دائمًا ما رأيت في الهوية حفظًا وإحاطةً بكل ما لا نعيه في أنفسنا بينما نمارسه ببداهة وطبيعية، ينساب منا من دون أن نسائله أو يسائلنا. وحين تأتي اللحظة التي نتحدث فيها بعصبية ويقين عن "هوية أصيلة" لنا، تكون تلك غالبًا هي لحظة إدراكنا أن هذه الهوية فارقتنا. إن أغلب الهويات المعيّنة لفظًا ونصًا هي إما هويات مفقودة أو ميتة، فهوية مصر الفرعونية مثلًا، هي انتحال معاصر لواقع لم يكن يسمِّي نفسه كذلك في الماضي.
من بين كل ما يمكن أن يُوصف به شهر الصوم، أصبح رمضان كريمًا. وهو كريم لأننا أهل كرم، وكرمنا هذا هوية؛ لا نراها في أنفسنا ولكن يراها الغرباء فينا، حتى إنَّ بعضهم يشعر بالضيق والانزعاج والتشكك منه؛ فكيف لفقراء أن يجودوا بالقليل الذي لديهم ترحابًا بغريب لم يعرفوه قط؟ ما المنطق وما الدافع من ورائه؟
نحن أيضًا لا نعرف، فنحن ما نحن عليه، ونشعر بالعار إن لم نكُنه، ونكُونه بقدر جهلنا به. يقدم لك فقراء في قرى الصعيد كوبًا من الماء المغلي وفيه ملعقتان من السكر، لأن الزمان ضنَّ عليهم بالشاي أو الحلبة، يذكرونك عبر بادرتهم هذه بأنَّ العطاء شرف، والشرف أيضًا هوية، ولكنه هوية ضائعة وفردوس مفقود، نبحث عنه بأيِّ وسيلة، ونحاول تعيينه قدر المستطاع.
يكابد رمضان المصري مشقة وجوده ويختال رمضان الإيجيبشان بعناصر سطوته
رمضان كريم، لأنَّ الله أكرمنا، أو هكذا نعتقد، فالناس حين يصومون يستحضرون علاقتهم بخالقهم من خلال مشروطية فرض الصوم عليهم كجماعة. والصيام في مصر عبادة مجتمعية وليس ممارسة فردية كالصلاة، مما يحوِّله إلى سلوك اجتماعي جماعي قاهر، ولكنه في الوقت نفسه يحوِّل الشهر إلى حالة احتفال مستمر بهذه العلاقة الجماعية مع الإله، وبكونه مناسبة لتذكيرنا بكوننا جماعة في زمن تتهشم فيه كلُّ الروابط، إلا ما يربط الانسان بآلة استغلاله الرأسمالية.
رمضان.. الكريم والفقير والبذيء والفظيع
يحلُّ شهر رمضان هذا العام على المصريين وأغلبهم بات يدرك تدهور أحوال معيشته إلى حدود الفقر المؤلم. يأتي ثقيلًا، بعدما أصبح في العقود الماضية عنوانًا لتكثيف الاستهلاك واستعراض عناصره؛ لتصبح حالة الإفقار المعممة بيانًا فجًا لما آلت إليه مستويات المعيشة، وقدرة الناس على الاستهلاك والوفاء باحتياجاتها.
شهدت في طفولتي عددًا قليلًا من الرمضانات الفقيرة، حيث لا يوجد من عناصر الخُشاف إلا البلح، ولفافة أو اثنتان على الأكثر من قمر الدين الذي كان منتجًا نستورده حصريًا من سوريا بثمنٍ غالٍ، وقتها كان الكركديه الذي يمكن صنع كميات كبيرة منه هو الوسيلة الوحيدة لإضفاء المظهر الرمضاني على المائدة.
كان ذلك قبل أن تصبح الخيم الرمضانية شائعةً، وقتها لم تكن استعراضات البذخ ضمن مظاهر الشهر، وعلى نحو يُشعِر الجميع بضرورة مسايرته.
ربما يعلمنا رمضان الفقير، كتجربة وإدراك جماعي، أنَّ الفقر ليس وصمةً، وأنه أضحى معممًا لدرجة أزاحت عن كاهل الناس عار فرديته. عمّت السيئة حتى لم تصبح سيئة في ذاتها، بل ربما في عموميتها هذه يدرك الناس أنَّ جودة الحياة، كهدف جماعي، غاية أكثر إمكانية من لهاث فردي لن يؤتي ثماره أبدًا، في ظل بنية منحطة فقدت كلَّ أسباب استمرارها بشكل يحفظ للفرد أو الجماعة الحدَّ الأدنى من احتياجاتهم.
في نفس ذات الرمضان وعلى أرض نفس البلد، تبث وسائل الإعلام المختلفة حصصًا إعلانية مطولة لشركات اتصالات وبنوك ومشروعات لتطوير عقارات. في هذا الرمضان ستشاهد جورجينا رودريجز، شريكة حياة النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو، في إعلان كمباوند عقاري مصري، لم ينطق فيه مخلوق واحد باللغة العربية، ولم تُكلف الجهة المعلنة نفسها عناء ترجمته للمشاهدين.
وهناك أيضًا رمضان الفظيع الذي حلَّ والإبادة ماضية في غزة، ونعجز عمدًا أو جهلًا عن إدراك مستوى بشاعته وطغيانه، فيأتي قاسيًا مُذلًّا على من يقتسمون معنا اللغة والدين والحدود.
يلتقي كذلك رمضان المصري مع رمضان الإيجيبشان بفجاجة إجرامية. يكابد رمضان المصري مشقة وجوده ويختال رمضان الإيجيبشان بعناصر سطوته، قطاران يسيران على قضيب واحد، والكل يكتم أنفاسه لا يعرفون كيف وأين ومتى سيصطدمان.
كلُّ الخطوط تمشي معًا بتوازٍ محليًا وإقليميًا؛ تواصل السعودية ترفيهها، ويُباد الفلسطينيون جوعًا وقتلًا، وترتفع أعلام فلسطين زينة رمضانية في أحياء مصر الشعبية، ويدعو فقراء موائد الرحمن اللاجئين السودانيين واليمنيين إلى مشاركتهم طعامهم.
ندرك في هذا الرمضان أننا شعب واحد وشعوب كثيرة في نفس الوقت، سيمرُّ هذا الشهر كما يمر أيُّ شهر آخر، ولكنه سيترك خلفه إدراكات جديدة بضرورة تكافل الفقراء ونجاتهم بالتعاضد والدعاء، فيما يشاركهم على نفس الأرض من استحوذ على السلطة والثروة غير مبالٍ، ليعيد إنتاج رمضانه الباذخ البذيء.
كان لدينا رمضان الكريم فأصبح لدينا رمضان الفقير والبذيء والفظيع، يتشاركون الزمان والمكان، ويحكم فيهم السلاح والثروة والسلطان. لا نعرف على أي شاطئ سيرسو كلٌّ منها، لكن ما أعرفه أنَّ أبناء رمضان الفقير ورمضان الفظيع سيلتقون على أرضٍ ما، وربما يسعون معًا إلى استعادة رمضان الكريم، الذي كان هويةً؛ أدركناها، ففقدناها.