برخصة المشاع الإبداعي: Alisdare Hickson، فليكر
متظاهرون في لندن يرفعون لافتة تضامن مع حق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة 11 نوفمبر 2023

فلسطين التي نريد| الإسلاموفوبيا أرضية للوحدة

منشور الثلاثاء 18 يونيو 2024

في فترة شبابها المبكر، وخلال صيفين متتاليين، سافرت صديقة سينمائية أرجنتينية للعمل تطوعًا في كيبوتس إسرائيلي. أرسلها أبواها اليساريان إلى هناك لتتعلم الاشتراكية من الممارسة المباشرة. وتوقَّفت عن الذهاب بعد أن فجرت في وجهيهما مفاجأتها؛ الاشتراكية التي وجدتها في إسرائيل تختلف عن تلك التي يتخيلونها ويتحدثون عنها في بيتهم.

هذه الحالة ليست استثنائية، ففي أوروبا وأمريكا اللاتينية، هناك سياسيون يساريون، مشهورون ومجهولون، تطوعوا شبابًا، بضعة أشهر أو سنوات، في كيبوتسات إسرائيلية.

تشترك الصهيونية مع النازية في دعاوى بناء ما يسمونه بـ"الوطنية الاشتراكية". فيعتمد كلا المشروعين على فكرة تأسيس وطن جديد، كبير ومسيطر، يتساوى فيه مواطنوه العظام. لكنَّ الوطنية في النموذجين تطغى على الاشتراكية وتأتي قبلها، لتحصرها في استخدام بعض الأدوات التي تبدو اشتراكية، كونها فاعلة في بناء تجمعاتها الأولى وخلاياها الأساسية، والأهم بناء المجد الشخصي لأصحاب السلطة، دون إلغاء الطابع الرأسمالي المتوحش للنموذجين، وطبيعتهما الاستعمارية، واعتمادهما على منهج الاستيطان قبل أي دعاوى اشتراكية.

جماليات القتل

الجدار العازل كما يظهر في فيلم "الطريق 181" (2003)، إخراج ميشيل خليفي وإيال سيفان

بينما أشاهد فيلم The Zone of Interest/مجال الاهتمام (2023)، الحاصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، انتبهت إلى أنَّ الصهيونية لا تشترك مع النازية فقط في خطابات الوطنية الاشتراكية، بل ورثت سماتها الجمالية أيضًا.

يعرض الفيلم ملامح من حياة عائلة رئيس معسكر الاعتقال والحرق في أوشفيتز، في الجزء الذي ضمته ألمانيا إليها من بولندا بعد احتلاله واستيطانه. يشترك بيت العائلة مع المعسكر في الجدار. وبينما نسمع صرخات المعتقلين أثناء تعذيبهم أو عند اقتيادهم لغرف الغاز والحرق، نتأمل التفاصيل اليومية، "العادية"، لهذه العائلة من المستوطنين النازيين.

لا يُدرك صناع الفيلم، غالبًا، هذا التطابق في التفاصيل الجمالية بين حياة المستوطنين النازيين وحياة المستوطنين الصهاينة. لكنَّ مشاهدي الفيلم، ممن شاهدوا أفلامًا إسرائيلية أو تحقيقات مصورة في مستوطناتها، ويتمتعون بالنزاهة الفكرية، سيلاحظون هذا التشابه؛ البيت الملحق به مزرعة صغيرة قابلة للتوسع، والجدار الكبير الذي يفصله عن المعسكر ويستدعي إلى الذهن جدران الفصل العنصري في الضفة الغربية، المبنية بحيث تحول القرى الفلسطينية لكانتونات، وليتحول أحيانًا البيت الفلسطيني لمعسكر اعتقال محاط بالجدران وبوابة كهربائية، يملك المستوطنون المحيطون به مفتاحها.

وهذا الزرع الذي يتسلق الجدار من جانب واحد، جانب السادة. وأخيرًا الألوان الكئيبة، وملابس الأشخاص التي تعكس محافظتهم وتقليديتهم وعلاقاتهم المكبوتة بأجسادهم، وصولًا لطريقتهم في الحركة والتعبير الجسدي. والأهم الحياة على بقايا الضحايا، سرقة أغراضهم والانتفاع بها وكأنها ممتلكات المستوطنين.

ربما يبدو تلاقي النازية مع الصهيونية واليهودية المتطرفة في الجماليات مجرد مفارقة طريفة، لكنه، وبإضافته لأفكار الوطنية الاشتراكية التي تجمعهما، يعبِّر عن الواقع الآني وبشكل مباشر وفج، مناسب للقرن الحادي والعشرين.

يوثق التحقيق الكثير من الوقائع المرتبة زمنيًا لما يعرفه الأوروبيون والأمريكيون جيدًا، ويتبدى بفجاجة طوال الشهور الماضية؛ أن دولة إسرائيل، وليس فقط حكومتها أو نتنياهو أو حزب الليكود، تغيِّر تحالفاتها الاستراتيجية، ليصبح اليمين المتطرف والعنصري الأوروبي أقرب إليها، بدلًا من تيارات الوسط. في الوقت الذي تتخذ فيه مواقف عنيفة ضد الحكومات الأوروبية التي اعترفت بدولة فلسطين، وضد أي نقد يوجه إليها.

لنفرق سريعًا بين الإعجاب والتماهي. إعجاب تيارات وقوى اليمين العنصري المتطرف بإسرائيل نابع من سقوط وهم ديمقراطيتها نفسه، وانكشاف حقيقتها كدولة ذات رائحة عفنة، وقدرتها على فعل ما تريد دون الخضوع لأي مواثيق أو معاهدات أو أعراف دولية. وهو ما يتلاقى مع جوهر مشروع اليمين المتطرف الأوروبي والأمريكي، الرافض للتراث الديمقراطي، والحالم بإنهائه.

أما التماهي مع نموذج دولة إسرائيل، وبالذات خلال السنوات الأخيرة، فهو نتيجة لأساس عنصري مركب. فهذا اليمين الأوروبي والأمريكي المتطرف معادٍ في العمق للسامية، وتضم صفوفه على المستوى الأوروبي أحزابًا وقوى تنكر المحرقة، أو لا تزال تمجد موسوليني وهتلر، أو لا ترى في كل أعضاء سرب الحماية النازي (قوات الـ إس إس) مجرمين. وهي تيارات لا ترغب من ناحية في عودة اليهود لبلدانهم الأصلية الأوروبية، ومن ناحية أخرى، تشترك مع إسرائيل، دولة ومجتمعًا، في عنصريتها نحو العرب والمسلمين، واعتبارهم عدوًا أساسيًا.

جدران ضد "المورو"

"المورو" هي لفظة التحقير العنصري القديمة للعرب في إسبانيا. وفي حملة انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، ورغم أن استخدامها مُستهجن، رفع سانتياغو أباسكال، زعيم حزب "بوكس" وريث الفاشية الفرانكية، الذي يصنفه اللوبي الإسرائيلي في أوروبا على أنه الصديق الأوروبي الأكثر إخلاصًا لإسرائيل، شعار "فلنبنِ جدرانًا لمنع وصول المورو".

لا أبالغ إن قلت إنَّ هذه الجدران التي يريدها أباسكال، تتشكل في خياله صورةً عصريةً لجدران معسكر أوشفيتز ضد اليهود، ممتزجة بجدران الفصل العنصري في الضفة الغربية ضد الفلسطينيين. ففي اليوم التالي مباشرة لاعتراف الحكومة الإسبانية بدولة فلسطين، زار إسرائيل، لدعمها، والتقاط الصور مع صديقه نتنياهو.

لم ينحصر رد الفعل على هذه الزيارة بين جدران البرلمان الإسباني، حين وصفته أطراف عدة بـ"صديق جزار رفح" في الجلسة التالية لعودته من إسرائيل، بل امتد لارتفاع حدة التصريحات الرسمية ضد نتنياهو وحكومته، وإعلان إسبانيا انضمامها إلى دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، وبداية التلميح الرسمي بأن ما يحدث في غزة "إبادة".

هل سيكون بإمكان إسرائيل أن تستعيد حلفاءها السابقين التقليديين؟

يمكن أن تُحدِث التحالفات الجديدة لإسرائيل تأثيرًا عكسيًا مواتيًا لنا، باتخاذ بعض القوى السياسية الوسطية مواقف أقرب للفلسطينيين. لكنها من الممكن أن تُحدث أكثر من ذلك، وتُفقد إسرائيل حلفاءها التقليديين، المتمثلين في اليمين واليسار الوسطيين، الحكام التقليديين لدول أوروبا واتحادها، والمؤثرين الأساسيين في سياسات أمريكا الشمالية.

بعض هذه القوى لا يمكنها النظر بارتياح لهذا التقارب والتحالف الجديدين بين إسرائيل واليمين المتطرف. بل إن هذا التحالف قد يساهم في تكريس صورة إسرائيل كدولة منبوذة أمام قطاعات واسعة من المواطنين المفزوعين من صعود اليمين المتطرف، ومن المحتمل أن يُنتج أسئلة أكثر عمقًا تمس جوهر مشروع دولة إسرائيل المعتمد على التطهير العرقي، أبعد من ممارستها السياسية والعسكرية.

هذا التحول؛ أي ابتعاد القوى الأوروبية التقليدية بخطوات واسعة عن تقاليد دعم إسرائيل غير المشروط، من الممكن أن يُحدث تأثيرًا جديدًا في إسرائيل على المدى المتوسط، وإن كان مستبعدًا بسبب حالة الضعف والاهتراء غير المسبوقة ليسارها، واشتداد النزعة اليمينية والمتطرفة الواصلة لحد الإجرام داخل المجتمع الإسرائيلي، وهو يرجح "الاستبدالية"، أي أن يستبدل رفض نتنياهو وحكومته وليكوده، برفض ممارسات إسرائيل كدولة، لتتم التضحية بهما؛ نتنياهو والحكومة، في لحظة الضرورة، لتستعيد إسرائيل قبولها دوليًا، وليعود التقارب مع حلفائها التقليديين.

لا مفاجآت في الموجة اليمينية

لم تسفر نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي قبل أسبوعين عن أي مفاجآت، بل توافقت مع التوقعات واستطلاعات الرأي؛ تراجع لليسار، ثبات نسبي لقوى اليمين التقليدي في أغلب بلدان الاتحاد الأوروبي، وليس كلها، واستمرار موجة صعود تيارات اليمين العنصري والمتطرف، الحليف الجديد لإسرائيل. وهو ما يمكن اعتباره عاملًا غير مواتٍ لتحقيق نبوءة إيلان بابيه بنهاية دولة إسرائيل.

لكن، وفي الوقت نفسه، لا يمكن إغفال أنَّ الصعود اليميني المتطرف أوروبيًا له سقف، سيتراجع بعد الوصول إليه، لصالح استعادة القوى الوسطية قبولها وشعبيتها الكاسحة، المنسجمة مع مزاج أوروبي كاره للمغامرات بعد الحرب العالمية الثانية. وخصوصًا بعد دخول رجال الأعمال الكبار على خط الصراع الانتخابي الأخير، محفزين الناخبين على عدم التصويت لليمين المتطرف الضار بمصالحهم المرتبطة بأوروبا الموحدة.

فيظل السؤال، هل سيكون بإمكان إسرائيل أن تستعيد حلفاءها السابقين التقليديين؟! وإن كان ذلك ممكنًا، فكيف؟!

هذه المسألة لا تتعلق فقط بقدرات إسرائيل الذاتية، أو بدرجة تسامح القوى السياسية الأوروبية التقليدية معها بعد توقف الإبادة وتراجع اليمين المتطرف مستقبلًا، بل أيضًا بعاملين أساسيين؛ الأول هو قدرة القوى اليسارية والتحررية والمنحازة تاريخيًا للحق الفلسطيني، والعرب المقيمين في أوروبا، على الدفع باتجاه تجذير المواقف الأوروبية الجديدة الناقدة لإسرائيل، ومن ضمنها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، حتى لا تظل مجرد اعتراف رمزي أو بروتوكولي، لتعمق الفجوة بين الأنظمة الأوروبية ومشروع دولة إسرائيل.

لهذه العملية مسارات عدة، من بينها الضغط من أجل حظر أسلحة كامل وفاعل ضد إسرائيل، وعقوبات اقتصادية مماثلة لما اتخذ ضد روسيا بعد غزو أوكرانيا، ومقاطعة ثقافية وأكاديمية لكل الهيئات الثقافية والجامعات الإسرائيلية، وتجميد العلاقات الدبلوماسية، وغيرها الكثير.

أما العامل الآخر، فمتعلق بالفلسطينيين، متعلق بهذا الجدار (إسرائيل) المعرض للانهيار، لكنَّ شروط انهياره لا تنحصر في ملاءمة المناخ العالمي، أو الانقسامات الداخلية في إسرائيل، بل أيضًا على ما سيفعله الفلسطينيون. ففي لحظة انهيار الجدار، من سيتحكم في كل الغبار والركام الذي سيحدث؟! من هو الطرف القادر على تشكيل البديل لملء الفراغ؟! وما هو خطاب ومشروع هذا الطرف، الموجه أولًا للشعب الفلسطيني، وثانيًا لليهود الباقين ممن لا يملكون مكانًا آخر للذهاب إليه، وثالثًا للشعوب العربية، ورابعًا للرأي العام الأوروبي والأمريكي.

مشاريع التهجير وتفريغ الضفة وغزة لم تُدفن نهائيًا، لذلك سيكون على هذا الطرف الفلسطيني، الذي ننتظر ظهوره، التصدي لأهواء حكام المنطقة، المساومين التقليديين على حقوق الشعب الفلسطيني وحقوق شعوبهم. وهو موضوع المقال القادم.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.