يحب المصريون الأعياد والمواسم، ويودون لو طالت أبدًا. ربما لأن تراث وتقاليد العمل في الحضارة الزراعية لمصر القديمة والحديثة لم يعرف مفهوم يوم الإجازة الأسبوعي، كما يرجح البعض، فالعمل والمعاناة هما الأصل فى الحياة، للأحرار والعبيد على حد سواء. والراحة، إن وجدت، فمواقيتها محددة بفترات ما قبل الحصاد حيث العمل في حده الأدنى. يجلس الناس على المصاطب بجوار بيوتهم الطينية، يخترعون اللغة واللغو والنميمة والمسامرة والبداهة، وأحيانا الآلهة.
ويبدو أن تلك الفترة من السنة هي التي نحتت مهارات المصريين الكلامية المتميزة، التي يقدرها جيدًا الناطقون بالعربية، وكان سيئ الحظ من الأغراب هو من يشتبك معهم خلالها، فيعطوه من "نقاوة الكلام خيار"، كما يقول المثل الشعبي. وربما في إحدى تلك الحوادث والسياقات قال ابن إياس جملته الشهيرة بأن "أهل مصر لا يطاقون من ألسنتهم إذا أطلقوها في حق الناس".
يحب المصريون الأعياد والمواسم، ويحبون التملص من حياتهم وإيقاعها، فهي إما مريرة، أو منغصة، أو غير مريحة في أفضل الأحوال. أصبح عيد الأضحى أربعة أيام، والفطر ثلاثة منه، لم تتوقف الموالد ولن تتوقف، والليالي الكبيرة كانت وستظل كذلك.
ما يُحكى عن رمضان القديم
رمضان القديم لا أعني به ما كُتبت عنه السير، ولا أعمال التأريخ في أزمنة وعصور ما قبل الحداثة، ليس ما ذكره تقي الدين المقريزي في خططه ومواعظه ولا ما كتبه ابن تغري بردي في مناهله ونزهه، بل رمضان النصف الأول من القرن العشرين وبداياته، من حكايات الأجداد الذين جلسنا على حجرهم صغارًا وهم في أواخر شيخوختهم.
لا يوجد في حكايات الأقدمين ممن عاصرناهم أو قرأنا لهم ما يشير إلى رمضان المعاصر، المثقل بالممارسات الاحتفالية لحدود التخمة. كان بالطبع احتفاليًا وكاسرًا للإيقاع السنوي، ولا سيما في المدن، وقت كان رمضان الحضر شديد الاختلاف عن رمضان الأرياف. ولكن في كل الأحوال لم تصل مفرداته إلى مرحلة العبء الاحتفالي الممتد الذي يصاحب "الرمضانات" الحديثة.
باستثناء الصوم، لم يكن رمضان شهرًا للورع الديني إلا لعباد الله شديدي التدين. كانت ليالي التلاوة والإنشاد والذكر حافلة، تتلألأ فيها نجوم مازالت أصواتهم حية بيننا تطمئن آذاننا حتى بعد مرور كل تلك السنين. ولكن لم تكن الطقوس التعبدية في الساعات التي تفصل بين الإفطار والسحور شائعة بين عوام الناس كما هو الحال هذه الأيام.
مع انتشار التليفزيون زاد الترفيه ترفيهًا
ذاكرة رمضان "غير المبرمج" كان الاستهلاك المميز فيها لا يتجاوز مشروبات ما بعد الإفطار والياميش، لمن اقتدر واستطاع دفع ثمنه من ميسوري الحال، وقت كان يأتي من بلاد الشام حصرًا. وبخلاف طلقات مدفع القلعة قبل الإفطار، تملأ الذاكرة الرمضانية القديمة بالأساس عدد من الطقوس والممارسات التى يلعب فيها الأطفال دورًا محوريًا؛ فرحتهم بالفوانيس ذات الشموع تضيء الليل في زمن لا تنتشر فيه المصابيح الكهربائية، طلب العادة والحلوى من الكبار المارين في الشارع دون اعتبار ذلك تنطعًا أو عملًا من أعمال الشحاذة، ومبادرتهم بتزيين الشوارع بشكل طوعي وجماعي بزينات الشهر الملونة.
رمضان الدولة الحديثة وآلتها الإعلامية
لكن العلامة الفارقة في ظني التي شكلت نقطة تحول في صياغة رمضان الذي عرفناه منذ كنا صغارًا، هو حضور وسيطرة أجهزة الإعلام المركزية التابعة للدولة ودورها في هندسة اليوم الرمضاني في كل تفاصيله، بشكل تحول، تدريجيًا ومع الزمن، إلى درجة تضبط فيها ساعتك بالدقيقة على ما يقدمه التليفزيون لدرجة ضبط إيقاع الأنشطة الحياتية الأخرى مع فقراته.
انتعش رمضان "الترفيهي" في الخمسينيات بعد ثورة 23 يوليو، حيث بدأ مفهوم البرنامج الإعلامي الرمضاني المميز مع "الإذاعة المصرية" وقنواتها، وكانت أفضل المسلسلات الإذاعية تُقدم في فترات الالتفاف حول المائدة وما بعدها.
اجترحت التعددية من العالم عوالم، وأصبح تسارع الإيقاعات وتعددها منتجًا للتوتر واللهاث
لكن مع انتشار التليفزيون زاد الترفيه ترفيهًا، وزادت البرامج الحوارية وبرامج المسابقات والاستعراضات، وأصبحت فوازير رمضان هي الفقرة المركزية التي تتمحور حولها الأحداث، ولمدة ثلاثين سنة على الأقل، من منتصف الستينيات وحتى منتصف التسعينيات.
تحدد الإيقاع الاجتماعي في رمضان بإيقاع الإعلام المرئي حصرًا، ودارت حروب وجدالات تحت عنوان التراويح أم الفوازير، حدثت تسويات ومساومات لكي يهدأ الإيقاع التليفزيوني قليلًا في فترة ما بعد صلاة العشاء، الدورات الرمضانية لكرة القدم انتقل جزء منها لساعات ما قبل الإفطار الخالية من مادة إعلامية شيّقة بالرغم من عدم منطقية بذل المجهود في الساعات الشاقة، وخاصة إن كان رمضان صيفيًا.
لكن زيادة الأضواء الكاشفة وأعمدة الإنارة فى الشوارع ساعدوا في انتشار الدورات الرمضانية الليلية التي كان حب كرة القدم فيها أبقى وأعظم من أي محتوى تليفزيوني.
ومع أواخر الثمانينيات، ظهر غول المسلسلات المتتابعة ذات المستوى الفني المرتفع والإنتاج السخي. وهى ظاهرة قيد الحلب والاستنزاف حتى الثمالة إلى لحظتنا هذه. بدأ ذلك، وربما بالمصادفة، حين عُرض مسلسل ليالي الحلمية (1987) متبوعًا بمسلسل رأفت الهجان (1988)، لتتحول بعدها الدراما التليفزيونية المتتابعة إلى ما يشبه الديانة المستقلة تقريبًا.
لكن الثابت أن رمضان "التليفزيوني"، وحتى منتصف العقد الأول من الألفية الثانية، كان منضبطًا بانضباط عدد قنوات العرض ومنصاتها. كان "البرنامج" موحدًا إلى حد كبير، وكان السواد الأعظم من الناس يشاهدون مواد متشابهة يتم عرضها عليهم جميعًا، تخلق بينهم لغات مشتركة يجترحون منها شفرات وتركيبات وخيال، وبالتالي ثقافة.
تغير الأمر بالطبع مع تعدد المنصات وتنوع مواد العرض ومواعيدها. أصبح رمضان دائريًا لا نهائيًا في برنامجه الإعلامي. اجترحت التعددية من العالم عوالم، وأصبح تسارع الإيقاعات وتعددها منتجًا للتوتر واللهاث.
رمضان الأمريكي
رمضان "المبرمج" أيضًا هو رمضان أكثر توترًا وإلحاحًا؛ إلحاح استهلاكي مادي وديني. وعلى الرغم من أن شهر رمضان منتج إسلامي حصري وخالص، ومن داخل بُلدان نامية وعالم ثالثية في الأغلب، فقد ناله ما ناله من ثقافة النهم الأمريكية، التي حولته إلى أثقال، تحول معها الشهر إلى حلبة للاستهلاك، يتصارع فيها الناس مستخدمين ما لديهم من قدرات مالية ومادية، ليصبح مجالًا استعراضيًا وحربًا للتوقعات والمقارنات وتلبية الحاجات.
جزء من إلحاح تلبية الحاجات ماديًا واستهلاكيًا يتبدى في النهم المنفر للطعام، الذي وصل حد اختراع طقس برجوازي مزعج يسمونه الخيم الرمضانية، التي يتقاطع معها وقت السحور الذي من المفترض أن يتخفف فيه الناس من الطعام إلا ما يعينهم على الصيام، وتتمحور مائدته حول أطعمة بسيطة هي الفول والزبادي بالأساس. ولكن هيهات، لقد انطلق المارد!!
لكن جزءًا آخر من نهم تلبية الحاجات هو نهم ديني أيضًا، يتبارى الناس في ختم القرآن أكثر من مرة، كما لو كانوا فى سباق. يكثفون عواطفهم الدينية، كل منهم وحالته، إما عدوانًا بإطلاق عنان الغضب والتنكيل بالنساء وغير المسلمين باسم الصيام ومشقته، أو كرمًا وبشاشة زائدة ناحية أيّا من كان طلبًا للثواب فى الشهر الفضيل، لكن فى كل الأحوال الجميع متوتر.
يبقى الكثير من ملامح الأصل حيث يسكن الأصليين. انتشر في الأيام الماضية مقطع لطيف لمسحراتي يجول حواري إحدى المدن المصرية، التي لا يمكن تمييز موقعها على أية حال. في ذلك المقطع لم يحمل المسحراتي طبلة وعصا صغيرة من النوع القديم بل طبلة كبيرة تشبه المستخدمة في السيرك.
التف الأطفال حوله بالعشرات، جيوش تصرخ في فرحة وانفعال تطالب الناس باليقظة من أجل السحور، تهتف في حماس يشبه حماس المتظاهرين. لا يمكن أبدًا تصور وجود إنسان نائم في تلك الظروف إلا لو كان تحت تأثير شريط كامل من الحبوب المخدرة. الأثر باقٍ على كل حال، والتراث مستمر بإرادة مشتركة. لا يزال المسحراتي موجودًا والأطفال يختلسون فرحتهم، حتى لو اليقظة والقلق والضجيج هم أسياد الموقف.