روبرت ماكروم
ترجمة عن الجارديان
إلى جانب التفجيرات الانتحارية، والضربات الجوية، وقطع الرؤوس، ربما يبدو كتاب مكرس لفرضية ما بعد استعمارية، يناقش حجته بعناية في 300 صفحة، وكأنما يمثل تدخلًا أدبيًا معتدلًا. ومع ذلك، في إطار الصدام الوحشي الدائر بين اﻹسلام والغرب، يبقى تحليل إدوارد سعيد هو التحليل الذي لا يمكن ﻷي مشارك في هذا الصراع أن يكون محايدًا تجاهه.
كتاب "الاستشراق" هو دراسة مؤثرة بشكل نافذ، وخلافية للطريقة التي بها قاتل الغرب الشرق، وهيمن بصفة عامة عليه، من خلال نسخة استعمارية مقنعة لثقافته وسياسته، وذلك على مدى ما لا يقل عن ألفي عام، ومنذ الحروب بين الإغريق القدامى والفرس. وقد كان عمل سعيد المميز حيًا دائمًا، منذ نشره قبل الثورة اﻹيرانية عام 1979 بوقت قصير. واليوم، في عالم أقل استقرارًا، ينبغي أن يوضع في ترتيب متقدم في أي قائمة للنصوص المفتاحية المتصلة بأزمات القرن الحادي والعشرين السياسية/الاجتماعية.
اعتمد سعيد، وهو مفكر لامع عالي الثقافة، على خبرته كفلسطيني-عربي يعيش في الغرب، ليفحص الطريقة التي استعمر بها الغرب المجتمعات القديمة والمعقدة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، وذلك بداية من الثقافة وحتى الدين. وهو يجادل بأن حروب الخليج، ومأساة العراق، هي عواقب مباشرة ﻷيديولوجية قاتلة وفجة تضرب بجذورها عميقًا في العقل الغربي.
إن أي تلخيص لتحليل سعيد بالغ الدقة لتوجهات الغرب وسلوكياته تجاه الشرق، يغامر بأن يصبح محاكاة هزلية. ومع ذلك، ففي نقاط مبسطة، يفحص "الاستشراق" تاريخ الكيفية التي خلق بها الغرب، وخاصة إمبراطوريات بريطانيا وفرنسا، عملية تفكير للتعامل مع "آخرية" عادات ومعتقدات المجتمع الشرقي. وكما يقول سعيد نفسه: "إنني أدرس الاستشراق كتبادل ديناميكي بين مؤلفين أفراد، وبين الاهتمامات السياسية الكبرى التي شكلتها الثلاث إمبراطوريات العظمى (البريطانية، الفرنسية، واﻷمريكية)، والتي أُنتجت أعمال المؤلفين في نطاقها الفكري والتخيلي".
المؤلفون المقصودون يضمون هومر وكتاب الدراما اﻹغريق مثل إيسخيلوس، والذين مثلوا الفرس "الشرقيين" ﻷول مرة في أعمالهم على أنهم غريبون وغامضون، وهو قالب نمطي يُظهٍر سعيد لاحقًا أنه يغشى أعمال كتاب مثل فلوبير، وديزرائيلي في شبابه، وكبلنج، والذين غذت تصويراتهم "للشرق" انبهار الغرب بالمشرق. ويشحذ سعيد النصل السياسي لهذه السردية بشكل أكبر حين يُظهِر الكيفية التي يمكن بها أن تُرى هذه اﻷفكار كانعكاس مباشر للعنصرية والاستعمارية اﻷوروبية.
بعدما أثار نشر "الاستشراق" عاصفة من النقد من كل زاوية عبر الحدود بين الشرق والغرب، أعلن سعيد، في مقال تعقيبي، أن "التقابل بين الشرق في مواجهة الغرب كان في آن واحد مضللًا وغير مرغوب به؛ ومن الأفضل أن لا يحظى بمصداقية كبيرة كوصف واقعي لأي شيء أكثر من التاريخ المبهر لتفسيرات المصالح المتنافسة".
كانت هذه آمال عبثية. ففي قرابة الأربعين عامًا منذ ظهر "الاستشراق" ﻷول مرة، استمر الشرق اﻷوسط، والعرب واﻹسلام، في تزويد التغيير الضخم، والصراع، والجدل، ومؤخرًا الحرب، بالوقود. واستُدرج سعيد، وهو مدافع متحمس عن دولة مستقلة لفلسطين، إلى جدالات سطحية بطريقة ساعدت على تسييس كتاب كان غرضه الأكاديمي اﻷول هو، كما يقول سعيد،، استخدام "نقد إنسانوي لبدء سلسلة أطول من التفكير والتحليل بدلا من الانفجارات القصيرة للغضب التي تشل التفكير وبذلك تسجننا".
لقد تطلع سعيد دائمًا إلى اﻷناقة والصقل في الحجة. فهو يكتب قائلًا: "لقد دعوت ما أحاول فعله (بالإنسانوية)"، وهي كلمة قد تثير دهشة هؤلاء الذين رأوا أنه مشاكس وغير متسامح باستمرار في جداله. ولكنه لم يتراجع: "إنني أعني باﻹنسانوية قبل أي شيء آخر محاولة فك القيود التي يصطنعها العقل (كما عبر عن ذلك بليك)، حتى يمكن للمرء أن يستخدم عقله بشكل تاريخي وعقلاني بغرض الفهم المتأمل والكشف الأصيل. واﻹنسانوية، أكثر من ذلك، يدعمها حس الجماعة مع المفسرين اﻵخرين والمجتمعات والفترات التاريخية اﻷخرى: وبشكل دقيق، ليس ثمة وجود للإنسانوي المنعزل". وربما كانت مأساة سعيد أنه كان عليه ممارسة حرفته كناقد أدبي عظيم في عصر لا صبر له على دقائق اللغة، ولا ذائقة جادة له لتفصيلات الأفكار المعقدة. فخلال حياة سعيد المهنية، كاد كل جانب لدراسته أن يصبح مختزلًا في الشعارات واﻹيماءات العنيفة.
وبالفعل، لاحظ سعيد بخيبة أمل، قبل وفاته في عام 2003 مباشرة، استمرار أثر اﻷيديولوجية "الاستشراقية" على الغرب، فهو يقول: "تمتلئ المكتبات في الولايات المتحدة بالكتابات الطويلة الرثة التي تحمل عناوين صارخة عن اﻹسلام واﻹرهاب، وتعرية اﻹسلام، والتهديد العربي، والهول الإسلامي، وكلها قد كتبها دعاة سياسيون يدّعون معرفة أنتجها الخبراء الذين يفترض أنهم قد اخترقوا قلب هذه الشعوب المشرقية الغريبة ...".
وبينما تستمر الولايات المتحدة وقوى الغرب في محاولة التعامل مع أزمة اﻹسلام في سوريا والعراق ومصر وليبيا، وهي تسارع في مرضاة أمراء الجزيرة العربية المتخمين بثروات البترول، سيبقى كتاب "الاستشراق" النص الذي سيكون على مكتب العلاقات الخارجية ووزارة الخارجية اﻷمريكية العودة إليه لتجديد بحثهما عن فهم متبادل في الصراع بين الشرق والغرب.
لقد كان سعيد دائمًا عدوًا شرسًا للنظريات حول "صراع الحضارات". وقد جادل بأناقة ووضوح عظيمين، وجادل من أجل تحقيق تقدم فكري. وبينما اشتغل جدل كتاب "الاستشراق" حوله، كتب قائلًا: "إن واحدة من خطوات التقدم العظيمة هي التحقق من أن الثقافات مهجنة وتعددية، وأن الثقافات والحضارات متصلة ببعضها ومعتمدة على بعضها إلى حد تجاوز أي وصف مرسوم ببساطة لفرادة أي منها". وهو يمضي متسائلًا، كيف "يمكن للمرء التحدث عن (حضارة غربية) إلا كحكاية خيالية أيديولوجية أعطت اﻷمم الغربية هوياتها المختلطة الحالية؟ إن هذا صحيح بصفة خاصة فيما يتعلق بالولايات المتحدة، والتي يمكن اليوم وصفها فقط على أنها مخطوط مُحي وأعيدت كتابته لأجناس وثقافات مختلفة تتشارك تاريخًا إشكاليا للغزو، والتصفيات العرقية، وبالطبع للإنجازات الثقافية والسياسية الكبرى".
في كلمات يمكن أن تزودنا بتقدمة لهذه السلسلة، قال إتالو كالفينو مرة إن العمل الكلاسيكي هو كتاب "لم يُنه أبدًا ما أراد قوله". و"الاستشراق" هو أحد هذه الكتب.