أربعون يومًا مضت منذ بدء عملية إسرائيل الانتقامية ردًا على هجوم المقاومة الفلسطينية المفاجئ في 7 أكتوبر/تشرين الأول، مرت ثقيلة ودموية ومرعبة، استشهد خلالها أكثر من 11 ألف فلسطيني بينهم أكثر من 4600 طفل و3000 امرأة. توقفت قدرة السلطات في غزة على الإحصاء، ولكنَّ القوى الدولية التي توفِّر الحماية لإسرائيل لا تعتقد بعد أنَّ الوقت حان لوقف إطلاق النار.
غالبًا ستستمر الرخصة الأمريكية - الأوروبية الممنوحة لإسرائيل لمواصلة ارتكاب جرائمها لبعض الوقت، في ظل عجز عربي عن اتخاذ إجراءات فعّالة تدفع واشنطن والدول الأوروبية الرئيسية إلى تغيير مواقفها.
وزارة الصحة الفلسطينية في غزة أعلنت قبل أيام أنها لم تعد قادرة على تحديث أرقام الشهداء في غزة، بعد فقدان القدرة على التواصل مع المستشفيات التي يحاصرها جيش الاحتلال، وتوقف معظمها عن العمل في ظل نقص حاد في الوقود وأدوات الجراحة.
نحن نتحدث عن جرائم حرب صريحة يرتكبها جيش الاحتلال، ويراها العالم في بث حي ومباشر على الشاشات تحت عنوان "أسبوع حرب المستشفيات". ولكن حتى كتابة هذا المقال، لا يزال كبار المسؤولين الأمريكيين ومعهم مؤخرًا نظراؤهم الألمان يصرون على رفض وقف إطلاق النار، أو حتى الاتفاق على هدنة لعدة أيام، تماهيًا مع مواقف نتنياهو.
لا يهم أن يموت الأطفال المبتسرون في الحضانات، ولا أن يعجز مرضى فشل الغسل الكلوي عن تلقي العلاج، ولا أن تقتل قذائف جيش الاحتلال المرضى داخل غرفهم، ولا أن يتكدس المرضى والنازحون في أروقة المستشفى حيث يخدم ثلاثة أطباء 500 مريض، دون أدوات التخدير والتعقيم الضرورية. فهذه كلها أخطاء حماس التي تتخذ من المدنيين دروعًا بشرية، وتختار مقرات قيادتها في الأنفاق تحت المستشفيات والمدارس.
نصرخ كما نشاء في العالمين العربي والإسلامي ونعقد قمة تُصدر بيانًا ختاميًا مطولًا يحتوي 35 قرارًا، كلها تبدأ بالرفض والشجب والإدانة والتنديد والتأكيد والمطالبة، وكلها حبر على ورق، لا قدرة لمن أصدروها على ترجمتها إلى خطوات ملموسة على الأرض.
المطالبة بوقف مدِّ إسرائيل بالسلاح الذي يستخدم لقتل الفلسطينيين في غزة لن تجد طريقها للتنفيذ، لأنَّ الدول التي تمدها بالسلاح وعلى رأسها الولايات المتحدة، تدعم حربها العدوانية الحالية، وكذلك الدعوة لفتح معبر رفح فورًا دون تدخل إسرائيل، لإدخال المساعدات الإنسانية والوقود، لن تتحقق خشية الدخول في مواجهة مباشرة مع جيش الاحتلال ولعدم إغضاب الحليف الأمريكي لمعظم الأنظمة العربية، وستتراكم ملفات المطالبة بملاحقة كبار المسؤولين في الحكومة والجيش الإسرائيليين في المحكمة الجنائية الدولية دون تحريك بسبب الضغوط الأمريكية والغربية.
أزمات نتنياهو وهروبه للأمام
يدرك نتنياهو أن الموافقة على وقف عدوانه على غزة ولو لعدة أيام، تعني إعلان سقوطه فورًا بعد فشله في تحقيق هدفه المعلن بـ"القضاء على حماس"، ما يشكِّل هزيمة ثانية لإسرائيل في أعقاب إهانة 7 أكتوبر. لذلك، فإنه يتمسك ومن معه في واشنطن بإعلان عدم العودة إلى الوضع الذي كان قائمًا قبل الطوفان، واعتبار الحرب الحالية مجرد جولة من جولات حروب إسرائيل وحماس في القطاع منذ عام 2008.
الخبرة مع العدو الإسرائيلي تؤكد أن لا إجراءات مؤقتة وأن تهجير الفلسطينيين سيصبح وضعًا دائمًا
تدمير المباني وقتل آلاف الأبرياء لا يمثلان جديدًا في أساليب حروب إسرائيل ضد الدول العربية منذ 1973، تحديدًا في لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة؛ هو نمط لا يختلف كثيرًا عن الأسلوب الذي اتبعته الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق؛ قصف متواصل بطريقة الصدمة والرعب لفترة طويلة ينجم عنه سقوط الآلاف من الأبرياء قتلى، يليه غزو بري بعد أن تضطر القوة المستهدفة إلى التراجع وإعلان الاستسلام.
المشكلة في غزة أنها غابة من البشر محشورون في مساحة ضيقة. وبالتالي فإن مجرد احتلال القطاع بعد تسويته بالأرض لن يُمثل إنجازًا عسكريًا كبيرًا على ضوء أنَّ المواجهة تجري في الواقع بأسلوب حرب العصابات. لم يكن فرض الحكم العسكري المباشر على سكان القطاع سهلًا أثناء احتلاله بين 1967 و2005، ولن يكون سهلًا في 2023 مع ارتفاع عدد سكان القطاع إلى أكثر من مليوني نسمة.
وبينما يؤكد كبار المسؤولين الأمريكيين أنَّ هناك ثلاثة خطوط حمراء لا يجب على إسرائيل تجاوزها؛ إعادة احتلال القطاع، أو اقتطاع جزء من أراضيه، أو تهجير الفلسطينيين قسرًا، لا يوجد ما يوحي بأن هذه الخطوط ستكون ملزمة لنتنياهو وحكومته المليئة بالمتطرفين والمجانين الذين يستسهلون الحديث عن القصف النووي وتجديد النكبة، لتتعزز مجددًا المخاوف المصرية الجادة من أن يكون "النصر" الذي سيرضي نتنياهو بعد ضربة 7 أكتوبر الموجعة هو تهجير الفلسطينيين إلى شمال سيناء.
مصر لن تكتفي بالوعود
ومما لا شك فيه أنَّ مصر الرسمية لا تتعامل مع الخطوط الحمراء الأمريكية كأمور مسلم بها، وهي تدرك أنَّ إدارة جو بايدن قد ترضخ بسهولة للضغوط الإسرائيلية وهي مقبلة على عام الانتخابات الرئاسية، خاصة إذا استمرت تل أبيب في سياساتها الممنهجة نحو دفع الفلسطينيين للهجرة قسرًا نحو الجنوب، نهاية بشمال سيناء.
كانت التحركات المصرية الرسمية لافتة في القمة الأخيرة رغم القرارات الرسمية الخاوية، من ناحية اللقاءات التي عقدها الرئيس المصري مع نظرائه التركي والإيراني وولي العهد السعودي، في تأكيد على أنَّ مصر لن تكتفي بالوعود الأمريكية بدفع إسرائيل إلى عدم تعريض الفلسطينيين لنكبة جديدة تتمناها حكومة نتنياهو لتجاوز آثار ضربة 7 أكتوبر.
وردًا على الضغوط الشعبية المتزايدة في الدول الغربية، المؤيدة لإسرائيل، للمطالبة بوقف الحرب، واعتبار حكوماتهم شريكة قي قتل الفلسطينيين، كما هي الحال في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، فإنَّ أقصى ما وافق نتنياهو على تقديمه حتى الآن هو ما وصفه بـ"الوقفات الإنسانية" التي لا تتجاوز عدة ساعات في كل مرة، ولهدف محدد مثل إيصال المساعدات أو إطلاق أسرى. كما يرفض نتنياهو المقترحات الأمريكية الداعية لأن يكون للسلطة الوطنية الفلسطينية دور في إدارة شؤون القطاع بعد انتهاء الحرب، قائلًا إنه لا يثق في سلطة لا تزال ترفض حتى الآن إدانة هجوم حماس.
ما يتجاهله نتنياهو أنَّ حكومة عباس على الرغم من كراهيتها الشديدة لحماس، لن تقبل العودة إلى غزة على ظهر دبابة إسرائيلية، ولا ستقبل مصر كذلك ما طُرح بشأن مطالب أمريكية وإسرائيلية بأن تلعب دورًا في إدارة القطاع خلال "مرحلة انتقالية" بعد انتهاء الحرب، إلى أن يتم الاتفاق على شكل الحكومة الفلسطينية التي ستتولى المسؤولية.
الخبرة مع العدو الإسرائيلي تؤكد أن لا إجراءات مؤقتة، وأنَّ تهجير الفلسطينيين إلى شمال سيناء، أو إدارة مصر لقطاع غزة، ستصبحان مع الوقت واقعًا دائمًا من الصعب تغييره.
وإذا كان الدعم الدولي لإسرائيل يتراجع بشكل متزايد، ما قد يمثل عامل ضغط نسبي ضئيل على نتنياهو، فإن التهديد الداخلي الحقيقي الذي يواجه رئيس الوزراء يتمثل في ازدياد واتساع التظاهرات من قبل أهالي الأسرى الذين يتهمونه بعدم القيام بما يكفي لإطلاق سراح أقربائهم، ويتخوفون من أن يؤدي استمرار الحرب الغاشمة بهذه الطريقة إلى إنهاء فرص استعادتهم.
نعم، واشنطن والأوربيون لن يقولوا لنتنياهو كفى، وستستمر مطالباتهم اللفظية الحنونة بتجنب قتل المدنيين وعدم استهداف المستشفيات، ولكنَّ حماس تدرك جيدًا أنَّ ورقة الضغط الرئيسية في يدها تبقى ملف الأسرى بمن فيهم من ضباط وجنود.
بالتأكيد التكلفة باهظة، ولكنَّ استمرار صمود المقاومة وقدرتها على توجيه ضربات موجعة للعدو والاحتفاظ بورقة الأسرى، ستجبر نتنياهو على قبول صفقة نهايته؛ وقف إطلاق النار دون القضاء على حماس والبدء في تنفيذ صفقة لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين مقابل كل الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، لتبدأ محاسبته وإسقاطه.