تصميم: يوسف أيمن- المنصة

الدحيح وشعبنة أم كلثوم

منشور الأربعاء 9 أكتوبر 2024

أثارت حلقة برنامج الدحيح أم كلثوم في باريس مطلع هذا الشهر الكثير من الجدل بين من رآها عظيمة وتفاعل معها عاطفيًا إلى حدِّ البكاء، خصوصًا في خضم الأحداث الجارية، ومن اعتبر أن محتواها لم يقدم جديدًا، بل مجرد إعادة لما هو معروف سلفًا، بل وبشكل مسطح يبالغ في استخدام الدعابات.

تركز الحلقة، التي استعرضت سريعًا نشأة أم كلثوم في بيئة ريفية بسيطة ثم إتقانها فنون الإنشاد الديني قبل انتقالها إلى القاهرة لتحقق شهرة واسعة، على رحلتها إلى باريس في نوفمبر/تشرين الثاني 1967، حيث استغلت هناك المكانة التي وصلت إليها كأيقونة ثقافية وفنية في العالم العربي، لتمارس دورها الاجتماعي والسياسي في دعم الجيش المصري بعد هزيمة 1967.

من هنا جاء تفاعل المشاهدين العاطفي مكثفًا لا يقارَن بأي من حلقات الدحيح السابقة ربما باستثناء حلقته عن فلسطين. لم تتناول حلقة أم كلثوم الصراع العربي الإسرائيلي بشكلٍ مباشر، لكنها رغم ذلك حَملت نفحات من تاريخ الصمود، ولو المعنوي، ضد العدو الصهيوني، في وقتٍ نعيش فيه ما تحمله لنا الأحداث الحالية من خذلانٍ وقلة حيلةٍ وفشلٍ. 

ولكن بغض النظر عن هذا الربط، وما تبعه من جدل، وما إذا كنا من محبي الدحيح أو كارهيه، فهل سألنا أنفسنا من قبل عمَّا يفعله الدحيح لتصبح له هذه القدرة على التأثير، سواء إيجابيًا أو سلبًا؟

ألعاب اللغة

ما يقوم به الدحيح هو عملية شعبنة/vernacularisation، وتعني ترجمة الكلام الطبيعي الخاص بشعب ما. وقد طور المؤرخ والأكاديمي الأيرلندي بنديكت أندرسون في كتابه المجتمعات المتخيلة: تأملات في أصل وانتشار القومية مفهوم "الشعبنة" في مجال العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية، إذ استخدمه لشرح عملية انحراف أمم أوروبا عن اللغة اللاتينية الأصلية، مما خلق مبررات وأسبابًا لتنامي المشاعر القومية بين مواطني دول أوروبا في القرن التاسع عشر.

استخدم أندرسون نظرية الشعبنة لشرح إعراض المتخصصين اللغويين الأوروبيين في القرن التاسع عشر، مثل مؤلفي المعاجم والنحويين وعلماء اللغة والأدباء، عن اللغة اللاتينية الأصلية. وقد اعتُبرت تلك العملية محوريةً في تشكيل القوميات الأوروبية في القرن التاسع عشر.[1]

من أهم عناصر عملية الشعبنة؛ الأشخاص الذين يقومون بالعملية نفسها. يُنظر إلى هؤلاء باعتبارهم وسطاء أو مترجمين، يعملون على مستويات مختلفة للوساطة بين المحلي والإقليمي والعالمي. وتتلخص مهمتهم في نقل الأفكار والمفاهيم إلى مجموعة أخرى بطريقة مقبولة من حيث اللغة والسياق والإطار والقبول المحلي.[2]

للشعبنة أيضًا جوانب سلبية منها تسطيح معلومات معقدة وعميقة بطبيعتها

بطبيعة الحال، تلعب الشبكات الاجتماعية دورًا قويًا في مسار التداول الثقافي وتأثيره. لذلك، فأولئك الذين يتمتعون بمكانة جيدة كرسلٍ هم مفتاح هذه العملية. ومن هنا، يمكننا أن نرى في المؤثرين على السوشيال ميديا ممن يملكون قاعدة جماهيرية واسعة، مثل الدحيح، مثالًا واضحًا لعملية شعبية ناجحة.

تعتمد الشعبنة على مجموعة من الاستراتيجيات من بينها التأطير، الذي يمثل مجموعةً من المفاهيم والمنظورات حول كيفية تنظيم الأفراد والمجموعات والمجتمعات إدراكهم والتواصل بشأن الواقع ووضعه في أطر  تسهل عمليتي الإدراك والتواصل. بمعنى أكثر تبسيطًا؛ أن توضع المعلومات في سياق أكثر اقترابًا من المتلقي وإن كان بعيدًا عن سياقها الأصلي. من هنا، فإن مدى تأثير وقابلية فكرة معينة للرواج داخل حركة اجتماعية لا يتعلق فقط بالفكرة نفسها، بل أيضًا بالحزمة التي توضع فيه هذه الفكرة والسياق الذي يتم تقديمها فيه.[3] 

قد يأخذ التأطير أشكالًا مختلفة مثل اللغة والسياق المجتمعي والثقافة الموروثة أو الثقافة الشعبية الشبابية والمرجعيات الشعبية والشبابية الحديثة. في حلقات الدحيح، يظهر عنصر اللغة بصورته الشعبية واضحًا عندما يستخدم العامية المصرية بمصطلحاتها الدارجة وكذلك في الإشارات الشعبية الحديثة في الفن والرياضة والسينما وغيرها، مثل إشارته إلى "تراكات الوايلي" في مقدمة حلقة عن أم كلثوم. 

يستخدم الدحيح استراتيجيات مختلفة من الشعبنة. فكما قلنا عنصر اللغة هو الأساس، ولكن في داخل عنصر اللغة توجد عناصر فرعية تشكل المحتوى في صورته الشعبية. فمثلًا استخدام اللغة الشعبية الفجة كما يتم استخدامها في الشارع المصري بطريقة قد يراها بعض المحافظين مبتذلة وسوقية. هذه اللغة، وإن كانت مقبولةً لدى العامة، فإن ظهورها في محتوى مرئي قد يسبب صدمة.

هناك أيضًا عنصر آخر يستخدمه الدحيح بمهارة، وهو الكوميديا الساخرة التي نراه يقدم بها في كل حلقاته معلوماته حتى وإن كانت جادة وربما حزينة. ولكن تقديمها بهذه الطريقة يضعها في سياق مقبول من العامة غير المتخصصين، وغير المهيئين لمواجهة الحقيقة بصورتها الجادة المعقدة.

في مرمى الجميع

لكن أيضًا للشعبنة جوانب سلبية، بعضها أثير بالفعل في النقد الموجَّه للحلقة، مثل تسطيح معلومات هي معقدة وعميقة بطبيعتها، بما قد يفرغها من قيمتها الحقيقية. وهناك مشكلة أخرى عندما ينتهي البحث عن مستوى معين من التوافق بين المحتوى الأصلي والمحتوى المشعبن لجعل الفكرة أقل تطرفًا، بالفشل في إيصال الفكرة نفسها بوضوح، وبالتالي الفشل في تغيير الوضع الراهن برفع درجة وعي المتلقي.[4] 

وفي المقابل، فعندما يكون المحتوى الأصلي على نفس مستوى المحتوى المشعبن، فإننا نفقد المغزى من الشعبنة التي تهدف في نهاية الأمر إلى إحداث تغيير اجتماعي ما. في حالة الدحيح مثلًا، فإن الهدف هو رفع مستوى الوعي لدى الأجيال الجديدة من الشباب، في عملية تغيير اجتماعي بطيئة بدأت عندما لم يعد التعليم النظامي الذي تسيطر عليه الدولة هو المصدر الوحيد للمعرفة بالنسبة لهذه الأجيال.

ومن خواص عملية الشعبنة هي أنها تضعك في مواجهة مباشرة مع الرأي العام. فالمحتوى الذي كان، بسلبياته وإيجابياته، قاصرًا على الباحثين والمتخصصين، يصبح بعد شعبنته في متناول المتلقي الشعبي بما يحمله من إرث ثقافي واجتماعي وديني.

هنا يصطدم المحتوى المشعبن بالمتلقي الشعبي مباشرةً، فيكون في مرمى نيران الملايين حيث تبدأ جدالات على مستويات متعددة. هناك مثلًا من انتقد الحلقة كونها تعظِّم امرأةً تغني عن العشق والحب أمام الرجال من منطلق ديني متشدد، يدفع الكثيرين أيضًا إلى نقد الدحيح كلما أشار أو ألمح إلى نظرية التطور.

يبدو أن فريق عمل الدحيح يجيد عملية الشعبنة، ولكن هل يدركون أنهم يطبقون نظريةً لها أصولها ومدارسها في علم الاجتماع؟ أعتقد أن ما يقوم به فريق الدحيح هو عمل مهم، بالرغم من السلبيات، وكونه يثير الجدل وتقوم حوله المناقشات والمعارك، فهذا طبيعي ومتوقع ونتيجة حتمية لتحويل مادة بحثية أو أكاديمية إلى سرد شعبي يصل إلى الملايين ويخاطب ثقافتهم بمستوياتها المختلفة وبلغتهم وفي أطر يفهمونها.


[1]  Benedict Anderson, Imagined Communities: reflections on the origin and spread of nationalism (Verso / New Left Books 1991)

[2] Neil M. Coe and Timothy G. Bunnell “Spatializing” knowledge communities: towards a conceptualization of transnational innovation networks’ (2003) 3 (4) Global Networks

[4] Sally Engle Merry, 'Transnational Human Rights and Local Activism: Mapping the Middle' (2006) American Anthropologist

[4] Anthony Oberschall, Social Movements (Transaction Publishers 1993)

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.