منشور
السبت 2 فبراير 2019
- آخر تحديث
الأحد 4 فبراير 2024
في الثالث من فبراير عام 1975 بداخل إحدى غرف مستشفى القوات المسلحة في المعادي، غيّب الموت أم كلثوم، أو غيّبتنا الحياة عن رفقتها.
صباح اليوم التالي لم يكن يومًا عاديًا في القاهرة. الصحف كلها اتشحت بالسواد، سحابة حزن ألقت بظلالها على محبيها الذين طالما استظلوا بدفء صوتها وحُسن غنائها. لم يخيّم الحزن في القاهرة وحدها، كان حزنًا عابرًا للحدود، تجاوز مصر كلها إلى كل مكان تواجد فيه ناطقون بالعربية، انتهت الآن سهرات الخميس الأول من كل شهر على وقع صوتها. حزن يُثقِل الكل في كل مكان، حزن يبتلع كل ما عداه.
في الخامس من فبراير اكتظت شوارع القاهرة بملايين المشيعين ممن منحتهم أم كلثوم طوال خمسين سنةً فنها وحبها وحياتها، وأهدتهم لحظات طربٍ وسعادةٍ أبدية، الملايين يلاحقون النعش في شوارع القاهرة من ميدان التحرير إلى مسجد الحسين، الملايين يصلون على الجثمان، الملايين يستشعرون خسارةً فادحة، نقصانًا لن يعوّضه أحد.
رحلة طويلة مديدة خاضتها أم كلثوم إبراهيم سيد البلتاجي التي تسلل شعاع صوتها من إحدى أصغر قرى الدلتا، تناثر في فضاء غرفتها أولًا، إلى الشارع والساحة ثم إلى القرى المجاورة، ليعمَّ أرجاء المحروسة، فمحيطها وما حولها، إلى العالم الواسع بأسره. امتد شعاع صوتها إلى أقصى وأبعد نقطة، مَنحَت الجميع بردًا وسلامًا وبهجةً وريحًا طيبةً وعطرًا ونورًا، ومُنحَت في مقابل ذلك حبًا لا حدود له، في كلِّ بقاع الدنيا.
من طفلة ريفية فقيرة في طماي الزهايرة إلى سيدة للغناء تصدح على مسارح العالم، يحج إليها الملوك والرؤساء فيتاورون في ظلال نورها ويذوبون في حُسن صوتها، مجاذيب يفقدون صوابهم في حضرتها، وفي غيابها يحضر صوتها دائمًا، ظلها واسعٌ مديدٌ لا ينتهي أثره، مستمرٌ دائمٌ خالدٌ يسع كل المحبين.
تستحضر المنصة سيرة الست، بداياتها، وازدهارها، وأثرها، وفنها، وحكايات مجاذيبها، وسريان صوتها، وطغيان حضورها ولطفه وخفّته، ثم ثقل غيابها رغم خلود صوتها واتساع ظلها الذي سيظل كافيًا لكل من أراد أن يستظل به، ظل يكفي الجميع، ظل سيبقى دائمًا وأبدًا في كل شيء.