يوتيوب
لقطة من ترايلر دورة مركز شباب قرية البعالوة الرمضانية لكرة القدم، فبراير 2025

أن تنصرنا قرية البعالوة الصغرى

منشور الخميس 20 فبراير 2025

أنا مصري باختياري ولست مجبرًا، أبحث دائمًا عمَّا ينصر مصريتي وأنا في بلاد بعيدة. مصر التي لا يأتيني منها ما يُسعِد إلا خلسةً أو مخاطرةً. أنا مصري ولست إيجيبشان ولن أكون؛ فأن تصبح إيجيبشان فهذا كرينج في حد ذاته، وتكفي إنجليزيتهم المصطنعة المثيرة للشفقة والإحراج أكثر من أي شيء آخر.

أودُّ دائمًا تذكيرهم بأنهم مصريون وفلاحون مهما حاولوا إخفاء جريمتهم الاجتماعية خلف أشكال وشفرات متنوعة من التفرنج المحرج، الذي يحوِّلهم إلى غرب أفارقة يخلطون الفرنسية باللغات المحلية المحكية، ينهبون البلاد ويحلمون بالهجرة.

ينتحل الإيجيبشانز مصر بأكملها، إن لم يكن بأنفسهم فعلى الأقل عبر مسوخ تتشبه بهم وتعتبرهم نموذجًا للترقي والتحقق الطبقي. أمر شديد القسوة أن تشاهد يوميًا هؤلاء المسوخ وهم يهيمنون على المشهد المصري، إعلامًا وثقافةً، سمعًا وبصرًا، هيمنة تجثو فوق صدرك كبيضة تنين غبي.

لكن من تحت وطأة أثقالها أبحث عن المصريين، وحين أجدهم ويجدونني، أشعر بالانتصار يملأ  روحي ببصيصٍ من مشاعر الاسترداد. 

كنت قد كتبت منذ عام مقالًا حزينًا أنعى فيه كرة القدم المصرية التي عرفتها، وكيف أضحت شيئًا كريهًا منزوع الجماهير والمتعة، مسرحًا للأراجوزات ومغسلةً للأموال، وتنافسًا برجوازيًا متنطعًا داخل الأكاديميات الكروية وقطاعات الناشئين الفاسدة، فصارت مَذَلَّةً لمن أحبوها لأنهم يتكيفون مع مشاهدها القبيحة ومشاهدتها المملة، تمامًا كالمسوخ المتمسحة في إيجبت المسخ.

منذ أيام شاهدت فيديو ترويجيًا لدورة رمضانية سينظمها مركز شباب قرية البعالوة الصغرى في محافظة الإسماعيلية. ثلاث دقائق استرددت فيها ذاكرتي؛ مصريون وشوارع ضيقة وفرارجية وأطفال يلعبون ويتنافسون. أعلام فلسطين والنادي الإسماعيلي، أعلام فلسطين مرة أخرى وبتكرار واعٍ يحمل رسالة واضحة، ثم دقيقة صمت لروح إيهاب جلال.

شعب يريد كرة قدمه هو، يقول ما يريد، يحدد رموزه ومتعته ويسطر رسائله.

https://www.youtube.com/watch?v=aL1iP6djeFM

الشعب المصري يحب كرة القدم ومن يحكمونه يكرهونها ويكرهون جماهيرها. وكان يجب أن يجد الناس حلًا، ووجدوه في أراضيهم المحررة، القرى النائية ومراكز الشباب.

توقفت عن مشاهدة المباريات الرسمية المحلية عدا بعض مباريات المنتخب، لكنَّ اهتمامي ازداد في المقابل بمشاهدة الدورات الرمضانية المسجلة والمنافسات شديدة المحلية التي تُصوَّر بتقنيات جيدة جدًا. أستمتع من خلالها بمهارات خام طيبة وأليفة وجمهور سعيد، والناس لا تريد إلا بعضًا من سعادة بعد إذن أصحاب السعادة والمعالي والفخامة ودولة الرؤساء والسيادات.

كرة القدم رياضة، ليست كتابًا مقدسًا نصًا ومضمونًا، لذا فهي قابلة للتحور والتغيير، ينشئ العامة نسخهم الخاصة وهم يدركون استحالة التحاقهم بنسخته "الشركاتية"، لم يعد الشارع والدورات مفرخة للاعبي الأندية الذين صاروا يصنعون تصنيعًا في أكاديميات رياضية كأطفال المماليك في العصور الوسطى، لذا تتحور رياضة أخرى بقواعد مختلفة، جمهور مختلف، أرضية ترابية منسقة ومرمى مساحته أكبر من مرمى كرة اليد وأصغر من مرمى كرة القدم "الرسمية". مباريات تصورها الدرونز والكاميرات المحلية ويعلق مذيع عليها تعليقًا حيًا من داخل ملعب يعرف كل أفراده معرفة ربما تكون شخصية.

ليس هناك أجمل من ذلك؛ جمهور حقيقي فَرِح وسعيد بما يراه. حين أشاهد هذه الفيديوهات تغمرني سعادة حقيقية، متعة من نوع جديد من رياضة أحببتها ومارستها وفخرًا بقُرى ومناطقَ انتَزعت حريتَها وأرست ممارساتها الخاصة بعيدًا عن هؤلاء الذين لا أمل فيهم ولا جدوى.

جميل جدًا أن تسترد الممارسة نفسها، تتطور فتتحول إلى شيء مستقل بذاته، تجربة الدورات الرمضانية الآن فريدة، فهي في الريف المحرر بأهله  ممارسة تتحد مع أصحابها وعناصر حياتهم.

الأندية المصرية الكبيرة كالأهلي والزمالك اكتسبت شعبيتها من أسفل، في بدايات القرن العشرين قبل أن يصبح هناك راديو أو تليفزيون، أو شباب يشترون ملابس رياضية ذات علامات تجارية رسمية. كان الأمر شعبيًا والصيتُ والحكاياتُ شعبيين؛ الأهلي في المدبح، والزمالك في ميت عقبة. أحبَّ الناس أنديتهم لأنها كانت أنديتهم على مستوى الممارسة لا المشاهدة.

هذه الأندية مثلها مثل كرة القدم، ليست أبنية مقدسة، وليست "كيانات" غير ممكنة التعريف، لربما تنتهى هي الأخرى يومًا أو تتحور إلى شيء آخر. الكل حر فيما يريد، ولكني أحب نسخةً من كرة القدم، لم تعد موجودةً في مصر على المستوى الرسمي. أما كرة القدم الاحترافية المتطورة، فيكفينا أن نشاهد الدوريين الإنجليزي والإسباني ودوري أبطال أوروبا.

ومثلما تتجه الرأسمالية يومًا بعد يوم إلى طور احتكاري أكثر وأكثر، شاهدنا فيه ربع ثروة العالم في كادر واحد خلال حفل تصيب دونالد ترامب، تتحور كرة القدم القديمة إلى المصير نفسه؛ منافسات أوروبية مركزية جدًا جدًا، عنيفة، لاهثة ومُركَّزة، وستتكثف أكثر وأكثر يومًا بعد يوم لتصبح دوري سوبر أوروبيًا لأندية الصفوة، لنشاهدها بعد تعديل قوانين اللعبة وجعلها تشويقًا وسرعة عبر أمرَكَتِها.

وقتها ربما تتحول كرة القدم لتشبه ساحات وحلبات النزال الرومانية التي يتصارع فيها العبيد وهم يقتلون بعضهم البعض، ولكن بشكل أكثر تحضرًا وإثارة. على أي حال، هناك رياضة الآن اسمها الألتمايت فايت، أكثر عنفًا وتركيزًا ولا تختلف كثيرًا عن ممارسات عبيد الرومان في الزمانات.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.