
رمضان واكتشاف الليل طفلًا
ولدت حيث تنتهي المدينة. وكلما انتقلت إلى منزل جديد انتقل معي حدُّها الصحراوي، عرفت هناك معسكرات القوات المسلحة حارسةً للنهاية، كانت جدتي تحذرني من سيارات الجيش الچيب المكشوفة التي طالما قتلت أطفالًا يلعبون في الشارع عن طريق الخطأ، يمرح جنود لم يتعلموا القيادة ويلهون بمدرعة مكشوفة وجهها الأمامي يشبه رجلًا غاضبًا مسرعًا تخيلته أحيانًا بوجه عبد السلام النابلسي.
كانت معسكرات الجيش حول منطقتنا تنتج في أفرانها خبزًا شاميًا ينقله الجنود في لواري زيل العملاقة، يجري خلفها الأطفال هاتفين "عيش يا بتوع الجيش"، وهم يعبّرون عن رغبتهم في الحصول على ما يتصورونه حقًا مجانيًا لَذَّته في مشاعه. هم لم يكونوا في حاجة حقيقية له، ورغم ذلك كثيرًا ما حاول بعضهم تسلّق السيارات من الخلف وهي مسرعة، ومات منهم اثنان تحت عجلاتها.
للعيش في جوار الصحراء مميزاتٌ وعيوبٌ، أنت تنعم بهدوء لا يعرفه أغلب سكان القاهرة، وتملك مساحة للحركة والتسكع ببراح وحرية لا يعرفهما كثير من أبناء الأحياء الشعبية الأخرى، المحكومة بحضور "الحكومة". في حينا لم يكن حضورها دائمًا، بل شكَّل حالة الاستثناء المرتبط بوقوع الجرائم، التي كانت نادرةً.
لكن الميزة الأهم هي أن الصحراء تكسر لديك كل المخاوف، مجاورتها تعني التطبيع مع احتمالات الضياع والفقد والوحشة، ففي النهاية لا شيء يخيف أكثر من الخوف نفسه.
أما العيوب فكانت هي الميزات ولكن عندما تنقص أو تزيد قليلًا. فالحرية تصير وحدة ووحشة، والهدوء يجلب أحزانًا في الخريف بصحبة رائحة الجوافة مع اقتراب موسم المدارس. والكلاب ليست صديقة بالمرة، أما الليل فهو مُحرّم على الأطفال. إلا ليل رمضان.
كانت أمي في شبابها امرأة تربوية تعمل في سلك التربية والتعليم، وكانت شديدة الصرامة في مواعيد النوم، خاصة في أوقات الدراسة. لم أعرف الليل في المرحلة الابتدائية إلا في أيام الخميس وفصل الصيف، كنت أنام في التاسعة وأصحو في السادسة.
وكان رمضان هو الاستثناء السعيد.
في اكتشاف الليل الرمضاني كسرنا تابوهات وحطمنا المخاوف ونضجنا مبكرًا
دائمًا ما ردَّد أبي، وهو يتمسك بالضيوف ليكملوا السهر في بيتنا، أن الليل لا يزال طفلًا. اكتشفت الليل طفلًا في رمضان واكتشفني هو طفلًا يشاهد خيوطه الأولى في السماء، استعدادًا لبدء يوم آخر ولكن من نوع جديد؛ يبدأ في المساء! طقوسه الفوانيس وكرة القدم واستكمال الزينات ومحاولة تثبيت وإصلاح إضاءة المسجد، المغلفة بألوان الجلاد الرديء لكراريس المدرسة.
أشارك أهلي الطعام في عجالة وأنزل مسرعًا لمشاهدة ضوء الغروب يخبو، لأشعل النور مع أصحابي بالفوانيس، وكان للفوانيس وقتها علة؛ فعواميد الإنارة كانت في الشوارع الرئيسية فقط، وأغلبها لا يضيء، وتتدلى منه أسلاك الكهرباء تهددك في كل لحظة بموتٍ مباغتٍ كما فعلت بالبعض.
وقتها، كانت الفوانيس لا تزال تلعب الدور نفسه الذي تلعبه في قاهرة الفاطميين، الفارق أن فوانيس طفولتي كانت زجاجية ثقيلة غبية الإضاءة إذا كان أهلك ميسوري الحال، أو بلاستيكية مرنة أرخص ولكنها أكثر إقناعًا.
في اكتشاف الليل الرمضاني، كسرنا تابوهات وحطمنا المخاوف ونضجنا مبكرًا، لعبنا "الاستغماية" في مرة واختبأت أنا وصديق يكبرني بعامين في دولاب ممدد في فناء خلفي مزروع خلف إحدى البلوكات. كان هذا الصديق مصابًا في وجهه وجسده بحروق من كل الدرجات بعد انفجار أسطوانة بوتاجاز في وجهه قبلها بسنوات، أثرت الحادثة على صوته أيضًا فصار أشبه بصرير الصفارات الصدئة.
اختبأ كلانا في الدولاب المكدس بالروبابيكيا، دخلت برأسي، مثلما أدخل برأسي في كل شيء إلى الآن، في فتحته اليمنى ليتدلى منه نصفي السفلي، أما صديقي ففعل العكس من الناحية اليسرى، فلم يظهر منه إلا رأسه المشوه.
وفي الأثناء، مرَّ بائع اللبن على دراجته في الشارع المعتم الصامت إلا بصوته المجلجل "لبن وزبادي وجبنة وقشطة".
لم يفوّت صديقي الفرصة وناداه بفحيح صوت حنجرته المصابة: يا بتاع اللبن، يا بتاع اللبن!
ارتعب الرجل الكُبَّارة وكرر صياح اللبن والزبادي والجبنة والقشطة في جزع لافت، ثم استجمع شجاعته واسترق النظر نحو مصدر الصوت ليرى كائنًا عملاقًا ممددًا في دولاب كبير رأسه في ناحية وساقاه الصغيرتان في ناحية أخرى، فانطلقت صرخاته وهو يهم بتحريك دراجته حتى انفلت جنزيرها ملتفًا حول ساقه، فانقلب كل شيء وتناثر منه خليط اللبن مع الدماء وهو يعدو مسرعًا ونحن نضحك بفخر مديد.
أيام قليلة وصرنا نسمع من رجال الحي عن الجنينة المسكونة، منهم من قال إنها نجسة لأن إحدى نساء البدرومات كانت تمارس فيها البغاء، ومنهم من قال إنها مسكونة بعفريت عسكري مات في الحرب يأتي من وقت لآخر لزيارة عائلته السويسية.
كان المتهامسون من رجال الحي بقصة الجنينة المسكونة هم الأكثر سطوة وحضورًا؛ ضابط في الجيش ومخبر في الداخلية يحترف تعذيب البشر وبلطجي يبحث عن الفتونة والمَعْلمة، وجميعهم كانوا أُناسًا طيبين وأخيارًا في جيرتهم.
ولكني ظفرت مع صديقي بالبيع كله، قتلنا العفاريت وقت أدركنا أننا العفريت بذات نفسه، هو رأس العفريت وأنا ساقاه، خبأت عن أمي قصة نصف العفريت واحتفظت بها لنفسي، كنت مزهوًا بشدة، ساعدني اللهو الرمضاني على حرق المراحل. ليست هناك عفاريت منذ سن الثامنة وأنا العفريت ولا عفريت سواي، أما الكبار فهم مجموعة من الحمقى الجبناء مهما علا شأنهم.
عليَّ الآن أن أواجه العالم بكثيرٍ من الأسرار وأن أكتشفه كما هو، بعيدًا عن حكمة الكبار المفتعلة، يخافون طفلًا بوجه محترق، ظلوا ينظرون إليه مطلع كل نهار بعين الشفقة أو التنمر، حتى انتقم منهم ليلًا.
شكرًا رمضان، كل العرفان والامتنان.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.