نيل جولدشتاين لموقع ليت هَب
"عزيزي نيل،
إنّني أتجنَّبُ الأشياء مؤخَّرًا. أقوم بالتدريس في جامعة هيوستن في فصل الربيع القادم..
إدوارد آلبي"
حينما كنتُ في السابعة عشرة، شاركتُ في مشروع كاليفورنيا لكُتّاب المسرح الشّباب. أحدُ أهمّ الأحداث في ذلك المشروع كان زيارةً قام بها الكاتب إدوارد آلبي Edward Alpee -الحائز على عدد من الجوائز الرفيعة- للعديد من المدارس الثانوية، وذلك كي يقوم بمناقشة ونقد أعمال واحد أو اثنين من الطُّلّاب. حينما علمتُ بتلك الفرصة، كنت مصمِّمًا على أن يتمّ تناول عملي بالنّقد. حتى في ذلك الوقت (في هذا العمر الصغير)، كنت أعلم أنّها فرصة العمر.
كنت أعرف إدوارد لأنّ أمّي كان لديها أسطوانة من عرض برودواي لمسرحيته "مَن يخشى فيرجينيا وولف". قبل زيارته، قرأتُ المسرحية، رغم أني لم أفهم تمامًا التعريضات وإشارات التهكُّم الواردة في العمل.
كتبت مسرحية عن عائلةٍ تشاهد التلفاز كثيرًا جدًّا. كانت العائلة قد ابتُلعَت داخل التلفاز، حَرفيًّا، من خلال الإعلانات التجارية. كان عنوان المسرحية: عائلة فيلكو Philco Phamily، فيلكو كانت إحدى أقدمَ الشركات الأميركية التي كانت تصنع تلفزيونات المنازل. بعد نحو أسبوع أو عشرة أيام، اكتمل المشهد الأول، ووضعتُ مُخطَّطًا لما ستكون عليه بقية المسرحية. كان من المثير أن أسمع الحوارات تدور في رأسي، ثم أقوم بإلقائِها بصوتٍ عالٍ كي أتبيّن إن كان الحوار يبدو واقعيًّا أم مُصطنعا.
اُختيرَتْ مسرحيتي للعرض أثناء زيارة آلبي. كنتُ أوجِّه رفقائي في الفصل لكيفية أداء النّص. لقد عملنا معًا باجتهادٍ كي نُخرج ذلك النّص في قراءة مسرحية (نوع من الأداء المسرحي، يقوم فيه المؤدون بقراءة المسرحية دون حركة أو ديكور أو إضاءة). كان لا بدّ أن يكون مُتقنًا؛ فأحدُ الحائزين على جائزة توني Tony Award وجائزة بوليتزر سيُشاهد عملي. لم أرغب أن أقع في الإحراج أمام نُظرائي ومعلميني، والأهم من ذلك؛ أمام إدوارد آلبي.
أتذكَّرُ أنّ آلبي دخل قاعة الاجتماعات الموجودة بالمدرسة بصحبة أحد ممثلي مشروع كُتاب المسرح الشّباب. كان لديه شعر يتهدّل على جانبي رأسه، تختلط فيه الشعيرات البيضاء والسوداء، وشاربٌ يُشبه شَّعر وجه تلك النُسخ المِثليَّة في فترتي السبعينيّات والثمانينيّات. كان لديه قوامٌ معتدل، وكِرشٌ خفيف. مظهره كان غير رسمي وهو يرتدي الجينز، وقميصًا منقوشًا بمربّعاتٍ مغلقٌ بالزراير.
قُدِّم آلبي للحضور، ثم قدمنا المشهد الذي كتبته. أعار آلبي العرض كامل انتباهه، وتبع ذلك بتقديم نقدٍ مُدهش. قال إنّ العرض يذكَّره بمسرحية دراميّة رآها في يال أو برينستون (جامعتان مهمتان)، ومسرحيتي كانت كوميديّة. حين سمعتُ هذا، أحسستُ أنّ عملي قد لا يكون بكفاءة العمل الذي قام طلبة جامعات رابطة اللبلاب Ivy League* بتقديمه، وانتابني أنينٌ كئيب. تجاهل آلبي الأمر على وجه السرعة. قام بتشجيعي ككاتب، وقال على أن أمضي قُدمًا في هذا المسار.
بعد عدة سنوات منذ تلك الواقعة، أدركتُ أنّ آلبي كان يعمل على إنماء شبابٍ موهوبٍ في جميع أنحاء الولايات المتحدة. إنه لمذهلٌ أن ترى رجلًا ناجحًا ومتحققًا مثله يريد أن يرُد للجمهور معروفًا عبر تشجيع الناس على الكتابة. منذ ذلك الوقت، مارسَتْ الكتابةُ دورًا هامًّا في توثيق حياتي، وخبراتي، ومشاعري.
المشاهد التي عرضناها كانت بمثابة نقطة انطلاقٍ لآلبي كي يجري نقاشًا عن الكتابة، ويقدّم لنا أدوات تعيننا في فن الكتابة.لقد ظلّت بعضُ دروسِ ذلك اليوم ماثلةً في ذهني. عليّ أن أُعيد صياغة ما قاله، بخصوص متى يقوم المرء بتدوين قِصّة:
"لا تكتب شيئًا على عجل. لو فعلت، ولم يكن جاهزًا؛ فإنّه لن ينتهي أبدًا. فلتبدأ الكتابة فقط حين تجيش بصدرك الكتابة، وتكون على وشك الانفجار. حينها ستعرف متى يكون عليك أن تكتب- حين تفقد القدرة على الاحتفاظ بالأمر داخلك، ويكون عليه أن يتجلّى في الخارج".
في كلّ ما أكتُب، أبدأ فقط حينما تكون الكلمات على وشك أن تثور كالبركان. وبتنفيذ هذا، أشعر أنّ ذلك يجعل كتابتي رنّانة، حيّةً وقويّة. ثم أعاود النّص بالتحرير بعد أن يكون كلّ شيء قد خرج على الشاشة أو إلى الورقة. أفعل هذا أيضًا مع الكتابات الشخصية حتى عندما أرغب في إزاحة حِملٍ يُثقِلُ على صدري، وأريدُ الإفضاء به لصديق أو فردٍ من العائلة، (المفتاحُ هو التحرير، قبل أن تضغط زرّ الإرسال).
شاركنا آلبي طريقة تتيح للمرء أن يفهم شخصياته التي يكتبها بشكلٍ أفضل: ضع الشخصيات في موقفٍ لا يمكن أن يحدث لها أبدًا في سياق المسرحية أو القصة التي تكتبها. أتذكَّرُه وهو يخبرنا أنّ هذا التمرين مثاليٌّ ويمكن ممارسته أثناء قيادة المؤلف سيارته لمسافة طويلة. على سبيل المثال: ما الذي كان يتحدّث فيه جورج ومارتا من مسرحية "وولف" في ليلتهما الأولى من شهر العسل، بعد العَشاء؟ القيام بهذا يُفسح للكاتب مجالًا كي يفهم شخصياته بشكلٍ أفضل، وليُضْفي على الشخصيّات مزيدًا من العُمق. إنها حقًّا تقنية مفيدة لأجل تطوّر الشخصية.
أثناء فقرة طَرح الأسئلة وتلقِّي إجابته عليها، سألتُه من أين أتى بعنوان مسرحيته "مَن يخشى فيرجينا وولف". "رأيتها مكتوبة بالصابون على مرآة، خلف منضدة بار في القرية، كان ذلك حوالي العام 1953، والتصقَ الاسم في رأسي". تحيّنَ الفرصةَ ليواصل الحديث دونما توقّف، مُسهِبًا في شرح كيف أنّ جميع مَن تقابلهم، أو أيّ خبرةٍ تمرَّ بها – حتى لو كانت للحظة- يمكن أن تكون ذات فائدةٍ في كتابةٍ مستقبليّة. ولهذا السبب أحملُ معي دومًا دفتر ملاحظات، في حالة سماعي جملةً عابرة مثيرة للاهتمام، أو كي أدوّن ملاحظاتٍ صغيرة لأذكِّرَ نفسي ببعض الأشياء.
في عمر السابعة عشرة، قام واحدٌ من أهم كُتّاب المسرح في القرن العشرين بتقييم عملي. لم يتحدّث إليّ باعتباري مُراهِقًا. بَل تحدّث إليّ باعتباري كاتبا. لقد كان أمرًا باعثًا على الانطلاق أن يتعامل معي شخصٌ في مقامه بمثل هذه الجِدِّيّة. لقد عاينَ وفهم أنّي بذلتُ طاقتي ومشاعري في المسرحية، وقام بريّ تلك البذرةَ الصغيرة بداخلي.
بعد أن أتممتُ كتابة "عائلة فيلكو"، أنتجناها في مدرستي في عرضٍ أو اثنين. كان أمرًا مثيرًا أن أرى عملي تدبّ فيه الحياة. أفضلُ ما في الأمر، أنّ الجمهور قد استمتع بالعرض.
في عام 2010، وعلى سبيل المرح، كتبتُ إلى آلبي أشكره على تلك اللحظة التي حدثت في حياتي منذ ثلاثةٍ وعشرين سنةً مضتْ. بعد عدّة أسابيع، تلقّيتُ منه خطابًا بخطّ اليد. لم يفقد إدوارد آلبي أبدًا رُوحه المعطاءة وتشجيعه للآخرين. إنّ الخيرَ يأتي في صورٍ عدّة. بالنسبة لإدوارد آلبي، كان يتمثّل في وَهْبِ وقتَه الثّمين، للأجيال القادمة، وأن يجعل كلّ شخصٍ يشعر أنه مميّزٌ ويستحقّ.
شكرًا لكَ إدوارد. مُمتنٌ لكَ إلى الأبد، لأجل الوقت الذي وهبتَني إيّاه.
Neil Goldstein نيل جولدشتاين جليك: كاتب، ومسؤول سابق في حكومة مقاطعة كولومبيا، يعيش حاليًا في واشنطن. المقال مُجتزأ من سيرته الذاتية غير المنشورة.
رابطة اللبلاب Ivy League: اسم يطلق على مجموعة من الجامعات الأمريكية رفيعة المستوى عالية الإمكانيات ومنها ويال وبرينستون المشار إليهما في الفقرة وكذلك هارفارد وMIT وكلية كاليفورنيا للتكنولوجيا.