في أوقات الفراغ السياسي، وحين لم تتمكن التنظيمات الحركية تاريخيًا من جذب الشباب الفلسطيني واستيعابه، لجأ بعضهم إلى إطلاق "حراك" لا قوام تنظيميًا متدرجًا أو تراتبيًا له، ولا يلتزم بأيديولوجيا معينة، يهدف إلى الإبقاء على النشاط السياسي حيًا، وإطلاق صرخة احتجاج في وجه المنظمات التي تتصدى للعمل الوطني دون أن تشكل أطرًا فاعلة تقدم برامج وتتخذ مواقف قادرة على مواجهة التحديات وتحصيل التأييد الشعبي الواسع.
هذا الحراك الشبابي الفلسطيني المتراكم تاريخيًا، قدَّم فرصًا سانحة لتأسيس التنظيمات الفلسطينية الأكثر تأثيرًا. فبعد الشلل الذي أصاب "المؤتمر العربي الفلسطيني" الذي كان بمنزلة برلمان فلسطين وقيادتها السياسية حتى أواخر عشرينيات القرن الماضي، طفا على السطح مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني في الثلاثينيات.
وفي القاهرة مطلع الخمسينيات، برزت "رابطة طلبة فلسطين" التي أفرزت فيما بعد حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، بينما كان الطلاب الفلسطينيون في الجامعة الأمريكية في بيروت يؤسسون "جمعية العروة الوثقى"، التي أنتجت "حركة القوميين العرب"، وانبثقت عنها لاحقًا "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".
ولما حلت سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، شكَّل الحراك الشبابي أذرعًا لفصائل وأحزاب، وظفته في تجديد طاقتها وتوسيع شعبيتها، ثم انتبهت لضرورة تكوين كتل تابعة لها أو نابعة منها بين الطلاب والشباب، تنافست داخل الاتحاد العام لطلبة فلسطين.
ثم لم تلبث أن امتثلت لإرادة القيادة الفلسطينية في التسعينيات ببناء سُلطة على طريق إقامة دولة، مثلما نصت على ذلك اتفاقية أوسلو. وانخرط بعض الشباب في هذا المشروع الذي يمتزج فيه الإداري بالسياسي، ويتخفف من الأيديولوجيا إلى حد كبير، لا سيما في ظل انهيار الكثير من المنظمات الشبابية والطلابية، بما فيها الاتحاد العام لطلبة فلسطين، الذي توقفت انتخاباته عام 1990، وتلاشت فروعه في دول عدة.
وهناك آخرون رفضوا حالة "اللا سياسة" هذه، ووجدوا بغيتهم في انتفاضة الأقصى التي اندلعت عام 2000. لكن مواجهة إسرائيل العنيفة للانتفاضة، جعلت كثيرًا من الفلسطينيين يعودون للإيمان بالكفاح المسلح، ويعلقون المسؤولية في رقبة المنظمات الفلسطينية القائمة بالفعل، وعلى رأسها فتح وحماس والجهاد والجبهة الشعبية.
في ضوء هذا، صارت الحراكات الشبابية الفلسطينية ترى أن دورها بعد عام 2010 هو إشغال المجال العام بالخروج إلى الشارع، وتنظيم الاعتصامات والإضرابات ونصب الخيام للنازحين، والتثقيف السياسي بحوارات مباشرة حول القضايا الأساسية، وعلى رأسها إنهاء الانقسام الفلسطيني الممتد منذ 2007، وإعلان رفض سلطة المكاتب، وإعادة الاعتبار للسياسة بوصفها فعلًا شعبيًا، وممارسة الضغط على متخذي القرار في التنظيمات الفلسطينية. لكن ذلك كله كان يحدث على نطاق ضيق، ودون أن تنجح هذه الحركات في بناء قواعد جماهيرية لها.
ثم جاء الربيع العربي، الذي صاحب ثورة اتصالات أعطت الشباب الفلسطيني في الداخل والخارج، فرصةً لإعادة "التشبيك" في العالم الافتراضي، في عملية لا تتطلب تحديد قيادة تتخذ القرارات الفوقية بل يمكن أن تتخذ القرارات بالتوافق أو الإجماع، خاصة مع الضيق من احتكار السلطة، وظهور فرصة لممارسة أنماط من مغايرة من العمل السياسي.
وبين 2011 و2018، وُلدت حراكات شبابية كانت الأكثر عددًا في التاريخ الفلسطيني منذ النكبة. في الضفة الغربية والأردن وسوريا، وفي العالم الافتراضي.
كان الباحثون الفلسطينيون واعين تمامًا لهذا التحول النسبي في مسيرة كفاحهم الطويل، فرأينا الدكتور أحمد جميل عزم، عضو المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية والأكاديمي في جامعة بيرزيت، يعطي الموضوع عناية، فيقود مجموعة باحثين لدراسة الظاهرة في كتاب بعنوان الشباب الفلسطيني: من الحراك إلى الحركة، بعد دراستي جميل هلال الشباب الفلسطيني: المصير الوطني ومتطلبات التغيير، ورؤية نقدية استشرافية: الحراكات الشبابية الفلسطينية.
الحراك الفلسطيني: سمات وأزمات
تتفق هذه الدراسات على وجود عدة سمات للحراك الشبابي الفلسطيني، من بينها التبرؤ من الحزبية والفصائلية، أو العمل باستقلالية عنها، حتى وإن كان بعض هؤلاء الشباب ينتمون إلى هذا الفصيل أو ذاك. وكذلك غلبة روح الرفض على حضور المشروع، فهذه الحركات تعرف ما لا تريد أكثر من معرفة ما الذي تريده. تنتقد وتنقض دون أن تطرح بديلًا، رغم أنها تتمنى لو تمكنت من تحقيق ذلك.
كما أنها ترفض وجود قيادة مركزية لها، أو بنية سياسية واجتماعية واقتصادية متماسكة لعملها، وتفرض الالتزام بتصوراتها وقراراتها، ولذا فهي تعمل من خلال "نشطاء" وليس "أعضاء"، وتتخذ قراراتها بالتوافق أو الإجماع.
انشغل الحراك الشبابي الفلسطيني في كثير من الأحيان بمخاطبة الخارج أكثر من تثوير المجتمعات المحلي
ولا تقيم هذه الحراكات وزنًا للعقائد السياسية أو الأيديولوجيات والبرامج، إنما تتخفف منها تمامًا، وتفضل الحلول العملية المباشرة، والانخراط في صفوف الجماهير دون تردد. وقد يكون هذا ما يؤدي إلى أن تتصف بالموسمية وغياب الاستمرارية، فهي تولَد لتؤدي دورها ثم تتوقف، تتوهج ثم تنطفئ، لتعود وتبزغ من جديد، ولو بعد حين. ما يعني أنها ذات طابع رمزي ومشهدي.
أدى ذلك إلى أن تفتقر هذه الحراكات إلى الرؤية السياسية الشاملة، التي تتصدى بوعي وتكامل للمشروع الاستعماري الإسرائيلي، نظرًا لانهماكها في قضايا محددة فرعية في الغالب، تعبئ الناس حولها، لكنهم لا يلبثون أن يتخلوا عنها.
ولا تفوت هذه الدراسات الإشارة إلى الطابع الشبابي الذي يغلب على هذه الحراكات. ولأن الشباب ليسوا فئة متجانسة، ولا تمثل وسيلة التواصل التي يعتمدون عليها، أي الإنترنت، وسيلة ناجعة في كل الأحوال والمواقف لتحقيق أهدافها، فهي تجري في أوصال "عالم افتراضي"، حتى لو سهَّل لها التفاعل المؤقت.
وبينما اتسمت هذه الحراكات بالمحلية، أو العمل داخل مجتمع ضيق في الواقع المعيش، فإنها انشغلت أيضًا في كثير من الأحيان بمخاطبة الخارج، ومحاولة جلب تعاطفه، أكثر من اهتمامها بتثوير المجتمع الفلسطيني المحلي، وبناء وعي يشكل مقاومة شاملة تُطوِّر بدائل عيش بعيدًا عن حيز الاحتلال الإسرائيلي.
هذه السمات ليست كلها إيجابية، بل فيها الكثير من السلبيات. فالافتقار إلى الأيديولوجيا يؤثر أحيانًا على التماسك والديمومة، والافتقاد للقيادة المركزية يعزز الانقسام والتشظي، وهشاشة الهيكل التنظيمي يؤدي إلى التصدع السريع، والعضوية الفضفاضة تؤثر سلبًا على الانتظام والالتزام داخل العمل السياسي، والاعتماد على وسيلة منخفضة التكلفة مثل السوشيال ميديا لا يأتي بعائد كبير.
لهذا، لا بد من إجراء نقاش عميق يجعل الحراك أكثر فاعلية واستقرارًا، لا مجرد شرارة ما إن تبزغ وتنطلق حتى تتلاشى. وعلى هذا النقاش أن يمتد إلى التثقيف السياسي، ودعم التنظيمات القائمة بالفعل، وتعبئة الجمهور في أوقات الأزمات حول القضايا الكلية، والاستفادة مما تمنحه الأيديولوجيات لمعتنقيها من قوة واستمرار.
وبينما ينبغي أن يتحلى هذا النقاش بالواقعية في تقييم القوة وتوظيفها، عليه الإلمام أيضًا بوسائل توحيد أو على الأقل تناغم الأفكار والأمزجة، وخلق المصالح المشتركة، وتعزيز الثقة المتبادلة، وإدراك خصائص المجتمعات التي تقوم فيها حركات التحرر الوطني.
هكذا تُخلق النواة الصلبة للكفاح، ومن حولها جبهات المساندة، ودوائر التضامن الأوسع، وتواصل مع القوى المعارضة أو الرافضة للمقاومة المسلحة، وهنا يجب عدم وضع حركات التحرر في تناقض تام أو خلاف وشقاق وتناحر داخلي، يفيد الاحتلال في خاتمة المطاف.