تصميم سيف الدين أحمد، المنصة
صباح الخير يا تونس، صباح الخير يا فلسطين

إلى فلسطين| من حمام الشط لسيدي بوسعيد

منشور الأربعاء 10 أيلول/سبتمبر 2025

ظللتُ أنتظرُ رؤية تونس طيلة 24 ساعة متواصلة. كان يوم الأحد 7 سبتمبر/أيلول، نعلم أننا سنصل قبل الظهر. نمت قليلًا في القارب، ساعتين فقط، واستيقظت مبكرًا في السابعة صباحًا لأرى شواطئها. كنت أعلم ما سأكتبه على فيسبوك حين ندخل ميناء سيدي بوسعيد ويستقبلنا الناس بالهتافات وأعلام فلسطين؛ جملة محمود درويش الخالدة "كيف نشفى من حب تونس".

لا أنسى أبدًا كيف ألقى درويش هذه القصيدة ذات مرة؛ بدأ في إلقائها واختنق صوته بالبكاء وهو يتذكر كل شهداء فلسطين وثورتها الذين سقطوا في الاعتداءات الإسرائيلية على تونس، بعد أن احتضن البلد الخارجين من بيروت في 1982. من حمام الشط ومذبحته حتى اغتيالات القادة الفلسطينيين المتتالية. 

لكلِّ بلدٍ رائحته وطعمه بالنسبة لمن يزورونه. تكررت زياراتي للعمل في تونس منذ ثورتها في 2010 حتى 2022. لتونس بالنسبة لي رائحة وطعم الراحة واللذة والحلاوة. تونس تعني لي الناس الرائعة والعمل بإيقاع منضبط لكنه حميمي. تنزع عني تونس الضغط، حتى وإن عملت كثيرًا، فهي وناسها يمنحونني الضحكات والتعليقات الناعمة الذكية والود والمحبة، وهوسهم بالشيخ إمام. 

لكنْ لتونس هذه المرة طعمٌ ورائحةٌ مختلفان؛ تسيطر رائحة الدم وواقع الجوع والإبادة. لا نريد راحة الآن ولا حلاوة أو لذة. نريد فقط محطة لاستكمال طريقنا وأن نزداد من التوانسة والمغاربة والجزائريين لنكمل طريقنا إلى فلسطين. ولذلك كان حضورُ محمود درويش ضرورةً. 

تأخرنا في الوصول، ظللنا واقفين في البحر، نحن الراكبين على القوارب الصغيرة، لأكثر من ثماني ساعات مرهقة، ننتظر قوارب تأخرت أو أصابتها الأعطال فلم أرَ الاستقبال. لم نصل في نصف النهار ولم نصل الساعة الرابعة عصرًا مثلما قالوا. رحل الصديقات والأصدقاء التوانسة من شاطئ سيدي بوسعيد عند منتصف الليل. ودخلنا تونس فجرًا، ولم أكتب جملة درويش مفتتح قصيدته "كيف نشفى من حب تونس". 

المؤتمر الصحفي لأسطول الصمود المتوجه إلى غزة في تونس العاصمة، 9 سبتمبر 2025

نتعب حين نتوقف. نتعب حين نشعر أن رحلتنا أمام محطة انتظار جديدة، سواء في برشلونة، أو مايوركا، أو تونس الآن. كلنا متلهفون للخطر، لمحاولة الوصول لغزة، الاقتراب منها. فتململنا ساعات نهار كامل في تونس، نتأمل الشابات والشباب، النساء والرجال من كل الأطياف، الذين يستقبلوننا.. يزورونا في فندقنا.. يأتون لتحيتنا أمام الاتحاد العام للشغل، والتصفيق لفرانشيسكا ألبانيزي الحاضرة معنا بابتسامتها المشاغبة، والتي يستقبلونها بالهتاف لفلسطين. 

ليلًا عرفنا بضربة قارب Family، فتأججت المشاعر من جديد. لم ننم، ترك بعضنا الفندق للذهاب إلى الميناء ليلًا والهتاف والتعبير عن الإصرار على استكمال الطريق. وفي الصباح كانت الوجوه نفسها التي استقبلتنا واقفةً أمام المسرح البلدي. مؤتمر صحفي وهتاف "فلسطين حرة حرة.. والعدو بره بره". 

أغلبها وجوه من التيارات والقوى اليسارية والديمقراطية التي كانت حاضرة في ثورة تونس 2010. لكنهم في الحقيقة من كل الأطياف. لا توجد أعلام حزبية أو عقائدية. فلسطين تتغلب على الجميع، هي فقط الحاضرة. لكنهم ليسوا فقط المناضلين والمناضلات، بل التوانسة الذين نسميهم بالخطأ أحيانًا "الناس العادية"، فهؤلاء أيضًا لهم حضورهم، يمنحون الدفء والود لأننا لم نأتِ هذه المرة للسياحة أو العمل بل أتينا من أجل غزة.

في صالة استقبال أحد الفنادق التي ذهبتُ إليها لأستلم مظروفًا به أموال، تركته لي صديقة لأستطيع التحرك، بعد أن تركنا في إسبانيا أموالنا وبطاقاتنا الائتمانية وكل شيء عدا جوازات السفر، نهض الموظفون ليحتضنوني. كانوا يعلمون أنني من أسطول الصمود. ورفضوا تَركي أرحل قبل دعوتي على قهوة صباحية. 

بعدها بساعات، قالت لي الفتاة الجادة في المغسلة إنني سأتسلم ملابسي بعد يومين. فأخبرتها أنني من الأسطول وأننا سنرحل مبكرًا، فابتسمت أخيرًا قائلةً: خلاص يا مصري، تاخدهم اليوم علشان خاطر عيون فلسطين. وصمتت ثانيتين وأضافت: وعلشان خاطر مصر علشان متزعلش.

في صباح التاسع من سبتمبر، تعرَّفت وفودُ القافلة الآتية من 44 دولة على أسماء جديدة بالنسبة لهم، لم يكونوا يعرفونها سابقًا، وذلك بسبب ضربة المُسيّرة. حمام الشط، أبو جهاد وأبو إياد، وغيرهما من قادة الثورة الفلسطينية، تعرّفوا أيضًا على محمود درويش الذي كانوا يعرفونه سابقًا، لكنهم لم يكونوا يعرفون جملته: كيف نُشفى من حب تونس.

بدأنا الاستعداد الأخير للتحرك مجددًا. تصليح أضرار ضربة المسيّرة للقارب Family في سيدي بوسعيد، والعودة إلى التحدي من جديد. نعرف أننا نحب تونس، ونودعها قبل أن نتركها.

صباح الخير يا تونس، صباح الخير يا فلسطين.

هذه القصة من ملف  إلى فلسطين| نبحر وتبحر قلوبكم معنا


كنا نريدك معنا سيد شابلن

باسل رمسيس_  على رصيف في ميناء برشلونة، يوم الأحد 31 أغسطس، حيث يحتشد الآلاف لوداعنا، نحن الصاعدين إلى أسطول الصمود العالمي باتجاه غزة، ربما يفكر البعض مثلما أفكر؛ كنا نريدك معنا يا سيد شابلن.

إلى فلسطين| رسائل البحر

باسل رمسيس_  فجأة، لم أصبح بحارًا بل مساعدٌ، أراقب البحر لأتأكد من عدم وجود شيء أمامنا أو قوارب أخرى. وأشد بعض الحبال، وأراعي من أصيبوا بالدوار، وكأن الحلم القديم يتحقق رغمًا عني.


مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.