
إلى فلسطين| من قوارب الموت لقوارب إيقاف الموت
لا أحبُ البحرَ ليلًا. لا يمكنُ أن أسبح في الظلام حتى ولو كان الشاطئ هادئًا وآمنًا. ربما لا تتعلقُ المسألةُ بالبحر، وإنما بخشية المياه المظلمة التي لا أتركها تلامس قدمي في الليل. أحتاج دائمًا عندما أرى المياه، أن يكون النور ساطعًا بما فيه الكفاية.
لا يصل هذا الشعور معي لدرجة الرعب أو حتى الخوف. إنه مجرد شعور بالرهبة والخشية. باحترام هيبة البحر المظلم. وعلى الرغم من أن البحر لا يفقد رمزيته ورومانسيته، حتى في الليل؛ بظلال أضواء المدن عليه أو ضوء القمر وتموجات أضوائه على سطح المياه فإنها نظرة رومانسية وحالمة مشروطة على الأغلب بأن نكون خارج البحر.
نشاهده من البر أو في سياق درامي تليفزيوني أو سينمائي يحافظ على الدفقة الرومانسية. كثيرة هي الأفلام والمسلسلات التي رأيناها لا تخرج عن هذا السياق. لكن في الحقيقة بعيدًا عن الفن ونحن وسط البحر لا نرى أضواء البر من مدن وقرى صغيرة، حتى ولو كان ضوء القمر مبهرًا ورائعًا، فإن استقبالنا للبحر، بالذات على قارب صغير، يفقد الكثير من رومانسيته، ويكتسب المزيد والكثير من رهبة الترقب والشعور بأن علينا ألا نطمئن أو نسترخي تمامًا.
بإمكاننا بالطبع تأمل الأفق الواسع الممتد بلا نهاية والأمواج وانعكاس ضوء القمر عليها. وهو مشهد جميل إلا أنه يذكرنا بحجمنا الصغير وضعفنا وينبهنا لا تطمئنوا.
في الليالي الأخيرة لم أتوقف نهارًا أو ليلًا عن النظر إلى البحر المحيط بنا كأنني أبحث عن أشلاء أو بقايا قوارب هجرة ولجوء بعد أن تحول المتوسط الجميل لما يشبه المقبرة.
أفكر في مغامري البحث عن حياة أفضل في قوارب الموت عبر المتوسط من الجنوب إلى الشمال أو عبر المحيط الأطلنطي منطلقين من السنغال باتجاه جزر الكناريا. وفي الحالتين لا أنسى خبرًا قرأته قبل أكثر من عام عن أحد هذه القوارب الذي ضل طريقه في المحيط. لم يصل إلى الجزر. حملته الرياح إلى أحد شواطئ البرازيل على الضفة الجنوبية من المحيط الأطلنطي محملًا ببقايا أجساد من حاولوا تحسين شروط حياتهم وحياة عائلاتهم.
يشبه سموءل حسن الشريف
أعرفه من التليفزيون. أراه في بعض المظاهرات. شديد السمرة نحيف وفارع الطول. إنه سيرين باي جوف، أحد قيادات نقابة الباعة المتجولين المهاجرين في إسبانيا. التحق قبل سنوات بحركة نستطيع اليسارية وأصبح مسؤول ملف مواجهة العنصرية. ثم أحد نوابها في برلمان محافظة مدريد. كان رقم أربعة في قائمة الحركة في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة. لكنه لم يتمكن من دخول البرلمان في بروكسل لأن الحركة فازت بنسبة تمنحها مقعدين فقط.
في أحد الاجتماعات التمهيدية لأسطول الصمود في مدريد وجدته حاضرًا. لا أعرف لماذا تأكدت أنه سيكون معنا على أحد قوارب الأسطول، وأنه لم يأتِ لمجرد الدعم أو المساعدة من الأرض. ربما لأن طريقته لا تنحو باتجاه الكلام الكثير بل للأفعال.
قبل أيام وصلنا خبرٌ عبر شبكتنا للراديو من قارب سيريوس الكبير، الذي خرج قبل أسابيع من متحفٍ ليتحول لإحدى قطع أسطول الصمود، ويُحمّل بما يقرب من 30 شخصًا بالإضافة لطاقمه، أن سيرين، اصطاد سمكة تونة كبيرة نظفها، قطعها، وأكلوها.
تحسَّرنا جميعًا فيما عدا النباتيين من بيننا على أننا لسنا في القارب مع سيرين، الصياد السنغالي في الأصل قبل أن يكون مهاجرًا يعمل بائعًا متجولًا ملاحَقًا من الشرطة بسبب هذا العمل، وقبل أن يكون سياسيًا في حركة نستطيع.
لم ألتقِ سيرين في البحر، فنحن على قاربين مختلفين، بل عرفته على الأرض في أيام الانتظار في برشلونة ثم في تونس. حكى لي عن رحلته الأولى في قارب موت ليصل لجزر الكناريا. كان حظه جيدًا ونجا.
وها هي رحلته الثانية مخاطرةٌ جديدةٌ لمحاولة إيقاف آلة القتل في غزة هذه المرة. تدمع عين سيرين تأثرًا. ينفعل ويحرِّك جسده تعبيرًا عن هذا الانفعال. يشبه صديقي سموءل حسن الشريف السوداني جسديًا وفي تعبيراته. لكنه تجنَّب النظر لعينيّ حين أخبرني أنه يترك وراءه أبناءه الأربعة من أجل أطفال آخرين لا يعرفهم يستحقون المخاطرة الآن في فلسطين.
لم يهاجر سيرين من أجل الرفاهية أو طموح شبابي للحركة والاكتشاف. كان لديه عمله المستقر في السنغال صيادًا، لكنَّ شركات الصيد الكبرى الأوروبية والصينية دفعته بمراكبها الضخمة ومعداتها المتطورة هو وأمثاله للبطالة، للفقر.
وفي 2006 يائسًا ركب سيرين قاربَ الهجرة، قاربَ الموت. وبعد أسبوع من التطلع في وجه المحيط الواسع مظلمًا أو مضيئًا، أسبوع من التطلع في وجه الموت كان حظه الوصول للبر لجزيرة سانتا كروز دي تينيريفي من ضمن جزر الكناريا على عكس عشرات الآلاف الآخرين الذين لم يتمكنوا من الوصول. لكنهم يعرفون مثلي ومثل سيرين ولو بالفطرة معنى الاستغلال الرأسمالي القرين بماكينة الموت والجوع في السنغال أو أوروبا أو في أي بلد آخر، التي تُشْهِر أكثر وجوهها توحشًا وفاشيةً وبربريةً في غزة.
يعي سيرين جيدًا معنى الفقر والحاجة. هاجر وركب قارب الموت لأنه كان فقيرًا يبحث عن حياة أفضل. يبحث عن الحركة التي ستمكنه من هذه الحياة الأفضل. يتنقل بين كل الأعمال المهمشة كعامل بناء أو عامل في حقول وغيرها، وهو اليوم يعود للحركة من جديد من أجل فقراء وجوعى آخرين، فلسطينيون هذه المرة.
هذه القصة من ملف إلى فلسطين| نبحر وتبحر قلوبكم معنا
كنا نريدك معنا سيد شابلن
على رصيف في ميناء برشلونة، يوم الأحد 31 أغسطس، حيث يحتشد الآلاف لوداعنا، نحن الصاعدين إلى أسطول الصمود العالمي باتجاه غزة، ربما يفكر البعض مثلما أفكر؛ كنا نريدك معنا يا سيد شابلن.
إلى فلسطين| رسائل البحر
فجأة، لم أصبح بحارًا بل مساعدٌ، أراقب البحر لأتأكد من عدم وجود شيء أمامنا أو قوارب أخرى. وأشد بعض الحبال، وأراعي من أصيبوا بالدوار، وكأن الحلم القديم يتحقق رغمًا عني.
إلى فلسطين| طرق للرحيل وأخرى للعودة
حياة الفلسطينيين محملة برموز القوارب والمسير. وكذلك حياتنا نحن، وحياة المعلقة عيونهم بنا.
إلى فلسطين| من حمام الشط لسيدي بوسعيد
صباح الخير يا تونس، صباح الخير يا فلسطين.
إلى فلسطين| نعم نشعر بالخوف
في هذا الفجر المظلم قبل أيام غنيت أغنية يا صباح يا أبو قلب نادي، فأعادتني لما أحتاجه. أعادتني لمرجعيتي ودفء رفاقي القدامى لأراوغ الخوف الحالي.
إلى فلسطين| من قوارب الموت لقوارب إيقاف الموت
المهاجرون في مراكب الموت يعرفون معنى الاستغلال الرأسمالي القرين بماكينة الموت والجوع في السنغال أو أوروبا أو في أي بلد آخر، التي تُشْهِر أكثر وجوهها توحشًا وفاشية وبربرية في غزة.
إلى فلسطين| لا يدري سلمان أنه يحمل إرث أبيه وجده
التزم محمد بارتداء الكوفية في كل المناسبات والفعاليات، لكنه قبل الصعود للقارب حفظها مع أصدقائه في تونس ووضع حول عنقه كوفية أخرى كي لا يصادر الإسرائيليون كوفية الأب الأنيقة القديمة.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.