بينما يستمر جيش الاحتلال في حربه على غزة، كانت الحكومة الإسرائيلية تشن حربًا أخرى، مستغلة انشغال العالم بمتابعة القصف اليومي للقطاع، وعدّاد ضحاياه اليومي المتسارع، إذ أقرت الاستمرار في تمويل التوسع في الاستيطان رغم التكلفة الباهظة للحرب، التي أصابت معظم القطاعات بالشلل.
وحسب البنك المركزي الإسرائيلي، يتكلف الاقتصاد الإسرائيلي أسبوعيًا نحو 600 مليون دولار بسبب الحرب، فيما سجلت الموازنة العامة عجزًا بنحو 23 مليار شيكل، أي 6 مليارات دولار في شهر أكتوبر/تشرين اﻷول الماضي، وهو ما يمثل ارتفاعًا كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.6% من 1.5% في سبتمبر/أيلول الماضي.
كذلك أعلنت وزارة المالية الإسرائيلية انخفاض الإيرادات بنسبة 15% على أساس سنوي الشهر الماضي بسبب التأجيلات الضريبية، وتراجع الاحتياطي الأجنبي في البنك المركزي بأكثر من 7 مليارات دولار في أكتوبر لدعم الشيكل.
ورغم ما تُشير إليه هذه الأرقام من تأثر الوضع ماليًا ونقديًا، فإن الحكومة قررت الاستمرار في الحرب، وأيضًا الاستمرار في دعم وتمويل التوسع في الاستيطان، وأقرت وزارة المالية ولجان التنظيم والبناء ومجلس التخطيط التابع لوزارة الداخلية الإسرائيلية مخططات استيطانية في النقب، وصادقت الحكومة على إقامة مدينتين وبلدتين زراعيتين و13 مستوطنة بصحراء النقب، وبلدة جديدة أطلقت عليها اسم "حانون" في غلاف غزة، من المخطط أن تضم 500 وحدة سكنية، كما أقرت الاستمرار في تمويل مشروعات مماثلة في الضفة الغربية.
ورصد تقرير لمركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة "بتسليم"، تصعيد إسرائيل لمساعي تهجير تجمّعات فلسطينيّة وعائلات معزولة عن منازلها وأراضيها، منذ بداية الحرب، مشيرًا إلى نزوح سكّان 8 تجمّعات يقطنها 87 عائلة، بشكل كلي، كما نزح جزءٌ من سكان 6 تجمعات أخرى، منذ بداية الحرب.
ولفت التقرير إلى أن عملية التهجير هذه محاولة لاستغلال الحرب كفرصة لمُواصلة تحقيق أهدافها السياسيّة في الضفة الغربيّة والسّعي قدُماً نحو الاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينيّة.
وأشار التقرير إلى أنه رغم ما يبدو ظاهريًا وكأنّ المستوطنين يشنّون هجماتهم على التجمّعات الفلسطينيّة ويمارسون عُنفهم فقط بمبادرات خاصّة، فإن هذا العنف مجرد "جزء لا يتجزّأ من سياسة معروفة تطبّقها دولة إسرائيل منذ سنوات طويلة في عشرات التجمّعات الفلسطينيّة في الضفة الغربيّة"، بأن يتم التضييق على الفلسطينيين وجعل حياتهم جحيماً حتى يضطروا إلى الرّحيل عن أراضيهم، ثمّ تستولي هي على الأراضي وتسخّرها لخدمة أهدافها، خاصة إقامة مستوطنات أو توسيع أخرى قائمة.
حلم الاستيطان في النقب
وتقع صحراء النقب في الجزء الجنوبي من فلسطين المحتلة، وتبلغ مساحتها نحو 12.5 ألف كيلومتر مربع، أي ما يقترب من نصف مساحة فلسطين التاريخية، البالغة 27 ألف كيلو متر مربع، وحوالي 60% من مساحة دولة الاحتلال، وتُمثل أهمية كبيرة لإسرائيل، إذ خصتها بإقامة مواقع مهمة؛ على رأسها مفاعل ديمونة النووي، إضافة إلى قواعد عسكرية وأمنية وقواعد جوية ومراكز تدريب وكليات عسكرية.
وتسعى إسرائيل إلى تهويد النقب، إذ اعتبر رئيس وزراء إسرائيل الأسبق شيمون بيريز أن خطة تسكين الإسرائيليين في النقب هي "معركة من أجل مستقبل الشعب اليهودي"، وفي سبيل ذلك تسعى حكومات الاحتلال المتوالية إلى تشجيع الشباب والنخب الأمنية والعسكرية للإقامة بها، من خلال منحهم تسهيلات مالية وضريبية وامتيازات تتعلق بمسطحات من الأراضي المجانية لإقامة مزارع فردية.
وفي مارس/ آذار الماضي، وبعد تصديق الحكومة على إقامة أربع مستوطنات جديدة في النقب، قالت وزيرة الداخلية الإسرائيلية إييليت شاكيد، إن المستوطنات الجديدة "خطوة مهمة تعكس أكثر من أي شيء آخر سياسة تخطيطية – اجتماعية متنوعة تسعى إلى تعزيز المناطق الواقعة خارج وسط إسرائيل، من خلال تشجيع استيطان جديد وشاب. و10 مستوطنات في النقب هي المشروع الصهيوني بكامل مجده".
بينما قال وزير البناء الإسرائيلي زئيف إلكين، إن "دفع إقامة المستوطنات الجديدة في النقب هو حلم الاستيطان الصهيوني"، لافتًا إلى أن "انتقال سكان من وسط إسرائيل إلى جنوبها، سيعزز اقتصاد النقب وأمن السكان في المنطقة كلها".
وسبق أن قاوم الفلسطينيون مشروع برافر أو برافر بيجن، وهو قانون إسرائيلي أقره الكنيست فى 24 يونيو/حزيران 2013، بناءً على توصية من وزير التخطيط الإسرائيلي وقتها إيهود برافر عام 2011 لتهجير سكان عشرات القرى الفلسطينية من صحراء النقب، وتجميعهم فيما يسمى "بلديات التركيز"، وجرى تشكيل لجنة برافر لهذا الغرض، وبموجب القانون يستولي الاحتلال على أكثر من 800 ألف دونم من أراضي النقب، (الدونم يعادل ألف متر).
كل ذلك قبل أن تقرر إسرائيل تجميد مخطط التهجير بعد سيل الاحتجاجات، واعتقال المئات لإجهاض انتفاضة عارمة، وهو ما اعتبر حينها "انتصارًا" للفلسطينيين.
رؤية بن جوريون
وكتب رئيس جمعية "إسرائيل من أجل النقب" إستير لوزاتو، في مقال له بصحيفة جيروزاليزم بوست الإسرائيلية، أن "ما حدث في 7 أكتوبر يؤكد ضرورة الاتجاه إلى النقب والاهتمام بها، وتسكين الإسرائيليين بها"، معتبرًا أن ذلك "واجب تجاه النقب الذي أهمل على مر السنين ويحتاج إلى التجديد والقفز إلى الأمام"، مشيرًا إلى أن الاستيطان في النقب "ضرورة أمنية"، وقال "من واجبنا أن نحقق رؤية بن غوريون لتنمية النقب".
حاولت المنصة التواصل مع رئيس لجنة التوجيه العليا لعرب النقب جمعة زبارقة، للتعليق على تصعيد إسرائيل في النقب، إلا أنه لم يرد، ونشرت له الجزيرة قبل يومين تصريحًا، أكد فيه أن إسرائيل "تشن حربًا وجودية عليهم"، مضيفًا أن "المؤسسة الإسرائيلية وظفت الحرب من أجل المضي قدمًا بمخطط التهجير".
وأبدى مخاوفه من أن تستغل إسرائيل الحرب وتقوم بالتهجير القسري لسكان البلدات مسلوبة الاعتراف، مرجعًا ذلك إلى الدعم الأمريكي والغربي الذي تحظى به إسرائيل في الحرب على غزة.
تقنين التهجير
وتعمل إسرائيل منذ سيطرتها على زمام الأمور في فلسطين المحتلة على تقنين التهجير القسري والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وفي سبيل ذلك سنّت في عام 1949 قانوني "استملاك الأراضي"، وتعديلاته التي تمت عام 1980، بما يُتيح مصادرة الأراضي وطرد أصحابها دون الرجوع إلى المحاكم، كذلك استعمال القوة لتنفيذ ذلك، كما سنت قانون "المنطقة العسكرية المغلقة"، الذي يحظر الوجود الفلسطيني في منطقة دون إذن من جيش الاحتلال.
كذلك قانون "أملاك الغائبين" عام 1950، الذي يسمح بنقل ملكية الأراضي إلى مؤسسة الكيرن كييمت، وقانون "التصرّف" عام 1953، إضافة إلى قانون "الأراضي البور"، الذي يسمح لسلطات الاحتلال بمصادرة أي قطعة أرض لم تجر فلاحتها لمدة عام دون النظر إلى أسباب توقف الفلاحة فيها.
ومن بين الإجراءات التي أقدمت عليها إسرائيل للسيطرة على أراضي الفلسطينيين إدخال تعديلات على قانون "ضريبة الأملاك"، عام 1972، بينما يفرض على أصحاب الأراضي الزراعية ضرائب عن كل دونم تعادل 4,2% من قيمة الأرض بعد أن يتم اعتبارها أراضي معدة للبناء.