تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
الكاتب والمخرج باسل رمسيس برفقة الناشط البحريني محمد عبد الله حسين. سبتمبر 2025

إلى فلسطين| لا يدري سلمان أنه يحمل إرث أبيه وجده

منشور الثلاثاء 23 أيلول/سبتمبر 2025

رحل النقابي اليساري البحريني عبد الله حسين أحد مؤسسي الاتحاد العام لعمال البحرين في شهر مارس/آذار الماضي. نعاه أصدقاؤه ورفاقه طوال الأسابيع الماضية بإعلان ألمهم لفقده وخسارة دوره مناضلًا كتومًا وعنيدًا متواضعًا يفعل الكثير ولا ينسب ما يفعله لنفسه أو يذكّر الآخرين بأنه من فعل كذا أو كذا. وفي الوقت نفسه لا يساوم أبدًا على مبادئه.

يبدو لي من الصور والفيديوهات التي أراني إياها ابنه محمد، ونحن معًا على قارب الناصرة (يولارا سابقًا)، أن هذا الابن يشابه أباه نفسيًا وأخلاقيًا؛ فهو أيضًا صموت ومتواضع وهادئ ودامع العينين.

لم تمنع شهورُ الحداد محمد من نشاطه السياسي، فبعد أن حلّت حكومة البحرين في عام 2017 الجمعية التي كان ينتسب إليها؛ جمعية العمل الوطني الديموقراطي (وعد)، نَشِط في اللجنة البحرينية لمقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني. ولم تمنعه شهور الحداد أيضًا من الحضور إلى تونس ليلتحق بأسطولنا خلال المحطة التونسية.

الحداد وقلق والدته ليسا العائقين الوحيدين، بل أيضًا الوظيفة التي يشغلها في شركة النفط والغاز مهندسًا ميكانيكيًا، وابناه الصغيران سلمان وسلام، وسؤال الأول، صاحب السنوات الست، الدائم عن موعد عودة أبيه للبيت، وإخباره بأنه يشعر بالملل لغيابه.

أراني محمد فيديو لمريم زوجته تتحدث بلباقة وحماس قبل أيام قليلة في الاعتصام الأسبوعي في المنامة من أجل فلسطين ومن أجل وقف الإبادة، متحدثةً عن أهمية دعم أسطول الصمود.

فهمت وقتها، منبهرًا بمريم وبرفيقي على القارب زوجها محمد، المعادلةَ؛ الإرث الذي آل لمحمد من والديه وتشاركه فيه مريم ويورثانه لابنيهما سلمان وسلام.

تلعب الصدف أدوارها بطريقة شاعرية ورمزية أحيانًا.

ورث محمد كوفية أبيه لكنه ورث منه ما هو أهم وأكثر عمقًا وانحيازًا

كتبت قبل ثلاث سنوات مقالًا في المنصة عن هوسي بالساعات، وكيف تعطلت ساعتي في تونس خلال رحلة للعمل هناك، وحكيتُ عن ساعة أبي التي منحتني إياها أمي بعد وفاته في 2007. أخذتها وعلقتها على الحائط أمام مكتبي، حتى توقفت الساعة بعد شهور من وفاة أبي ولم أغير بطاريتها.

ما لم أحكه في ذلك المقال، لأنه حدث بعد كتابته، أنه فور عودتي من تونس إلى بيتي في مدريد، أخذت ساعة أبي، غيرت بطاريتها، أصلحتها، ووضعتها حول معصمي من وقتها.

نعلم أننا لن نعود إلى بيوتنا بكل الأشياء التي نحملها معنا في القوارب أيًا كانت؛ ملابس، أشياء للاستخدام الشخصي، أدوات إلكترونية، موبايلات، إلى آخره. سنلقيها في البحر قبل اقتحام قوات الكوماندوز الإسرائيلي القافلة، أو قبل الاعتقال، أو أنهم سيصادرونها.

قبل السفر من مدريد لبرشلونة بيومين اشتريتُ ساعةً جديدةً كي لا أصعد إلى القارب بساعة أبي. وقبل ساعتين من الصعود إلى قارب الناصرة بدلت الساعتين؛ تركت ساعة أبي في برشلونة وارتديت الساعة الجديدة التي سأفقدها. اشتريتها من ماركة كاسيو شبيهة بالساعات التي كان يشتريها لي أبي وأمي وكنت أرتديها في الجامعة قبل 30 سنة، شاشة بيضاء بعقارب وسوار جلدي أسود.

الصدفة جعلت محمد يحكي لي قصة الكوفية الفلسطينية التي رافقت والده عبد الله حسين في منتصف السبعينيات بينما كان يدرس في الهند، وقبل أن يتركها ليصبح عاملًا في البحرين؛ قرر التطوع للدفاع عن المخيمات الفلسطينية في بيروت. وصل إلى العراق وحالت الظروف دون أن يكمل طريقه. كانت الكوفية من قماش أنيق وفاخر. وبعد سنوات طويلة أهداها لابنه محمد، صاحب السنوات الـ37، ليرتديها من بعده.

التزم محمد بارتداء الكوفية في كل المناسبات والفعاليات لكنه وقبل الصعود للقارب حفظها مع أصدقائه في تونس ووضع حول عنقه كوفيةً أخرى كي لا يصادر الإسرائيليون كوفية الأب الفلسطينية الأنيقة القديمة.

ورث محمد كوفية أبيه لكنه ورث منه ما هو أهم وأكثر عمقًا وانحيازًا لفلسطين؛ للضعفاء للفقراء وللحرية، ليس إرثًا بيولوجيًا بل الأثر الذي يتركه من نحبهم ومن نصدقهم في ذواتنا ويبقى فيها للأبد من دون أن ندري ومن دون كلمات ضخمة أو أنيقة يلقونها علينا.

قبل يومين كان على سلمان الصغير أن يكتب واجبَ اللغة الإنجليزية في المدرسة. المطلوب أن يشكل جملةً مفيدةً تتضمن كلمة من ضمن بضعة كلمات اختِيرت سابقًا كان من بينها كلمة قارب/boat. فكتب سلمان جملة "أبي على قارب متجه إلى غزة/My dad on the boat to Gaza".

ها هو الإرث، الأثر ينتقلان دون كلمات كبيرة حتى يحمل سلمان مستقبلًا كوفية الجد والأب؛ يحمل مستقبلًا رمزًا لفلسطين ورمزًا للانتماء لها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.