقيين/السفارديم، في محاولة لتبديل صورة "اليهودي الوطني ضيق الأفق"، ليحل محله "المواطن العالمي المستنير".
ينظر هذا المواطن إلى الدولة اليهودية باعتبارها ظاهرة قديمة ومكروهة وتخريبية بمعاداتها العلمانية، وينقد الأطروحات الدينية الجامدة التي تتعامل مع العلمانيين، في سعيهم إلى بناء الدولة، على أنهم مجرد "حمار" يركبه المتدينون ليصلوا إلى هدفهم الأسمى، وهو الاستيلاء على الدولة، وتجهيزها لمجيء المسيح.
وفي هذا المقام يقول يوسي ميلمان "يتجلى أمامنا بون شاسع بين دولة اليهود، كما أرادوها بالأمس، وبين حالها اليوم. دولة اليهود التي تخيلها هرتزل هي دولة العامة والحرية والتحرر من الإكليروسية، وفيها ينفصل الدين تمامًا عن الدولة. أما واقع إسرائيل الحديثة فهو، برغم هذا، واقع مختلف تمامًا". إذ تحولت إسرائيل إلى "دولة دينية" لا شبيه لها في عالمنا المعاصر.
في ظل هذا، حدث تحول اجتماعي ملموس في إسرائيل نفسها، إذ ظهر جيل يسميه ميلمان الإسرائيليين الجدد، ويصفه بأنه:
"جيل فقد صبره، وتحلى بالنزعة إلى المتعة، وليس عسيرًا تعريفه في إطار الطبقة الوسطى الملهمة بالقناعات السريعة والعطاء القاصر والنتائج الفورية، مع الرغبة نحو حلول سحرية وسهلة لكل الأعباء السياسة والاقتصادية والاجتماعية.
لقد سلخوا من تفكيرهم مبدأ التضحية الفردية، وأخذوا يشككون الآن في تضحيات الإسرائيليين من قبل. إنهم على طرفي نقيض ليس مع مؤسسي الحركة الصهيونية الأوائل وأتباعهم، بل مع الأجيال التالية الأقل مثالية من هؤلاء الأسلاف".
وهناك من يذهب إلى تصور أعمق في نقد إسرائيل، إذ يراها محض إنشاء ينتهك العقيدة اليهودية نفسها، وهنا تبرز حركة ناطوري كارتا، وهي حركة دينية يهودية مناهضة للصهيونية، تستمد اسمها من اللغة الآرامية، وتعني بالعبرية حارس المدينة.
تأسست هذه الحركة في القدس منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، على يد الحاخام أمرام بلاو. وهي لا تعترف بدولة إسرائيل على الأرض الفلسطينية، وترفض إقامة هذه الدولة على حساب شعب آخر، أو دون إذن من الرب، الذي عاقب بني إسرائيل بالتشتت بين الأمم، والتبعية لبلدان عدة.
أما على المستوى السياسي، تأسست عام 1977 حركة السلام الآن اليسارية التي وصف أعضاؤها أنفسهم بـ"الصهاينة العقلاء". وهؤلاء وإن كانوا يعلنون ولاءهم للدولة، فإنهم يرفضون أطروحات اليمين الديني المتطرف بشأنها.
ورغم أن الحركة لا ترفض العنف دفاعًا عن الدولة وأمنها، ولا تناهض المؤسسة الحاكمة، وترفض إقامة دولة فلسطينية، فإنها تطالب بالتخلي عن "أرض إسرائيل الكاملة"، وضرورة الاعتراف بحق الوجود القومي للفلسطينيين، وتؤيد تقليص المستعمرات، مقابل تخلي الفلسطينيين عن المقاومة وحق العودة، وهذا ليس بالقليل.
كان لهذه الحركة زخم في التسعينيات ومطلع الألفية قبل أن يتمدد اليمين أكثر فأكثر في المجتمع والحكومة. ورغم أنها اتخذت موقفًا من طوفان الأقصى لا يختلف كثيرًا عن مواقف اليمين المتطرف، لكن اتساع الهوة بين هذا اليمين وقيم الحداثة يرجح عودتها إلى خطابها النقدي وموقفها المغاير، بل وربما بشكل أكثر عمقًا واتّساعًا.