
زمن العضلات المفرطة
في النصف الثاني من الثمانينيات، كان في مدرستنا الثانوية طالبٌ قويٌّ بدنيًا، يتباهى بعضلاته المتضخمة، التي اكتسبها من قضاء ساعات طويلة في تدريبات كمال الأجسام، ومن أبيه عضو البرلمان، الذي استدعى، حسب حكايته، فرقةً من جنود الأمن المركزي لضرب وتأديب بضعة شبان عاكسوا أخته.
مكَّن التباهي المزدوج زميلنا من أن يكون مقربًا من إدارة المدرسة، وأن يساعد مدرس الألعاب الرياضية الهستيري والعنيف في مهمة تنظيم الطابور المدرسي. يتجول سريعًا بين الصفوف، يوجه ضربات خاطفة لبعض زملائه/زملائنا من الضعفاء، متجنبًا من ينتمون لشللٍ لا يريد الصدام معها أو كسب خصومتها.
لم يُشهر بعض ضحاياه مشاعر الكراهية المبررة تجاهه، رغم كونه نموذجًا مُنفِّرًا يعتدي عليهم. بل أظهروا إعجابهم به، لأنه قوي وقادر على ضربهم، على قمعهم. وكأنهم يتمنون المستحيل؛ أن يكونوا مكانه، فلا يستطيعون سوى أن يحبوا صورتهم المتخيلة، المستحيلة، وهم يلعبون هذا الدور بدلًا منه.
كبر الولد، ليظهر على التليفزيون في لحظة إشهار المؤسسات السيادية المصرية للقوة المفرطة؛ كمستشار قضائي لإحدى الوزارات بعد إجهاض ثورة يناير. ظهر ببذلة ورابطة عنق، ونظارة أنيقة، من ضمن الأقوياء الذين استطاعوا هزيمتنا، واستحقوا مجدًا زائفًا.
القوة
خلال 24 ساعة تزامنت الأحداث التالية؛ زيارة الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلاي لإسرائيل، ليعلن دعمه لـ"حقها" في ممارسة المزيد من القتل والتجويع في غزة، دفاعًا عن النفس. وليعلن كذلك أن العام المقبل سيشهد نقل سفارة بلاده إلى مدينة القدس. جاءت الزيارة بعد محطة قصيرة في مدريد، شارك خلالها ميلاي في مؤتمر حاشد لليمين المتطرف. ولأول مرة يسب رئيس لاتيني رئيس وزراء إسبانيًّا ويهدده من على منصة في العاصمة الإسبانية.
لم أشاهد خطاب ميلاي في الكنيست الإسرائيلي مكتفيًا بقراءة ملخصه. لكنني، ومن متابعتي السابقة لأدائه ورحلة صعوده، أستطيع تخيل استعارته منشارَه الكهربائي، الذي يُظهره أداةً سياسيةً من فوق المنصات للقضاء على سياسات يعارضها ولإنهاء وجود خصومه والمختلفين معه فكريًا.
تمنع قوات الأمن المصرية دخول متضامنين مع فلسطين لمصر. وتلقي القبض على آخرين من فنادقهم رغم سماحها لهم بدخول البلاد مسبقًا، وتنقلهم للمطار تمهيدًا لترحيلهم. وتحاصر وتمارس العنف ضد من استطاعوا التسلل لمدخل الإسماعيلية. في المقابل، وكردِّ فعل، ينعت بعضُ أصحاب الصوت العالي والعضلات الافتراضية على فيسبوك، مصر، كبلد وليس كنظام، بأنها متصهينة، فيشعر المتفرجون من أمثالي أنهم أمام صراع قوتين؛ أجهزة الأمن والمهللين لها، والصراخ الافتراضي المضاد.
مجموعات من اليمين النازي والفاشي الجديد تحتشد في وسط البلد بمدريد، أمام مقر الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم، مطالبين برحيل ومحاكمة وشنق رئيس الوزراء. وأيضًا بعودة الفاشية لحكم البلاد، رافعين أعلامها التي يجرمها القانون. تقف أمامهم، ولحماية مقر الحزب، قوات مكافحة الشغب. لا يتجاوز عدد المتظاهرين في أفضل تقدير 600 فرد. ورغم لا شرعية الوقفة، ورفعها أعلامًا يُجرِّم القانون رفعها، فإنها تحضر على الهواء في كل وسائل الإعلام. لم تفضها قوات مكافحة الشغب، فهناك الآلاف ينتظرون هذا الفض ليحولوه لمعارك شوارع.
يتواصل انتشار الحرس الوطني في مدن وولايات أمريكية جديدة بقرار من ترامب، لقمع الاحتجاجات على سياسة ملاحقة المهاجرين، واعتقالهم، وترحيلهم من البلاد. هذه الاحتجاجات التي بدأت تتحول لانتفاضة شعبية تجمع كل ألوان الوجوه المختلفة، تتجسد بعد ساعات في هيئة مظاهرات حاشدة في أغلب المدن الأمريكية، مناهضة لمنطق القوة الفاشية لهذا الذي ينظم عرضًا عسكريًا غير معتاد في واشنطن، يتزامن مع عيد ميلاده، كي يرى ذاته في خياله المريض، ويراه الآخرون إمبراطورًا.
يُخرج حراس وزيرة الأمن الأمريكية سيناتورًا ديمقراطيًا من مؤتمرها الصحفي. وأمام الكاميرات، وبالقوة، ولأنه من أصل لاتيني، يلقونه أرضًا، ويقيدونه من الخلف.
في عملية ذكَّرت الكثيرين بعملية البيجر في لبنان ضد حزب الله، وما تبعها من القضاء على قيادة الحزب وتدمير قطاع أساسي من قدراته القتالية، تنفذ إسرائيل عمليةً دقيقةً لضرب مواقع حساسة في إيران، وتغتال قسمًا من نخبة البلد العسكرية والاستخباراتية والعلمية. ترد إيران، فنتحول، نحن الملايين من مواطني الشرق المتضامنين مع فلسطين لمتفرجين على تبادل الضربات، متمنيين ردًا موجعًا.
الترامبية
إنها بعض أخبارِ حيزٍ زمنيٍّ لا يتجاوز اليوم الواحد، تُعبِّر عن جوهر الزمن الذي نعيشه؛ زمنٌ للقوة، للعضلات المفرطة، للترامبية المعادل الحديث للفاشية.
ليس فقط في الولايات المتحدة، بل في العالم كله، كنموذج صاعد لحُكْم عالمنا، وتدشين عرف عالمي جديد، بأن القادر على فعل شيء فليفعله، حتى وإن كان مخالفًا لكل القوانين والأعراف.
السمات الفاشية الواضحة للترامبية لا تتناقض مع بعض زينة خطابات النيوليبرالية الاقتصادية، فمن سمات هذه المرحلة من تطور النيوليبرالية وقاحة القوة، وتدمير الضعفاء.
منطق القوة لا يتخفى أو يحاول تجميل جوهره، بل يكاد يتعرى بكل فجاجته فوق الأعلام واللافتات، في عالم أصبح لا يقبل سوى بالأقوياء، ويعتبر العدوانَ، وفاعليته في تحقيق نتائج، فضيلةً.
بينما يخلق حوله حشودًا مهللين لهذه القوة، متيمين بها، وبممارسها، حتى وإن تضررت هذه الحشود منها ووجهت إليهم. مثل زملائنا في المدرسة الثانوية المعجبين بزميلهم الذي يقمعهم.
قدرة ترامب على إجبار مئات الآلاف من المهاجرين واللاجئين في الولايات المتحدة على الاختفاء من ملاحقيهم من الحرس الوطني المدجج بالسلاح، وتجنب الخروج من منازلهم، ينتج عنها تمجيد لهؤلاء المدججين بالسلاح، لأنهم قادرون على بث الخوف. وقدرة إسرائيل على تنفيذ عمليات استخباراتية دقيقة تخلق حالة من انبهار البعض بها، حتى وإن كانوا من العرب، المتضررين حتمًا من قوتها المفرطة، ومن خلو الساحة الإقليمية تدريجيًا من قوى قادرة على صدها وتحجيمها.
لكن الضربات الإسرائيلية المتلاحقة، وإعادتها لتشكيل المنطقة خلال العام ونصف العام الماضي، لا تعني بالضرورة تدشين زمن الإمبراطورية الإسرائيلية، حتى وإن حققت دولة الاحتلال العنصري نجاحات ملموسة في مسار تطهير المنطقة من المقاومة، والأعداء، والخصوم، والمنافسين. فهذا المسار نفسه ربما يشكل خطوات باتجاه انهيارها أيضًا، بنفس درجة احتمالية اقتراب ترامب من نهايته.
دلالة العدوان على إيران، والضربات في سوريا ولبنان واليمن، بالإضافة للإبادة في فلسطين، تخرج عن فكرة أن إسرائيل تحولت لإمبراطورية، علينا أن ننتظر أفولها مثل الإمبراطوريات التي سبقتها على مدار التاريخ. بل إن دلالاتها لا تنفصل عن تصور إسرائيل بوجود انتصار أبدي للحظة الترامبية نفسها، ومحاولة مدها لأقصاها، وتثبيتها.
ترامب الذي لا يخفي خصومه الديمقراطيون في الولايات المتحدة قلقهم العميق من توجهاته الشمولية، ويتفقون مع المتابعين والمحللين العالميين في أنه يحول الولايات المتحدة لديكتاتورية بدائية بسرعة مذهلة، يدفع اليمين المتطرف والعسكري والفاشي في العالم كله لمنصة المسرح، للشو الأكبر. يدرك أن في هذا الشو الأكبر سيواجه بعض أطراف معسكر اليمين والرجعية بعضهم البعض.
لكنها مواجهة حتمية، لا بد منها لينتصر الأقوى، ليعيش الأقوى، ليفرض إرادته ورغباته المريضة على الجميع، بكل ما تحمله هذه التعبيرات من ميراث لأفكار التفوق العنصري والديني. فتُضرب إيران بدلًا من ترويضها والتوصل لاتفاق نووي معها، لأسباب مختلفة من بينها هويتها كدولة شرقية ومسلمة.
اللحظة العالمية الحالية للتباهي بالقوة، بالعضلات، تستدعي غصبًا في المخيلة لحظة صعود الفاشية الأوروبية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن السابق. لكنها هذه المرة، وعلى عكس الأولى التي نتجت عنها دولة إسرائيل، ربما تكون لحظة حاسمة في مسار إسرائيل نفسها، التي تورطت في إشهار وجهها الحقيقي كدولة فاشية، تستعيد التراث النازي بحرفيته، بلا أي مواربة، منسجمة مع اللحظة الترامبية واحتمالية أبديتها.
الضعف
ولدت جريتا ثونبرج عام 2003. بدأت شهرتها العالمية حين كان عمرها 15 عامًا، كناشطة ضد الاحتباس الحراري. بعدها بسنة، أبحرت هذه المراهقة النحيلة والقصيرة على متن يخت لا يلوث البيئة باتجاه الولايات المتحدة لتحدي سياسات ترامب المدمرة للمناخ ولمستقبل البشرية. وقبل أيام، في عمر 22 عامًا، ظهرت الشابة جريتا على متن قارب آخر يتحدى هذه المرة الإبادة، والقوة الإسرائيلية، باتجاه غزة.
قال ترامب معلقًا على جريتا ثونبرج، بينما هي معتقلة في قبضة الجيش الإسرائيلي، إنها شخص يحتاج للعلاج، فهي صغيرة وتشعر بالغضب. ردت عليه الشابة بأن العالم يحتاج للكثير من النساء الغاضبات.
نساء غاضبات، لا يمتلكن عضلات زميلنا في المدرسة الثانوية، يظهرن قليلات الحيلة. لكنهن يتضامن ويعملن من أجل الضعفاء. يُشكِّلن مفاصل حركة التضامن العالمية التي تتسع كل يوم مع ضعفاء فلسطين؛ بؤرة الضعف العالمية الحالية. بؤرة تتوسع، تتحول لرمز عالمي لمواجهة زمن الفاشية الجديدة، زمن القوة المفرطة والعضلات المنفوخة التي تدفع العالم للبربرية.
لا يقين في انتصار الضعفاء على منطق العضلات. اليقين الوحيد هو أن السنوات المقبلة ستخلو من رفاهية أن يقول أحد الضعفاء "هذا الأمر لا يعنيني".
دفعت الترامبية الصراعات السياسية لنقطةٍ تُحوِّلها لمسألة حياة أو موت ستطول الجميع. وهو ما أدركه هؤلاء المواطنون الأمريكيون الشماليون بيض البشرة، غير المُهدَّدين بالترحيل، ورغم ذلك يواجهون بأجسادهم الحرس الوطني ليمنعوا ترحيل ضعفاء آخرين، مهاجرين بألوان بشرات مختلفة ومتنوعة، ليمنعوا منطق العضلات من تحقيق انتصار حاسم.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.