أرشيف الكاتب محمد نعيم - بإذن للمنصة
صورة من أرشيف الكاتب محمد نعيم لوالده الضابط نعيم القناوي (الثالث من اليسار) مع رفاقه سلاح الدفاع الجوي، عقب حرب أكتوبر 1973

إن تنصروا أنفسكم لربما ينصركم ربكم

هامش على عام الإبادة

منشور الخميس 10 أكتوبر 2024

أيقظني الله في كبد هذه الدنيا لأجد إسرائيل تسكن كلَّ أركان بيتنا الضيق سيرةً لشبحٍ شريرٍ يقبض القلب، يرافق افتراق والديَّ وانتقالي للعيش عند جدتي حِكمَت، مع أختي الرضيعة وأمي وإخوتها الأربعة.

كان بيت جدتي صغيرًا جدًا؛ حجرتان في المساكن الشعبية التي بناها ناصر في صحراء مدينة نصر. حوائطه مدهونة بالجير المصيص لكنه مشمس ونسيم، حصلت عليه أمي إلهام عبد الحميد بجهد شجاع وهي طالبة جامعية، حين داهمت بصحبة آخرين مكتب وزير الداخلية شعراوي جمعة مطالبين بالحصول على مأوى لأسر ولاجئي السويس.

اقتنصت أمي لعائلتها شقةً في الصحراء البعيدة بعد خمس سنوات من التهجير واللجوء، ثلاثٌ منها عاشوها جميعًا محشورين في إحدى غرف بيت عمتها في باكوس بالإسكندرية.

في هذه الغرفة مات جدي عبد الحميد شابًا، ملتصقًا بجدتي وخمسة أبناء. أصابته سكتة دماغية وهو في منتصف أربعينياته بعد ساعات قضاها وهو يحكي لأولاده عن هول ما يراه يوميًا في السويس المُدمَّرة، بحكم إقامته وحيدًا فيها؛ موظفًا حكوميًا وسط الخرائب.

هذا ما سمعته أذناي وأنا بين الخامسة والسادسة، وقتها كان بيت جدتي أكثر راحةً وأقل أمانًا في الوقت نفسه. أكثر راحةً لأنه أقل ازدحامًا، وأقل أمانًا لأن خالي الأكبر مجدي عبد الحميد كان وقتها معتقلًا سياسيًا في سجن أبو زعبل، في وقت اختطفت الخدمة العسكرية مني خالي الأصغر الحبيب عادل عبد الحميد.

أتذكر بعدها بشهور أن البيت كان مغمورًا بالفرحة. خرج خال من السجن وعاد آخر من الجيش، لنشاهد جميعًا مسلسل دموع في عيون وقحة (1980). ومن قسمات وجوههم وقسمات وجهي عادل إمام ومحمود الجندي، أدركت أننا جميعًا أسرة جمعة الشوان؛ المُهجَّرة اللاجئة والجدعنة المهزومة، والثأر المستمر.

أما أبي نعيم القناوي، فلم يهنأ في شبابه بيوم راحة. ما إن تخرج من كلية الهندسة حتى التحق بالقوات المسلحة ضابطًا عقب الهزيمة المنكرة مباشرة. شارك في تأسيس سلاح الدفاع الجوى وفي حربين، ثم خرج من الخدمة بعد ثماني سنواتٍ، مُجيدًا للغة الروسية وخبيرًا في أنظمة صواريخ "سام 6" ومليئًا بالجروح والندوب الجسدية والنفسية، زادتها رؤيته للسادات وهو يزور القدس محتفلًا بعد عامين فقط.

عاش أبي بعدها ناجيًا من الموت، كره الحرب دون أن ينسى أنها كانت كرهًا له، لكنه كره ذلك السلام أكثر، لأنه لم يأتِه بما يمكن أن يفخر به.

في دوائر جيراننا كان هناك شاب شديد الوسامة نقابله على محطة الأوتوبيس بين الوقت والآخر. كان يلفت نظري تناقض بشاشة وجهه مع بشاعة غياب ذراعه اليمنى المبتورة. قيل لي إنه مدرس رسم وفنان تشكيلي، تعجبت وسألتهم كيف يرسم؟ فقالوا لي إنه فقد ذراعه في الحرب مع إسرائيل، وكأن هذه الإجابة تعني أنه لم يفقدها. لم يكن في عائلتي أو في نطاق جيرتي المباشرة شهداء، لكن كانت هناك الكثير من الأطراف المبتورة، ومعها الكثير من الأحزان والكرامة.

وعَدتُ الأسبوع الماضي أن أكتب عمَّا يمكن فعله سياسيًا وقد أصبحت الشعوب العربية مهددة بالفناء. إلا أن ذكرى الطوفان والعبور جاءا، فلم أجد بُدًّا من التعبير عن بعض من الجوارح وكثير من الجراح. 

لا أتصور في نفسي بعد هذا السرد، قدرةً على التجاسر بالقول أو إبداء الرأي فيما حدث طوال العام الماضي ليقرأه أو يسمعه إنسان فلسطيني من غزة، ولد ونشأ وترعرع في سجن مكهرب، تراقبه الطائرات صباحًا ومساءً، نما وعيه على قصف جوى معتاد بين عام وآخر، أقله يحصد الآلاف

أخجل كذلك من التعبير عن رأيي في فرحة لحظية شعر بها لاجئ سوري عند موت حسن نصر الله، بعد أن فقد كل من يعرفهم، وقد احترق لحمهم بنيران براميل البارود التي ألقتها عليهم طائرات بشار الأسد.

لا أعرف كيف يجرؤ بعض المصريين على الحديث من الأصل. الصمت قد يكون أدبًا وحكمةً، لربما فكروا وتدبروا في حالهم، حقيقة لا أعرف كيف وصل هذيان الضمير ببعضهم إلى مستوى لوم الفلسطينيين أيًا كان موقفهم، على أي قرار اتخذوه أيًا كان!

فلننقذ أنفسنا من الخذلان 

عندما شاهدت فيلم سواق الأوتوبيس (1982) أحببته جدًا ولم أعرف لماذا. البداية قاتمة والأحداث مؤلمة والموسيقى كئيبة، فكيف لطفل في السابعة أن يستمتع بكل هذا الألم الفج الذي صوَّره عاطف الطيب؟ مع مرور الزمن، أدركت أنني أحببت الفيلم لأنه قصة عن الخذلان الذي كنت أشعر به في كل من حولي.

يبدأ الفيلم وسائق الأوتوبيس يخذل راكبة وهي تصرخ لأن لصًا سرق محفظتها، لم يوقف السواق حافلته وتجاهل استغاثة المرأة.

بعدها تعثر أبوه ماليًا وأصبح على وشك فقدان ورشة النجارة التي تمثل له معنى حياته، طلب السواق من أخواته أن يساعدنه في نجدة أبيهم ماليًا كي لا تباع الورشة في المزاد، فخذلنه واحدةً تلو أخرى؛ الأولى بلطف تحت عنوان "العين بصيرة والإيد قصيرة"، والثانية بتعاطف شفهي ووعود لم تتحقق ذلك أنها الأخت الجامعية المثقفة، أما الثالثة فخذلته بدناءة حين طلب زوجها شراء الورشة مقابل سداد الدين.

ثم يموت الأب بحسرته، بعد أن وافق على بيع ابنته الصغرى لتاجرٍ من عمره في صورة عقد زواج.

بعد عام من الإبادة لا خيارات أمامنا إلا النصرة أو الخذلان أو الخيانة

انتهى الفيلم بمشهد بدايته، إحدى الراكبات تصرخ لأن لصًا يسرق محفظتها، لكن السائق في هذه المرة أوقف حافلته واعترض اللص وكال له أشد أنواع العنف ضرواةً وهو يصرخ "يا ولاد الكلب".

في زرائب الفردانية الأمريكية يتصور كثير من المصريين أنهم بتبني قيمها سيصبحون "ناس كوول" وناجحين في رحلة التحول من مصريين إلى Egyptians، أو في إثبات أنهم ليسوا فلاحين على الأقل. هذه الزرائب المتأمركة تنتقص من قيمة نصرة الضعيف ولا تعتبر الخذلان عيبًا، الفردُ فردٌ وعلاقاتُه حسابات، والمجدُ شخصيٌّ وكل علاقة بمردودها، والمشكلة أنهم يتبنون تلك التصورات وبعضهم لم يعبر جسر بلدة مهمشة في الدلتا.

كتبت سابقًا أن الهوية هي "الإحاطة بكل ما لا نعيه في أنفسنا بينما نمارسه ببداهة وطبيعية، ينساب منا من دون أن نسائله أو يسائلنا"، أيًا كان موقفنا النقدي العقلاني منها كأفراد مثقفين. الثأر والكرم هوية، والجدعنة أيضًا، وهي، كلفظ ومدلول، لا مرادف دقيقًا لها في لغات كثيرة.

بعد عام من الإبادة، علينا معرفة ألَّا خيارات أمامنا نحو الفلسطينيين إلا النصرة أو الخذلان أو الخيانة، وكثير من المصريين يتركون الجدعنة ويراوحون بين الثانية والثالثة. فنحن لا ننصر أنفسنا من الأساس، ومن لا ينصر نفسه سيخون العالم كله.

قد يدرك البعض من مِحَن هذه الأيام مبدأ وحدة القضايا قبل أن يخرج علينا من يخبرنا أن الاستعمار إعمار

ربما يسخر البعض من كلامي لأنه يعتقد أن أمه اسمها نفرتيتي وفلسطين والعرب ليسا قضيته. حسنًا، فلتبحث عن أمك في صحراء تل العمارنة دون أن تردد كلام الصهاينة، اليهود منهم والعرب.

وربما يقرأ البعض في كلامي خَطابةً أو مثاليةً تقادمت، خاصة ممن يتخيل نفسه مشروع رائد أعمال وزميل إيلون ماسك لمجرد أن حساباتهما موثقة على إكس. هذا أقول له هنيئًا لك زريبة فرديتك التي أعدك أنها لن تُحقق لك وعودها؛ لن تنكح أجمل النساء ولن تكسب كل الأموال وستجد نفسك بعد فترة من الوقت تعانق عدميتك لتهلك فيها وحيدًا. وربما عليك وقتها أن تؤنس وحدتك بجرعات من مخدرات تفصم وجدانك قطبين يصارعان بعضهما البعض حتى يعاقب الموت عذابك.

تحت وطأة الطغيان ومذلته، أصبح كثير من المصريين مثل المرأة المُعنَّفة التي يضربها زوجها الأحمق المدمن المهزوز صباحًا ومساءً ويسرق عَرَقها، لتتحول إلى كائن رعديد مسلوب الإرادة يشعر بالذنب في نفس الوقت، فإذا زارتها أختها المُعنَّفة هي الأخرى، محترقة الوجه منتهكة الجسد من سادة حياتها، لامتها على غياب حكمتها بقرارها التصعيد ضدهم، وأدانتها لأنها من جنت على نفسها بهذا المصير.

مَثَلُ النساء المعنفات هذا قد يثير حفيظة بعض القراء الرجال، وربما يُذكِّر بعضهم الآخر بنخوته، ويُذكِّرهم أيضًا بأن نصيب النساء من التنكيل في مجتمعاتنا سيرتدُّ عليهم ويحصدونه مرارًا، هم وأولادهم ذكورًا وإناثًا.

لربما يتعلم البعض من مِحَن هذه الأيام معنى مبدأ وحدة القضايا، وأن الصراع مع إسرائيل هو وجه من أوجه الصراع مع أمريكا ومع البرجوازية المحلية ومع البطريركية الدينية والأخلاقية، لأنكم قد تسمعون بعد سنوات قليلة أن خليج رأس الحكمة وجزيرة الوراق وغيرهما كانت أرضًا بلا شعب، مثلما تقول السردية الصهيونية عن تاريخ الاستيطان في فلسطين، وسيخرج عليكم من يقول إن الاستعمار إعمار أيها الكسالى المتخلفين الفقراء.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.