في الذكرى الأولى لطوفان الأقصى، فاضت شوارع غربية بالمتظاهرين المنادين بوقف العدوان على غزة ولبنان. لم يكن جميع هؤلاء من الفلسطينيين أو العرب المهاجرين، إنما كان بينهم أوروبيون أقحاح بعضهم يهود يرفعون شعارًا واضحًا في وجه بنيامين نتنياهو: لا تقتل باسمنا.
يحدث هذا في وقت ظن فيه كثيرون أن الشوارع الغربية نسيت القتل أو اعتادت عليه، وأنها ستهدأ أسوة بشوارع المدن العربية التي لم يعتد أهلها شيئًا، لكنهم لا يستطيعون التعبير عن غضبهم فيها وهم تحت أنظمة حكم قامعة.
في الحقيقة، لم يأتِ تعاطف مواطني الغرب مع القضية الفلسطينية بغتةً دون إرهاصات دلت عليه ومقدمات مهدت له، إنما تراكمت أسباب عدة على مدار السنين الفائتة، جعلت شوارع مدن أوروبية وأمريكية عدة تفيض بالمحتجين على الإبادة الجماعية، في انفعال ظاهر بالأحداث الدامية، وتفاعل خلَّاق معها، لا يجب أن يذهب سُدى ويروح بلا جدوى.
كانت هناك بيئة اجتماعية وسياسية مواتية لهذا الانفعال المجرد عن الافتعال، مردُّها شعور الناس بالثقوب والعيوب الموصومة بها "الديمقراطية التمثيلية"، ونفورهم من ظهور موجات من العنصرية المقيتة، وإدراكهم لتأزم الطرح الليبرالي، إثر إصابة نالت من قيمه الأساسية وأهمها الحرية والمساواة في الفرص وأمام القانون.
مُسلَّمات على المحك
مع تصاعد النزوع إلى الديمقراطية التشاركية، تفاعل الغربيون بأذهانهم ووجدانهم مع ما باتت ثورة الاتصالات تجلبه لهم من جميع أنحاء العالم حتى حوَّلته إلى غرفة صغيرة، يعرف الجميع ما يحدث في أرجائها.
جاء هذا في ظل رؤى فكرية وفلسفية تدعو إلى مراجعة الكثير من المسلمات، منها "معاداة السامية" و"حق إسرائيل في الوجود" كدولة عرقية ودينية، والصورة النمطية للعرب، التي سكنت الأدبيات الاستشراقية، ومناهج التعليم، والمواد التي يقدمها الإعلام، فضلًا عن انحياز الساسة الغربيين لإسرائيل بشكل صارخ وجارح. ولعل أهم هذه الرؤى، ما قدَّمه اليهود أنفسهم في تيار ما بعد الصهيونية وغيره.
لكل هذا، رأينا انفعال الناس في الغرب مع الحق الفلسطيني، ورَفْض كثيرين منهم مواقف حكوماتهم التي وصفت الإبادة التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي بأنها "دفاع عن النفس"، ليصبح إمدادهم تل أبيب بالسلاح والمال والدعم الدبلوماسي والخطاب المؤيد ضرورةً تتماشى مع النظر إلى الدولة العبرية باعتبارها رأس حربة مشروعهم الاستعماري للمنطقة.
كان هذا الانفعال لافتًا، بل مُدهش، لأغلب الناس في العالم العربي، وفاض كثيرون في تبيان دوافعه، وإدراك مراميه، والتعويل عليه في قابل الأيام، ليكون رافعة مهمة لنصرة القضية الفلسطينية، التي أصبحت في الشهور التي أعقبت الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة، إلى جانب كونها "قضيةَ العربِ المركزية"، "قضيةً مركزيةً للغرب"، بل وبإمكانها أن تتدحرج أكثر إلى الأمام، وتكبر في قابل الأيام.
لكن الإعجاب بموقف الشارع الغربي هذا، لا يجب أن يكفي أبدًا مناصري الحق الفلسطيني، من العرب أو غيرهم، بل عليهم أن يحافظوا قدر الإمكان على وتيرة التعاطف قائمة، بلا انطفاء أو فتور، ويحولوها إلى قوة دفع للأمام، تجعل مواطني أوروبا والولايات المتحدة خاصة، يتفاعلون مع قضية فلسطين، ويبذلون الجهد في سبيل تحويل الموقف الرسمي الغربي لصالحها، ولو نسبيًا، أو تدريجيًا.
من الوعي والإنصاف أن ننظر إلى الغرب، الشارع لا الإدارة، بوصفه ساحة فاعلة في نصرة الحق الفلسطيني، مهما تعددت وجهات النظر المختلفة حول ما يسمى "الحل النهائي". فكما كان الغرب يمثل القوة التي دفعت إلى إنشاء إسرائيل، سواء بإداراته الحاكمة أو مؤسساته الدينية والثقافية، فلا يمكن أن يكون مستبعدًا من تحديد مسارات هذا الحل، أو تعيين مداه الزمني، في ظل توازن القوى الدولي كسياق أوسع، يحيط بالقضية الفلسطينية، أو التوازن الذي تخلقه الأوضاع الإقليمية بين المقاومة وإسرائيل.
إن انفعال الشارع الغربي بالقضية الفلسطينية، على نحو لافت، بعد سنوات توارت خلالها إلى الخلف، هو، دون شك، تصرف إيجابي، لا بد من البناء عليه، لنجعل انشغال الأوروبيين والأمريكيين بفلسطين أمرًا دائمًا، لا يقف عند حد الاحتجاج أو الصراخ أو المطالبة المؤقتة بكف أذى إسرائيل عن الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحتى داخل إسرائيل نفسها، بل يُترجم إلى عمل حركي يقظ، يتبلور في أشكال مؤسسية أو منتظمة تمثل روافع لنصرة الحق الفلسطيني المهضوم.
الحاجة إلى التواصل
لا ينبغي أن يكتفي أنصار القضية الفلسطينية في العالم العربي، من إدارات حاكمة أو مؤسسات أو أفراد، بالفرجة على الشارع الغربي من بعيد وتشجيع حراكه، بل من الضروري أن ينخرط العرب في هذه الحركة المبتغاة، متصلين بشكل دائم وفعال مع الجاليات العربية والإسلامية في الغرب، بالإضافة إلى التيارات التقدمية ورافضي العنصرية والثيوقراطية ودعاة حقوق الإنسان، بل وأيضًا اليهود الرافضون لقيام إسرائيل من منطلق ديني أو سياسي، أو حتى من يقتصر رفضهم على إفراطها في القتل والتدمير باسم اليهودية.
إن هذه الخطوة ليست يسيرةً بالطبع، فهناك عقبات تعترضها منها نشاط اللوبي الإسرائيلي في أوروبا والولايات المتحدة، وشعور البعض هناك بأن عليهم التزامًا أخلاقيًا لتعويض اليهود عن اضطهاد الغرب تاريخيًا لهم، الذي بلغ ذروته مع محرقة النازي، حتى وإن جاء هذا التعويض على حساب الشعب الفلسطيني وحوله الدول العربية.
وهناك أيضًا من يتمسكون برؤية إسرائيل على أنها لا تزال تلعب دور "الجماعة الوظيفية" في خدمة السياسة الغربية في منطقة الشرق الأوسط، وموقف الشعب الإسرائيلي نفسه، الذي لم تنقطع صلته بجذوره الغربية، حتى مع تعاقب الأجيال.
لكن ليس من المصلحة، ناهيك عن الحكمة والمروءة، أن يقف العرب مكتوفي الأيدي أمام هذه العقبات، بعد أن ظهر أمامهم عيانًا بيانًا أن تجاوزها، ولو بشكل بطيء، ليس مستحيلًا، في ظل رد فعل الشارع الغربي على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
فالناس الذي هبطوا محتجين على السلوك الإسرائيلي، إن لم يكن بوسعهم إحداث تغيير فارق سريع في السياسة الرسمية الغربية إزاء إسرائيل، فإنه يمكنهم فعل هذا مع توالي السنوات، لأن الإدارات الحاكمة ستضع هذا في اعتبارها، وهي التي تدرك أنها موجودة في مقاعدها ومناصبها بفعل اختيار الشعوب لها. ولعل ما حدث في الانتخابات البريطانية والفرنسية الأخيرتين خير مثال على هذا.