
إلى فلسطين| الأيام الأخيرة.. وربما الكتابة الأخيرة
اليوم 25 سبتمبر/أيلول ظهرًا. اقتربنا أكثر من جزيرة كريت؛ نرى جبالها وبعض قراها بوضوح. بناءً على الحسابات إذا استمررنا على الإيقاع نفسه سنصل غزة بعد ستة أيام. لكن هل سنصل؟ لا أحد يعرف الإجابة. لكنَّ المؤكد أننا في الأيام الأخيرة من الرحلة الطويلة التي بدأت يوم 31 أغسطس/آب في برشلونة.
26 يومًا، أغلبها في البحر، لكنني أريد العودة للحديث عن يوم 31 أغسطس. إنه على الأغلب من أجمل أيام حياتي وأكثرها إرهاقًا، وأيضًا من أكثرها إيمانًا بالناس وقدرتهم على الفعل، وثقةً وإدراكًا لدرجة جمالهم وعذوبتهم حين يتحركون لنصرة الضعفاء.
أكتب ذلك.. أكتب أنها ربما تكون الكتابة/الأيام الأخيرة لأننا في انتظار لحظة الاقتحام/القرصنة الحاسمة التي ستتجاوز مجرد الترهيب. بانتظار جريمة إسرائيلية جديدة في حق الإنسانية تُضاف لملفها العامر. بانتظار اختطاف أشخاص مدنيين وسلميين ومنعهم من حقهم في أن يصلوا إلى غزة ويخترقوا الحصار.
لا تخلو المعارك الكبرى من جوانبها الرمزية الشاعرية، لا تخلو من المفارقة، لكنها في جوهرها معارك سياسية واقعية
تسيطر عليَّ اليوم بعد الأيام السابقة المرهقة للمعدة وللذهن ولكل الجسد، حالةٌ من السكون والسلام. حالةٌ من الطمأنينة والألفة مرتبطة بحالة البحر الساكن. أشعر بأن قدرتي على فهم تعقيد تركيباتنا المختلفة وعدم محاكمتها قد ازدادت.
أسطول الصمود ليس القصة. الأسطول جزءٌ من معركة تاريخية وعالمية ضد دولة الاحتلال. إنها الحركة العالمية الأكبر منذ حرب فيتنام. الحركة التي جعلت فلسطين رمزًا لكل أحرار وشرفاء العالم. التي جعلت شعار "من النهر إلى البحر" شعارًا جامعًا للملايين؛ شعارًا شديد الوضوح سياسيًا يتضمن هدف القضاء على دولة الاحتلال، هدف ألا يكون في عالمنا دولة استيطان عنصري، قائمة على أكذوبة تفوق شعب على شعب آخر.
مشهد 31 أغسطس على رصيف ميناء الخشب ببرشلونة؛ هذا المشهد الأسطوري الدافئ هو أحد المشاهد التي تجسد هذه القيمة من بين عشرات وربما مئات المشاهد ذات المعنى. يقولون إن الأسطول مجرد احتجاج رمزي، حركة رمزية، لكنه ليس كذلك، بل جزء من معركة سياسية شديدة الواقعية والحقيقية، معركة نكسبها في كل يوم جديد.
لا تخلو المعارك الكبرى من جوانبها الرمزية الشاعرية. لا تخلو من المفارقة، لكنها في جوهرها ورغم شاعريتها وحلمها معارك سياسية واقعية تدور حولها الكثير من الرمزيات والمعاني، في إيطاليا وإسبانيا وكوبا وغيرها من بلدان العالم. والثوريون والمتمردون والأحرار هم بالأساس أشخاص حالمون.
تتعدد الرمزيات التي نستطيع أن نلاحظها في كثير من مدن العالم؛ رمزية جسدها سيلفيو رودريجز المغني الثوري الكوبي الذي يعد من أهم موسيقيّ أمريكا اللاتينية منذ الستينيات في حفلته الوداعية لمدينته هافانا، التي أقامها على سلالم جامعة هافانا التاريخية وظهر مرتديًا الكوفية الفلسطينية، ليغني من جديد للحرية والحياة، قبل أن يودع منصات الغناء المفتوح في الشوارع التي استهوته لعقود، ويغني مرتديًا الكوفية في المكان الذي دفع فيه الطلاب الكوبيون ثمن حريتهم من حياتهم ومن دمهم قبل 1959.
أنها رمزية إضرابات إيطاليا ومواجهاتها. رمزية أن يخرج ما يقارب 100 ألف مواطن مدريدي للشوارع ليمنعوا سباق الدراجات العالمي من أن يدخل مدينتهم هاتفين "لن يمروا". صرخة تاريخية إسبانية ضد الفاشية وضد فرانكو. وهي هذه المرة موجهة ضد الفاشية الإسرائيلية وممثليها من رياضيين يقودون الدراجات.
إنه عالم مليء الآن بالرمزيات وبالدم أيضًا. رمزيات مرتبطة بفلسطين ودم الفلسطينيين. عالم مليء بآلاف المبادرات التي تشكل سويًا المعركة الأهم ضد إسرائيل طيلة تاريخها، وتضعها بالتدريج في مكانها الصحيح والمناسب كدولة فاشية تتحول لدولة منبوذة.
الآن ونحن قرب جزيرة كريت يختفي قلقي الأساسي الذي سيطر عليَّ طيلة الأسابيع الماضية. سنصل أو ندفع إسرائيل لارتكاب جريمة جديدة. ستنتهي رحلتنا بما يليق بنا وبما يليق بكل المنحازين للحق الفلسطيني في كل أنحاء العالم والأهم بما يليق بالفلسطينيين.
لن تنتهي معركتنا تلك كنكتة، دعابة أو لعب أطفال. انتهى قلقي. نحن الآن نعم متجهون إلى فلسطين.
بعد ساعات، ربما سنرى من بعيد سواحل بلدي مصر. ربما لن أستطيع الكتابة من جديد. لكن من المؤكد أنني ومحمد البحريني ويوسف الفلسطيني سنغني مثلما فعلنا فجر اليوم مرة أخرى أغنية الشيخ إمام ونجيب شهاب الدين يا مصر قومي وشدي الحيل. وسنكرر يا مصر ملو قلوبنا الخير وحلمنا ورد مندي. حلمنا لغزة، لفلسطين، لمصر، ولكل بلاد وأحرار العالم.
فلسطين حرة، من النهر إلى البحر.
هذه القصة من ملف إلى فلسطين| نبحر وتبحر قلوبكم معنا
كنا نريدك معنا سيد شابلن
على رصيف في ميناء برشلونة، يوم الأحد 31 أغسطس، حيث يحتشد الآلاف لوداعنا، نحن الصاعدين إلى أسطول الصمود العالمي باتجاه غزة، ربما يفكر البعض مثلما أفكر؛ كنا نريدك معنا يا سيد شابلن.
إلى فلسطين| رسائل البحر
فجأة، لم أصبح بحارًا بل مساعدٌ، أراقب البحر لأتأكد من عدم وجود شيء أمامنا أو قوارب أخرى. وأشد بعض الحبال، وأراعي من أصيبوا بالدوار، وكأن الحلم القديم يتحقق رغمًا عني.
إلى فلسطين| طرق للرحيل وأخرى للعودة
حياة الفلسطينيين محملة برموز القوارب والمسير. وكذلك حياتنا نحن، وحياة المعلقة عيونهم بنا.
إلى فلسطين| من حمام الشط لسيدي بوسعيد
صباح الخير يا تونس، صباح الخير يا فلسطين.
إلى فلسطين| نعم نشعر بالخوف
في هذا الفجر المظلم قبل أيام غنيت أغنية يا صباح يا أبو قلب نادي، فأعادتني لما أحتاجه. أعادتني لمرجعيتي ودفء رفاقي القدامى لأراوغ الخوف الحالي.
إلى فلسطين| من قوارب الموت لقوارب إيقاف الموت
المهاجرون في مراكب الموت يعرفون معنى الاستغلال الرأسمالي القرين بماكينة الموت والجوع في السنغال أو أوروبا أو في أي بلد آخر، التي تُشْهِر أكثر وجوهها توحشًا وفاشية وبربرية في غزة.
إلى فلسطين| لا يدري سلمان أنه يحمل إرث أبيه وجده
التزم محمد بارتداء الكوفية في كل المناسبات والفعاليات، لكنه قبل الصعود للقارب حفظها مع أصدقائه في تونس ووضع حول عنقه كوفية أخرى كي لا يصادر الإسرائيليون كوفية الأب الأنيقة القديمة.
إلى فلسطين| الأيام الأخيرة.. وربما الكتابة الأخيرة
بعد ساعات ربما سنرى سواحل مصر. ربما لن أستطيع الكتابة من جديد. لكن من المؤكد أنني ومحمد البحريني ويوسف الفلسطيني سنغني مرة أخرى أغنية الشيخ إمام ونجم يا مصر قومي وشدي الحيل
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.