في يوم 10 يوليو/تموز عام 1925، احتشدت جموع من الصحفيين والمتفرجين، ونصبت الخيام على طول الشارع الرئيسي لمدينة دايتون في ولاية تينيسي بالولايات المتحدة الأمريكية. كانت هذه الخيام لرجال الدين والأشخاص المتدينين المتحمسين لسماع كلمة القضاء الأمريكي في محاكمة عُقدت داخل محكمة مقاطعة ريا، حضرها نحو 1000 شخص. وبيعت كتب مناهضة لنظرية التطور خارج أسوار المحكمة بجانب عروض الشمبانزي. وحصلت تلك المحاكمة على اسم غير رسمي وهو "محاكمة القرد".
قبل ذلك بفترة..
في يناير/كانون الثاني عام 1925، قدم السيد جون واشنطن بتلر، عضو مجلس النواب في ولاية تينيسي، طلبًا بإصدار قانون يحظر تدريس نظرية التطور في المدارس. ليس فقط بسبب تعارضها مع قصة الخلق والمفاهيم الدينية، ولكن لأنها بحسب اعتقاده، كانت "تطعن البشر في كبريائهم"، وفيها إشارات تشكك في قصة الخلق، حيث الاعتقاد السائد لدى المتدينين أنّ الله قد خلق الكون في 6 أيام.
وفي مارس/آذار 1925، صدر قانون بتلر، الذي يُجرّم تدريس النظرية للطلاب، استجابةً لذلك الطلب، وطُبق بالفعل في المدارس التي تُدعمها الدولة في عدد من الولايات، منها ولاية تينيسي، ما أثار غضب مناصري التطور الذين عارضوا هذا القانون وبشدة.
وفي 4 مايو/أيار من نفس العام، نشر الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية إعلانًا في الصحف، يبحثون فيه عن معلم علوم يُدرس للطلاب نظرية التطور على أن يتكفل الاتحاد بالدفاع عنه في المحكمة مجانًا. في تلك الأثناء، كان هناك معلم علوم شاب يُدعى جون توماس سكوبس، يبلغ من العمر 24 عامًا. مثل أغلب المعلمين وقتها، كان جون شغوفًا بالعلوم ويتابع أجدد النقاشات في الساحة العلمية، وكانت نظرية التطور هي نجم الساحة وحولها جدل كبير. وعندما عرضوا عليه هذه المهمة وافق.
كان المعلم سكوبس شابًا في مقتبل العمر، لا تهمه مهنة التدريس كثيرًا، فقد كان يخطط لاستكمال دراسته العليا، ويعمل بدوام جزئي حتى يستطيع الحصول على المال الكافي للدراسة. ربما لهذا السبب لم يكن قلقًا بشأن عواقب فعلته هذه، فقرر سكوبس تدريس النظرية لطلابه، وقُبض عليه في يوم 9 مايو، ما تسبب في جلبة عارمة بالولاية، وانتهى الأمر في المحاكمة الأشهر في تاريخ العلوم.
ولأنها محاكمة مثيرة للجدل، رفض الأهالي خروجها من مدينة دايتون، حتى تتوجه أنظار الإعلام للمدينة. وتشير بعض المصادر إلى أنّ أصل فكرة تدريس النظرية في مدرسة دايتون، كان خطة لإثارة الجدل في المدينة وبالتالي تعزيز اقتصادها.
داخل قاعة المحكمة
ترافع في المحاكمة اثنان من أهم المحاميين وقتها وهما: ويليام جينينجز برايان (الادعاء) وكلارنس دارو (الدفاع). ربما كان وجود هذين العملاقين سببًا رئيسيًا لحضور هذا الحشد من الناس، خاصة وأنّ برايان كان رجل دولة، يحظى بمكانة كبيرة، ورُشح للرئاسة ثلاث مرات، إضافة إلى أنه كان وزير خارجية، ولم يترافع في قضية منذ 30 عامًا، وظهوره في ساحة القضاء بصورة تطوعية كان حدثًا لا يُفوّت. خاصة وأنه سيقف أمام خصمه اللدود كلارنس دارو.
اشتُهر السيد كلارنس، الذي كان في السبعينيات من عمره وقتها، بذكائه الحاد ومذهبه اللا أدري (لا يؤكد أو ينفي وجود إله). إضافة إلى دفاعه عن المجرمين سيئي السمعة. تطوع كلارنس للدفاع، لكن لم يرحب الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية بأن يكون كلارنس هو المحامي، خوفًا من مذهبه اللا أدري الذي قد يحول الأمر من محاكمة إلى هجوم فاضح ضد الدين. لكن في النهاية، استقرت البوصلة نحو كلارنس، وتولى الدفاع.
كان القاضي هو جون راولستون من خلفية مسيحية، وكان يفتح الجلسات كل يوم بالصلاة، ما يثير حفيظة السيد كلارنس. وأثناء المحاكمة، أراد برايان التشكيك في صحة نظرية التطور، حتى إنه بحث عن شهود خبراء في العلوم لمهاجمة التطور، ولكنه لم يجد سوى الشهود الذين شاهدوا المعلم جون وهو يدرس التطور للطلاب، رغم معرفته أنّ هذا ممنوع.
ردًا على ذلك، دافع السيد كلارنس بأنّ قانون بتلر يسلب المعلمين حقهم في تدريس النظريات العلمية للطلاب، وأراد استدعاء خبراء متخصصين، تمامًا مثلما طلب خصمه برايان، لكن بغرض إثبات صحة نظرية التطور، ورفض القاضي هذا الطلب. فما كان من كلارنس إلا أنه أعلن عن تحديه للكتاب المقدس، وطلب بدهاء من السيد برايان أن يجيبه عن أسئلته، بحجة أنه درس الكتاب المقدس لمدة 50 عامًا.
رضخت هيئة المحكمة لطلبه، ووافق السيد برايان أيضًا، وبدأت مناظرات أسئلة تحدي الكتاب المقدس في اليوم السابع. ووصفت صحيفة نيويورك تايمز هذا المشهد بأنه "المشهد الأروع في تاريخ الأنجلو ساكسوني". تنوعت الأسئلة بين قصة الخلق وابتلاع الحوت للنبي يونس وخروج آدم من الجنة وقصة طوفان النبي نوح، وكانت الأخيرة هي الأكثر إثارة للجدل أثناء المحاكمة عندما سأل كلارنس عن توقيت حدوث الطوفان. واحتدمت المعركة بين الخصمين، ما جعل القاضي يُوقف المحاكمة، وقرر في اليوم التالي شطب شهادة برايان من الأدلة، فقد كانت إجاباته ضعيفة، ما جعل كلارنس يتلاعب به ويسخر منه.
حكمت المحكمة
في نهاية المحاكمة، وجد القاضي أنّ المعلم سكوبس مذنب وعليه دفع غرامة 100 دولار، التي وعده الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية بدفعها. وبعد 5 أيام من المحاكمة، في يوم 26 يوليو 1925، تُوفي السيد برايان، الذي تعرض للإهانة علنًا عندما عجز عن الرد على أسئلة كلارنس الماكرة. وانتهت قصة محاكمة القرد التي وثقها التاريخ حتى يومنا هذا، فلم تكن مجرد محاكمة لمذنب، لقد فتحت الباب أمام العديد من الشكوك وانقسم المواطنون بين مؤيد ومعارض.
بعد المحاكمة، لم يدرس سكوبس في المدرسة مرة أخرى، وذهب ليُكمل حياته، وفي عام 1967، ألف كتاب "Center of the Storm" يحكي فيه عن تجربته في محاكمة سكوبس. وأصبحت المدينة وجهة سياحية لبعض الفضوليين الذين أرادوا استكشاف تلك المدينة التي أُقيمت فيها محاكمة القرد، والأماكن المرتبطة بالمحاكمة.
وامتد أثر محاكمة القرد في ولاية تينيسي حتى أنه في عام 2012، أُطلق على قانون جديد مؤيد للتطور اسم قانون القرد. وكأن محاكمة القرد تلوح في الأفق وتذكر أهل الولاية بمحاكمة تاريخية وقف فيها العلم أمام المعتقدات.
هل يجوز طرح النظريات العلمية للآراء الشخصية؟
أثناء المحاكمة، طلب برايان إحضار خبير لتكذيب نظرية التطور، في حين طلب خصمه كلارنس خبيرًا أيضًا، لكن لإثبات النظرية. أي أنّ كلاهما لا يستطيعا التحدث في النظرية، بعبارة أخرى، يدافعان عن قضايا لا يملكون عنها أدلة علمية، إنهما يدافعان عما يُرضي قناعاتهما ومعتقداتهما الشخصية ليس إلا، وتلك الصورة لا زالت مستمرة حتى الآن، حيث يتخذ الملايين موقفًا من النظرية، دون تكبد عناء معرفة المزيد عنها.
التعامل مع النظريات العلمية يختلف عن الآراء الشخصية، فهو بناء منهجي، يتجرد من الآراء والقناعات الشخصية، يعتمد النتيجة بناءً على الأسباب المُثبتة بالتجارب وهذا ما حدث في نظرية التطور. يوضح العالم المصري هشام سلام الأستاذ بكلية العلوم والهندسة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ومؤسس مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية سلام لاب أن"كلمة نظرية في العلم تختلف عن تلك المتداولة عند رجل الشارع، وقد لا يفهم غير المتخصصين العلم بسهولة، وهنا يأتي دور العلماء في توصيل المعلومات العلمية للعامة".
وأضاف سلام أنّ "علم الأحياء أو الجينات أو أي علم خاص بالحياة عمومًا قائم على التطور، فالتطور حقيقة علمية لها أدلتها، ليس فيها وجهات نظر مختلفة". وأوضح أنّ هناك من يهاجمون النظرية، لكن هذا "نابع من التأثر بالمعتقدات الدينية والثقافات المختلفة".
وشدد على أنه لا يوجد ما يُسمى بـ "وجهة نظر" في التطور، بل هناك أبحاثًا ملموسة، خضعت لتحكيم من المتخصصين، ولا يوجد بحث واحد فقط يتبنى مفهومًا علميًا يدحض التطور. وأشار إلى أنه لا يوجد دكتور واحد متخصص في التطور سواء في الشرق أو الغرب يعارض نظرية التطور، لذلك، الأفضل قراءة العلم من منابعه. وقال"مثلًا، إذا احتجت إلى إجراء عملية جراحية في القلب، سأذهب إلى جراح قلب".
ولكن رسوخ نظرية التطور في علم الأحياء اليوم لم يكن الوضع السائد في عشرينيات القرن الماضي عندما انعقدت محاكمة القرد. وقتها، لم يكن التطور أكثر من فرضية غير متماسكة بها الكثير من الثغرات، وظل الأمر كذلك حتى منتصف الأربعينيات مع تبلور الداروينية الجديدة التي ربطت فرضيات داروين بأطروحات عالم الأحياء جريجور مندل فيما بات يعرف بالتحليل التطوري (Evolutionary analysis)، ومنذ ذلك الوقت لم تعد فرضية التطور محل شك في الأوساط العلمية والأكاديمية.
محاكمة التطور مستمرة
جرب النزول إلى أي شارع عربي، وليكن في مصر، واسأل المارة عن نظرية التطور، ستسمع كلمات مثل "أعوذ بالله ده كفر.. نظرية الإنسان أصله قرد؟ إلخ" وربما تخرج أسهم من نظرات بعضهم تجاهك، ما يجعلك تُطلق العنان لقدميك في الجري. حسنًا، بنسبة كبيرة ستجد هذه التصرفات، وكلها ساخرة، قلما تجد شخصًا متفهمًا. هذه هي الصورة العامة لنظرية التطور في بلادنا العربية. حتى عند طرح النظريات عبر أي موقع، سيُلاقي الكاتب هجومًا عنيفًا.
أذكر في مناهج الدراسة عندما كنت في المرحلة الإعدادية، لم نتطرق لهذا الدرس كثيرًا، فقط أخبرونا أنّ هناك عالمًا يُدعى داروين قال إنّ الإنسان من سلالة القرود، وهذا خطأ، ثم تخطينا الدرس سريعًا، لم يشرحوا لنا معنى التطور بدقة. لا أعلم السبب بالضبط، لكن عمومًا، دائمًا ما كانت المناهج المصرية دسمة وغزيرة المعلومات، فكنا ندرس الفكرة العامة لكل نظرية دون التعمق فيها.
ليس في مصر فقط، بل في معظم الدول العربية أيضًا. مثلًا في المغرب، قد يمر الطالب على جميع المراحل الدراسية دون ذكر التطور، وكذلك في بلاد الخليج المتحفظة. يتم التعامل مع هذه النظرية على أنها مجرد افتراضات لا يوجد ما يدعمها، خلافًا للواقع.
وفي عام 2007، أجرى عالم الاجتماع رياض حسن استطلاعًا لمعرفة مدى تقبل المصريين لنظرية التطور، ووجد أنّ 8% فقط يرون التطور صحيح أو محتمل.
تلك النسب ترتفع في الخارج، لكنها تكشف أيضا أن النظرية ما زالت تواجه الكثير من التحفظ والرفض حتى في أكثر المجتمعات تقدمًا. في فبراير/شباط 2009، نشرت منظمة جالوب تقريرًا حول استطلاع أجرته لمعرفة مدى إيمان الأمريكيين بنظرية التطور، وأتت النتائج بما يلي: 39% يؤمنون بالنظرية، 36% لا يؤمنون بها، 25% ليس لديهم رأي.
يقول كثير من المدرسين المصريين إنهم يشرحون النظرية في الصفوف، ولكن يختمون حديثهم إما بأنها غير صحيحة أو ليست مُثبتة علميًا، ويذهب الكثير منهم لإضفاء رأيه الشخصي الذي يهاجم التطور، فإذا كان الوضع كذلك، هل يجب تدريس نظرية التطور في مدارسنا؟
يقول سلام "أنا أعترض على عدم تدريس التطور، فهي علم حقيقي يجب إيصاله للناس بصدق، دون طرح وجهات نظر شخصية نابعة من خلفيات ثقافية أو معتقدات".
وأضاف أنه يرى إنّ العلم شارك في صناعته كل البشر، بدءًا من الرجل الذي استخدم الأدوات الحجرية في الكهف منذ عشرات آلاف السنين إلى من يصمم مكوك الفضاء اليوم. وكذلك كل البشر باختلاف عقائدهم، لذلك عند التحدث بالعلم، فيجب التحدث بلغة يفهمها كل البشر باختلاف عقائدهم وتوجهاتهم. وبالفعل هناك أساتذة يدرسون التطور في الجامعات والمدارس، لأنها علم قائم على أدلة علمية مُثبتة، لكن قد يضيف أحدهم وجهة نظره الشخصية دون دليل علمي، نتيجة التأثر بالمعتقدات.
مع ذلك، هناك بعض الناس يتمسكون بالنظرية دون دراستها، فقط لأنها تُرضي معتقداتهم، وهناك من ينفرون من ذِكرها، لأنها تتعارض مع المعتقدات والقناعات الشخصية، وكليهما من وجهة نظر الأستاذ المساعد في كلية العلوم مخطئ،"الشخص المتمسك بالنظرية دون علم مخطئ والشخص غير المتمسك بالنظرية دون علم مخطئ أيضًا. يجب أن يُقرأ العلم من مصادره، وأي شخص يريد فهم أي شيء، يجب سؤال أهل التخصص دون الرجوع إلى معتقداته".
ويفسر سلام مهاجمة الإنسان للنظريات التي قد لا تتوافق مع معتقداته بقوله "الإنسان عدو ما يجهل. وأي شخص يأتي بفكرة جديدة، يقولون عليه ساحرًا أو مجنونًا"، معتبرا في الوقت ذاته أن "التطور مقياس الثقافة العلمية عند أي دولة، إذا أردت معرفة مستوى ثقافة دولة، يجب النظر إلى طريقة حديثهم عن التطور".