رغم كل عوامل التعرية السياسية التي تتعرض لها حركة التحرر الفلسطيني بفعل الاختلاف والخلاف والانقسام الذي ينبع من ذاتها، أو ذلك الذي تصنعه لها إسرائيل، وبعض أنظمة الحكم العربية المختلفة في مقاربة القضية الفلسطينية، فإن هذه الحركة تتسم بالقدرة على التجدد الدائم، والحفاظ على حد مناسب ومعقول من الهموم المشتركة والتفاهمات المتتالية، التي تمنعها من الانجراف إلى ما أصاب غيرها من حركات التحرر الوطني.
كثير من هذه الحركات التي قادت بلدانها إلى التخلص من الاستعمار الأجنبي أصيبت لاحقًا بأمراض سياسية وأيديولوجية وتورطت في صراعات المنافع والمناصب، ما جعلها تتخلى عن أهدافها الكبرى التي أعلنتها وقت أن شرعت في خيار المقاومة المدنية أو المسلحة ضد المحتلين. وراح بعضها يتصرف في زمن الاستقلال وكأنه قوة مستعمرة جديدة، أو "احتلال وطني" وفق التعبير الذي أخذ يسود حاليًا على ألسنة معارضين في دول إفريقية وآسيوية، نالت استقلالها بعد أن رزحت عقودًا تحت نير الاحتلال.
وهناك عوامل عديدة جعلت حركة التحرر الفلسطيني تمتلك، إلى الآن، قدرًا من المهارة والمسؤولية تمنعها من السقوط في هذا الفخ، وتمدها بالقدرة على التجدد.
تنوع أيديولوجي يواجه الإحلال
قد يكون أهم هذه العوامل هو اختلاف طبيعة الاستعمار الذي يواجهه الفلسطينيون عن ذلك الذي جثم على نفوس الناس في بلدان عدة، فإسرائيل ليست استعمارًا عاديًا يمكنه أن "يحمل عصاه ويرحل"، كما فعل الإنجليز والفرنسيون والأمريكيون والسوفيت وغيرهم، بل احتلال استيطاني إحلالي، يقوم على الاقتطاع المستمر من أرض الغير، وإقامة المستوطنات عليها، أو المغتصبات وفق الاصطلاح الفلسطيني المفضل.
تفرض الإزاحة المستمرة للسكان الأصليين النضال والمقاومة على مَن تُسلب أراضيهم أو بيوتهم أو مزارعهم، لا سيما أن هذا يحدث يوميًا، ويجعل من يواجهونه لا يرون أنفسهم أبدًا في حل من التصدي له.
كذلك، فإن السلطة الفلسطينية التي قامت وفق اتفاق أوسلو، ليست سلطة طبيعية، لها شرعية يمنحها الشعب، وسيادة على الأرض التي تديرها، واستقلال في القرار أو انفراد في التصرف، بل هي سلطة منقوصة تتقاسم الوظائف مع الاحتلال اضطرارًا أو طواعية.
تتعرض السلطة لضغوط دائمة، تجعلها غير قادرة على نسيان الكفاح في سبيل الانتقال من النقص إلى الاكتمال، ومن التهميش إلى التمكين، ومن الولادة السياسية المبتسرة إلى الطبيعية.
تميزت ساحة الكفاح الفلسطيني بالمستعدين دومًا للقيام بواجب النضال ودفع ثمنه
ولا تتطابق مواقف من في السلطة الفلسطينية نفسها، أو داخل حركة فتح التي تمثل عصبها الرئيسي، في الموقف من الاحتلال وكيفية مقاومته. هناك من لا يزال مُخلِصًا لحمل السلاح طالما الاحتلال قائمًا، مثل كتائب شهداء الأقصى. وفريق يرى أن الصبر على التفاوض، مهما تنصل الإسرائيليون من نتائجه، هو الوسيلة الوحيدة المتاحة الآن، في ظل ميزان القوى اللا متكافئ مع إسرائيل.
يتجسد هذا التباين في عدد من المواقف، منها موقف الرئيس محمود عباس المختلف مع موقف مروان البرغوثي، الفتحاوي الذي هندس انتفاضة الحجارة، ولا يزال يعاني في سجون الاحتلال، دون أن يتخلى عن إيمانه بالمقاومة.
ومثلما تتباين المواقف داخل فتح، تتنوع المنطلقات الأيديولوجية لحركات التحرر الفلسطيني. وهي إن بدأت في ظل غلبة النزعة اليسارية والقومية وما بينهما من درجات متفاوتة تنطوي عليها هذه المظلة الأيديولوجية العامة، فسرعان ما ظهر فيها التيار الإسلامي، الذي لم يكن غائبًا عن الساحة بالطبع، وإن ظل زمنًا في حالة سيولة إلى أن تكتل في تنظيمات لها قوام، مثل حركة المقاومة الإسلامية حماس، وحركة الجهاد الإسلامي.
مجتمع بأكمله يناضل
فضلًا عن قسوة الاحتلال الاستيطاني وتنوع توجهات من يقاومه، تميزت ساحة الكفاح الفلسطيني بالقدرة على إيجاد المستعدين دومًا للقيام بواجب النضال، ودفع ثمنه مهما كان باهظًا، ففي الوقت الذي كانت فيه الكتلة المسيطرة في حركة فتح تتجه إلى شيء من الراحة، ويتصرف بعض قادتها كما يفعل البرجوازيون لا المناضلون، ظهرت على الساحة حركتا حماس والجهاد منحازتين بالكلية إلى الكفاح المسلح.
ويضغط السياق الاجتماعي الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة والداخل الإسرائيلي والمنافي والشتات، نحو استعادة الحق كاملًا، أو النزول عن هذا الكمال شرط ألا يقل ما يتم الحصول عليه أو استرداده عن قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.
هذا السياق يمثل حاضنة شعبية للمقاومة وقت حمل السلاح، ومخزنًا بشريًا يساعد، عبر إنتاج الخطاب المقاوم ودعمه بالمال، على تثبيت الفلسطينيين في أرضهم بالضفة والقطاع، وإلزامهم أخلاقيًا بالكفاح في سبيل التحرر الوطني.
وتلعب هنا "الذاكرة الوطنية الفلسطينية" دورًا مهمًا في تغذية الانشغال بالقضية ليبقى قائمًا، وتمدُّ من هم على قيد الحياة بقصص وحكايات تتناسل بلا انقطاع، وتجمع حولها العقول والقلوب، وتدفعها إلى الاستمرار في المطالبة باستعادة الحق المهضوم.
ومع استمرار فلسطين، كقضية مركزية للشعوب العربية، ينفخ كثيرون من المحيط إلى الخليج في أوصال المقاومة الفلسطينية، حتى لا ترفع الراية البيضاء، بل تظل قابضة على جمر السلاح والمعاناة اليومية القاسية، في سبيل عدم التخلي عن الحق الفلسطيني، الجلي في الذهنية والمخيلة الجمعية لهذه الشعوب، والذي تربطه هذه الشعوب بواجب لا ترى بدًا من القيام به على قدر المستطاع، وترى ما له من انعكاس عليها في بلدانها إيجابيًا أو سلبيًا.
يضغط المنحازون إلى الحرية في مختلف أنحاء العالم، ومن يؤمنون بحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومعهم القوانين الدولية التي تُشرعن مقاومة المحتل، على أعصاب الفلسطينيين بشكل دائم، للإبقاء على شعلة الكفاح موقدة. ويضع الفلسطينيون هذه الضغوط في اعتبارهم بوصفهم الشعب الوحيد في العالم الآن، الذي يواجه هذا النوع من الاحتلال.