
حوار ليس عابرًا عن الجدوى من القانون
ارتفعت في السنوات الأخيرة أصواتٌ تتحدث عن مدى فائدة الدستور والقانون، خصوصًا في مصر، وهي بلد ترزح إدارته وأحوال أهله الشخصية وشأنه العام تحت غابة من القوانين، التي يقول كثيرون إنها لا تطبق إلَّا على الضعفاء، بينما ينتهكها الأقوياء بكل السبل، دون خشية ولا تردد.
يضاف هذا إلى تصور قديم أسهمت التصورات اليسارية، خصوصًا الماركسية، فيه بالكثير من الآراء، ويرى أن القانون يعكس مصالح أو منافع الطبقة المهيمنة، ويعمل في خدمتها، حتى وإن كان ظاهره أنه قواعد مجردة سُنَّت لتطبق على الجميع دون استثناء ولا تمييز، خاصة إن كان الشعب غير ممثل في صناعة القانون، أو سَنَّه، تمثيلًا صادقًا أمينًا.
بل رأينا بعض الكتابات الغربية، التي ترى أنه حتى في الدول الرأسمالية، وفي ظل الليبرالية، ونظم الحكم الديمقراطية، بوسع الأغنياء التميُّز بأموالهم أمام العدالة، حيث يقدِرون على دفع الأجور الباهظة للمحامين الكبار المهرة، بينما لا يتيسر للفقراء ذلك.
لكن القانون المحلي، ومهما شابته من عيوب، لا يقارَن بوضع القانون الدولي، الذي يواجه حالة سخرية، اشتدت نبرتها على السوشيال ميديا، إثر استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وغيرها من الملفات التي انتُهك فيها دون حساب. إضافة إلى تعامل رئيس أكبر دولة في العالم، دونالد ترامب، مع القانون باعتباره مجرد أوراق لا قيمة لها، احترامها عجز، وانتهاكها ضرورة في سبيل بلوغ الإمبراطورية الأمريكية أهدافها، حتى لو كانت غير مشروعة ولا أخلاقية.
أتذكَّر في هذا المقام دراستي لمادة القانون الدولي في السنة الجامعية الثالثة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة على يد أستاذ قدير هو الدكتور سمعان بطرس فرج الله (1929-2009)، حيث أدركنا معه هذه الهوة الكبرى بين قوانين أرادت تهذيب عالم متوحش، يفرض فيه المال والسلاح نفسه على ما عداه، وواقع مرير لم تغادر فيه البشرية الغابة، بل استلهمت منها أسوأ ما فيها.
كان هذا الأستاذ المتبحر في القانون، الذي ينظر إلى السياسة من زاوية أخلاقية في كثير من الأحيان، يبذل جهدًا كبيرًا في سبيل إقناعنا بأن هناك جدوى لوجود القانون الدولي، وكنا نهز رؤوسنا غير مصدقين، ويقول بعضنا أحيانًا "من الطبيعي أن يدافع الرجل عن العلم الذي تخصص فيه".
كما درَّس لنا مادة القانون الدولي أستاذ آخر هو الدكتور أحمد الرشيدي، الذي اشترط عليه أستاذه الكبير الدكتور عز الدين فودة أن يحصل على ليسانس الحقوق أثناء إعداده أطروحة الماجستير. فصار متمكنًا، يمتلك إحكام القانونيين في اللغة والمنطق.
لكن فيضان نفسه بالعدل والاستقامة كانت تشعره بنوع من الخجل، بينما يشرح لنا "القانون الدولي" باعتباره مادة قابلة للتطبيق في حياة البشر، وهو يدرك أن الأمر ليس على هذا النحو. كان يسلم بهواجسنا وتشكيكنا بأن القوة والمصلحة هي التي تقيم العلاقات بين الدول وليس القانون أو الحق، وكان مستعدًا للتسليم بعدم ثقتنا في القانون الدولي أكثر من د. سمعان بطرس فرج الله.
أتذكر أنني قلت للدكتور أحمد الرشيدي ذات محاضرة، "القانون الداخلي تسنه الطبقة المهيمنة، ويعكس مصالحها، وفي بلادنا يضرب به عرض الحائط حين يتعارض مع منافع من بأيديهم السلطة والمال، وحتى في الدول الديمقراطية، ورغم استقلال القضاء، فإن فرص الأغنياء أمام العدالة أكبر من فرص الفقراء لأنهم قادرون على توكيل محامين كبار ينفذون إلى ثغرات أو يمتلكون حيلًا يلاعبون بها عقول المحلفين، وبالأحرى فإن القانون الدولي يضرب به عرض الحائط، والحالات الدالة على ذلك لا تُحصى".
القانون أيًا كانت صيغته ومصالح من وضعه هو أحد الحدود الفاصلة بين العالم الحديث وما سبقه
بلع ريقه وتنحنح، ونظر إليَّ مليًا، ثم بدأ يشرح كيف أن وجود القانون رغم انتهاكه أحيانًا أو في أغلب الأوقات، أفضل من العيش بلا إطار يحكم حركة المجتمع، وعلاقات الدول، فهو في النهاية قاعدة يمكن الاحتكام إليها لتجريد أصحاب القوة المفرطة من أخلاقهم إذا خالفوها وهذا ليس بالقليل. كما أن القوانين تجد في بعض المواقف قوة تساندها، فتأخذ طريقها إلى التطبيق ولو جزئيًا، وبغير القانون، حتى لو كان شكلًا أو صورةً، ستتحول الحياة إلى غابة، وعلينا ألا نهيل التراب على القوانين، ونطلب إلغاءها، إنما نكافح من أجل تطبيقها.
لم أنسَ في أيامي اللاحقة هذا الرد، حين أجد مِن الناس، في الحياة العامة، مَن يتحدث عن الدستور والقانون باستهانة، لأنهما يهمَلان من أصحاب القرار، أو من بحوزتهم الإدارة والمال. أستعيد هيئة الدكتور "الرشيدي" بعد أن يغيب عنه حياؤه الجم بعض الشيء، وينتفض مدافعًا عن أهمية ومشروعية ما يدرسه لنا، ويطالبنا بأن نعيه جيدًا.
لم ينكر الرجل علينا يومها، ونحن نسأله ونشاكسه، تشككنا في الالتزام بالقانون، ونحن نرى انتهاكًا له في حياتنا العامة، ونعدد أمامه قرارات مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، وكل الهيئات المتصلة بها، التي يضرب بها عرض الحائط، لكنه كان من مدرسة تؤمن بأن "القانون" أيًا كانت صيغته، ومصالح من وضعه، هو أحد الحدود الفاصلة بين العالم الحديث وما سبقه، ويطالبنا بأن نكون صوتًا ينادي بالالتزام به، وليس الكفر به.
علَّمنا هذا الأستاذ أيضًا، منطلقًا من القاعدة التي تقول القانون لا يُعتذر بجهله، ألا نفرط في معرفة قانونية تفيدنا فيما بعد في حياتنا الخاصة والعامة، وتدفع عنا الكثير من الأذى. وكلما كنت بصدد كتابة شيء أو الخوض فيه شفاهة، أستعيد ما قاله، وأراه مفيدًا لي، على أي حال.
واليوم، ورغم تفهم منطق من ينظرون إلى القانون الدولي خصوصًا بارتياب شديد، أو يتعاملون معه باعتباره غائبًا، فإن وجوده لا يخلو من فائدة، كما علمَّنا أستاذنا، فعلى الأقل نحن أمام وثيقة يمكن المحاججة بها، وتعبئة الرأي العام حولها، لدى مستضعفين ليس بوسعهم أن يجاروا الأقوياء، وهم إن سلموا ابتداء بأن القوة وليست الحق هي التي يجب أن تسود فإن خسارتهم ستكون محققة، بل مضاعفة.
في كل الأحوال لن يكون الحل هو إنهاء وجود الأطر القانونية العالمية تمامًا، إنما النضال في سبيل تفعيلها، والمطالبة بنظام دولي يؤمن بهذا ولو قليلًا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.