في مصر، كرة القدم ليست مجرد تسلية لقضاء وقت الفراغ، وليست صناعة وتجارة كما في أوروبا، أو مصدر دخل للدولة كما في البرازيل، إنما تبدو لكثيرين بديلًا عن الأحزاب السياسية أو الأيديولوجيات، حتى أنَّ بعض السياسيين يقولون ساخرين إنَّ "أكبر حزبين سياسيين في مصر هما الأهلي والزمالك".
حين تُنشئ السلطة حزبًا لها، يسارع كثيرون بالانضمام إليه بحثًا عن منفعة وحماية بينما الأغلبية الكاسحة منهم لا تربطهم به عاطفة ولا فكرة مركزية، لا سيما أنها أحزاب بلا أيديولوجيات حقيقية، مثلما يوجد ما يربط المشجعين بفريقهم.
وحتى لو انضم البعض إلى أحزاب أيديولوجية، فلن يكون انتماؤهم في مأمن مماثل للانتماء الآمن لفريق كرة قدم، لا يكلف الفرد سوى التضحية بجزء من صحته العصيبة وهو يتابع المباريات.
يطلق جمهور الأهلي على فريقه أنه "أحسن فريق في العالم"، في مبالغة لا يقل عنها وصف جمهور الزمالك لفريقهم بأنه "الكيان الذي يستحق التضحية والصبر"، ويمكن لأيٍّ من الطرفين أن يجد في الانغماس في التشجيع طبابة له، ولو متوهمة، من معاناة يكابدها في حياة يومية تزداد صعوبة.
أصبحت كرة القدم سلوى لكثير من المصريين، وصارت بالنسبة للسلطة وسيلة مهمة لشغل الرأي العام، أو إلهائه، عن قضايا مهمة. وفي ركابها طالما مررت السلطة في أيام انتظار مباراة مهمة أو أثناءها قرارات صعبة، أثرت سلبًا في حياة الناس، حتى إنهم باتوا يضعون أيديهم على صدورهم حين يحقق المنتخب فوزًا مهمًا.
على التوازي، هناك من سعى إلى تسييس الكرة عبر "الألتراس" الذين ساهموا بدور كبير في ثورة يناير، عطفًا على خصومة نشبت قبلها بينهم وبين رجال الشرطة في الملاعب. واليوم صار هؤلاء من يتحدثون عن ثأر مؤجل ممن تسبب في قتل 74 من جمهور الأهلي في استاد بورسعيد، و26 من جمهور الزمالك في استاد الدفاع الجوي. وتسبب هذا في فرض قبضة أمنية على المشجعين، خلت بسببها الملاعب من الجمهور الغفير.
عبادة الفرد.. من الكرة إلى كل شيء
ويعكس تشجيع أغلب المصريين لكرة القدم طريقة تفكيرهم في المجال العام، حيث يعولون على نجم كبير واحد في تحقيق الفوز. فمثلًا ما إن تصل الكرة إلى لاعبنا الفذ محمد صلاح في مباريات المنتخب، حتى يهتف الجمهور "العب يا صلاح"، كأنه وحده في الملعب، وكأنَّ النصر مربوط بقدميه، ومعقود بإرادته، ومرهون ببراعته، وهو بارع بالفعل. أما لو وقعت الهزيمة، فيتم تحميلها على عنق غيره.
لا يزال الجمهور مؤمنًا بالخلاص الفردي؛ قائد واحد يشار إليه بالبنان، في تكريس لـ"عبادة الفرد"، أو على أحسن تقدير، حسن الظن الهائل واللا نهائي به، يأتي وحده بالنصر، ويخاف منه الخصوم، مع أن صلاح، رغم موهبته اللاذعة، يحتاج طيلة الوقت إلى خدمة زملائه في الملعب، لا سيما من بين الأكفاء المهرة.
ومع هذا تنسحب الرؤية السياسية للناس، التي توارثونها، عن ربط النهضة بإرادة فرد، وتحميل فرد واحد مسؤولية أي إخفاق للدولة برمتها، وهم محقون في هذا قياسًا إلى الانفراد بالحكم، أو تركز السلطات في يد رئيس الجمهورية، لكن من هو الزعيم السياسي الذي له في الحياة العامة قدرة صلاح في الملعب؟
كما لا يفكر الجمهور في أهمية المؤسسة، أو دور روح الفريق في صناعة التقدم، فهو ينسى أنَّ كرة القدم لعبة جماعية، تقوم على التعاون، وتبدو أقرب إلى النزعة الاشتراكية، ليس بالضرورة عن إيمان، وإنما، وبطريقة غير مباشرة، عن وعي بجماعية اللعبة، وهي مسألة لا يجهلها الجمهور بالقطع.
سوء الظن بالسلطة
ربما يملأ رأس أي مدرب أجنبي العجب من أنَّ الإيمان بالفرد الواحد يعشش في رؤوس المصريين لهذه الدرجة، خاصة في زمن فقدانهم اليقين بقدرة المجموع على التغيير، مع الانتصار المؤقت للثورة المضادة، والبحث عن أي أمل حتى لو كان عارضًا يتعلق بالكرة وليس بالديمقراطية والتنمية والمكانة، مع أن أهل مصر سبق أن دفعوا ثمنًا باهظًا لإيمانهم هذا، بعد أن خذلهم كل فرد ظنوا أنه قادر على صنع المعجزات.
وربما يندهش هؤلاء المدربون، ومعهم النقاد والمشجعون النابهون، من أنَّ الجمهور ينسى مثلًا أن مو صلاح، الذي صار تميمتهم الكروية، برع في ظل نظام اجتماعي حر، يؤمن بالكفاءة، ولا يفرِّق بين الموهوبين على أساس الدين أو العرق أو الطبقة. وإن ظهرت عوامل تفرقة في تصرفات هنا أو هناك، فإنها سرعان ما تجد ما يعيد الحق إلى صاحبه. كانت لدينا بيئة قابلة للتطور إلى هذا المستوى مع تقدم مصر الحديثة إلى ترسيخ الحريات العامة، لكن هذا المسار أُجهِض تباعًا، لتوضع مقاليد الأمور في يد فرد واحد.
في الوقت نفسه، يبحث جمهور الكرة المصري عن أسباب أخرى للفوز، فمرة يتحدث عن الحظ، وأخرى عن الفساد، وثالثة عن الهيمنة على الإعلام، ورابعة عن تأثير انتماء أفراد في السلطة على مجريات اللعب. ويكاد الناس يتصورون أصابع هؤلاء ممدودة من خارج المستطيلات الخضراء، تتحكم في الأقدام التي تتقاذف الكرة، وهو أمر يعكس سوء ظنهم بالسلطة.
ويُجهض كثير من المصريين فرصة التمعن في ربط الفوز بالإتقان، ومنه التخطيط السليم، والتدريب الشاق، وإرادة الانتصار. وليس لدى هؤلاء استعداد لفهم أن اللاعب التي يبرز يمكن أن يعطي مثلًا ناصعًا في أن بذل الجهد، ورعاية الموهبة، والانضباط، والقدرة على التكيف مع البيئة الاجتماعية، والاستمتاع بالعمل، وليس اعتباره عبئًا، ومراعاة الضمير، بوسعها جميعًا أن تحقق النجاح لصاحبها، سواء كان لاعب كرة أو مزارعًا في أرض قاحلة.
كما يُجهض جمهور الكرة في بلادنا فرصة التمعن في القيمة الكبرى لهذه اللعبة وهي "العدالة المعتبرة"، التي تزيد نسبتها في اللعب عن الجد. ففي ملعب الكرة يتساوى عدد اللاعبين، ويلتزم الحكم بقواعد صارمة، وهو إن سقط في هواه أو سوء تقديره، فهناك حكام مساعدون يصوبونه بواسطة "الڤار"، وهناك عيون وعقول الملايين التي تراقبه دون غفلة، وتقيم أحكامه في شفافية تفتقدها حياتنا العامة.
آفات الكرة في حياتنا
بدلًا من هذا، هناك رذيلة قاسية تسري كالوباء في نفوس مشجعي كرة القدم في مصر، يدركها من ينصت إلى تعليقات الناس على مجريات المباريات. فهذا الجمهور يغلبه الهوى، وتتبدل مشاعره سريعًا، ولا يفكر كثيرًا في الأسباب المنطقية المؤهلة للفوز، ولا يتقبل عذر لاعب أو مدرب، ولا يغفر لأي منهما تاريخًا من الانتصارات إن خسر مرة.
وهناك آفة ثانية يتزايد وجودها. فمن قبل كان الآباء والأمهات يعتبرون الكرة مضيعة لوقت أبنائهم، ويعاقبونهم على منحها وقتًا على حساب دروسهم. أما اليوم، ومع الأموال التي تصاحب عقود احتراف اللاعبين، تتزاحم الأسر على تمرير أبنائهم بأي شكل للالتحاق بفريق يلعب في الدوري العام.
صارت الكرة عند البعض وسيلة لحراك اجتماعي لا يحققه التعليم، وتسلل الفساد إلى هذا المنزع على حساب الموهوبين الذين لا ظهر لهم، شأن ما هو قائم في الحياة المصرية بمختلف دروبها.
وهناك آفة ثالثة تتمثل في الأمراض التي يسببها التشجيع الأعمى. فلا أنسى أبدًا صديقًا مات بأزمة قبلية إثر إحراز منتخبنا هدفًا في مباراة فاصلة، فما بالنا لو كان مرمانا هو الذي تلقى الهدف؟
والآفة الرابعة هي التعصب، فمن خلال ما سمعت ورأيت، أقول مطمئنًا إلى حد كبير، إن التعصب لكرة القدم في بلادنا، أكثر حدة من التعصب للعقائد والأفكار والصلة الاجتماعية.
ومع العولمة نقل جمهور كرة القدم المصري هذه الآفات إلى تشجيعه للفرق العالمية. يكفي أن يجلس المرء في مقهى ويراقب الجمهور في مباراة بين ريال مدريد وبرشلونة أو ليفربول ومانشستر سيتي، ليدرك أن الهوائية والاتكال على براعة الفرد المُخلّص، والبحث عن أسباب واهية للمكسب أو الخسارة، والتعصب الأعمى، والتنفيس عن الكبت الاجتماعي، لا تزال سارية في العقول والنفوس، قبل المتعة أو قبول المنافسة الشريفة، أو تحويل كرة القدم إلى فرصة لكسب كثير من المعاني والقيم الإيجابية، وليست مشكلة تضاف إلى مشاكلنا الحياتية الكثيرة.