تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
لا تحمل الرسائل هذه المرة أي شاعرية. تفتقد لشاعرية عالم داود، عالم ما قبل الإبادة

إلى فلسطين| رسائل البحر

منشور الأربعاء 3 أيلول/سبتمبر 2025

ذهبت إلى برشلونة للمرة الأولى عام 2002، مدعوًا لعرض فيلمي الأول. ذهبت بكل هذه الطاقة الطازجة لعرض الفيلم، وطاقة الذهاب لمدينة من مدن البحر المتوسط. قضيت حينها في برشلونة أربعة أيام؛ كلها في الميناء، عدا ذلك المساء الذي عُرض فيه فيلمي. كنت أتجول في كل الأوقات الأخرى أمام البحر. ألتقط ما تبقَّى من مطاعمَ ومقاهيَ الصيادين القديمة. آكل فيها، أتأملهم، وأتأمل القوارب، وأتذكر أنني كنت أحلم صغيرًا أن أصبح قبطان قارب كبير. لا مجرّد بحار، بل قبطان؛ مرة واحدة. 

لم أشاهد معالم أخرى من المدينة، وهو ما يتكرر غالبًا مع كل المدن التي زرتها وكان بها ميناء. عادةً ما يكون أول ما أفعله هو الذهاب للبحث عن مينائها الصغير. لا تستهويني المواني الكبيرة. وحين أجد موانيَ القوارب الصغيرة، أقطنها حتى مغادرة المدينة. تتحول لمحطتي الثابتة.

عندي هوس بالقوارب. لم أصبح قبطانًا ولا بحارًا؛ لكنَّ الهوس استمر. لديَّ تشكيلة من مجسمات القوارب الصغيرة. أبحث عنها وأقتنيها. اكتشفت منذ سنوات قليلة هذا الهوس بالقوارب. اكتشفت أن أغلب عملي من كتابة أو أفلام مكتملة وغير مكتملة، به قوارب. أو تتحدث شخصياته عن قوارب. وغالبًا ما يكون قاربًا صغيرًا يحمل صيادين أو مهاجرين أو لاجئين.

ظهر كتابي الأول منذ عامين، وعلى غلافه قارب ورقي، وكأنه كما كتبت صديقتي زين خزام محتفيةً بالكتاب حين صدوره: كيف تتحدث عن الهزائم وها هو القارب الورقي الصغير قد وصل إلى البر؟ اكتشفت قبل أعوام أن أحد أسباب اهتمامي بالعمل على كتاب عن يوسف شاهين سيصدر قريبًا، هو هوسه أيضًا بالقوارب والمواني. وكأنها من ضمن العناصر التي تجمعنا سويًا حتى بعد رحيله. ودون أن أدري، اكتشفت أن مشاريعي المؤجلة مرتبطة بالقوارب كذلك، بل إن القوارب هي مسرحها الأساسي. وقبل عام ونصف العام، وشمت يدي اليسرى بقاربٍ نيليٍّ أحمرَ صغيرٍ.

رصيف ميناء برشلونة يتأهب لوداع أسطول كسر الحصار عن غزة قبيل ساعات من انطلاقه. 31 أغسطس 2025

مظاهرةٌ تكبر على رصيف الخشب

عُدت لبرشلونة مرات كثيرة منذ هذا العام البعيد، وكنت أكرر الفعل، فيما عدا هذه المرة؛ وصلت لبرشلونة لتلقي التدريب قبل الصعود لأسطول الصمود ظهر الأربعاء 27 أغسطس/آب. وكانت المرة الأولى التي لا أتلهف فيها للذهاب لرؤية البحر أو الميناء أو القوارب. 

غياب اللهفة هذا لم يكن لغزًا بالنسبة لي. انتبهت له في لحظتها، فبعد ثلاثة أيام سأكون في قارب محاصرًا بالبحر حتى الوصول لغزة. عشرة أيام أو أسبوعين أو أكثر، لا أعلم. لا أحد يعلم. والبحر في هذه الحالة ربما يتحول لسجن، والقارب زنزانة صغيرة بداخل هذا السجن. لكن الصدفة لعبت لعبتَها لتقودني للميناء. 

ذهبت لمظاهرة صغيرة تمهيدية لهذا المهرجان الفلسطيني الذي سيستمر ثلاثة أيام على رصيف الميناء حتى لحظة رحيل الأسطول باتجاه غزة. كانت المظاهرة في ميدان صغير في الحي القديم/القوطي لبرشلونة، الذي يضم مقر البلدية ومقر حكومة إقليم كتالونيا. لكنَّ المظاهرة الصغيرة كبرت، وتحولت لمظاهرة حاشدة حتى الميناء، فرأيت القوارب ورأيت الميناء.

بدأ تدريبنا. وفي كل يوم من أيام التدريب الثلاثة، ولأننا نتدرب في قاعة قريبة من الميناء -سأتحدث عنها أكثر لاحقًا- كنا ننهي التدريب ونذهب للميناء، للمهرجان الفلسطيني الحاشد الذي يشغل هذا الرصيف التاريخي من ميناء المدينة: رصيف الخشب، حيث كانت القوارب التي تحمل الخشب آتية من بعيد ترسو عليه قبل عقود.

في اليوم الثالث والأخير، السبت 30 أغسطس، وبعد أن تأكد كل واحد منا أنه سيصعد على متن أحد قوارب الأسطول، وبعد أن تقرر أنني سأكتب رسائل يومية من البحر من القارب لـ المنصة، كنت ذاهبًا عصرًا إلى موقع المهرجان. وفي وسط الزحام المزعج للسياح في الميدان الرئيسي لبرشلونة، ميدان كتالونيا، شاهدت ظهر فتاة شابة ترتدي قميصًا أسودَ، وعلى ظهره مطبوع الملصق الدعائي لفيلم داود عبد السيد رسائل البحر. 

بعد أن تقرر أنني سأكتب رسائل يومية من البحر من القارب لـ المنصة

كانت ضمن عائلة. لا أعلم إن كانت عائلة مصرية أم من بلد عربي آخر، لكنها منحتني حين رأيت قميصها الأسود من الخلف، يحمل ملصق فيلمٍ أحبه لمخرجٍ أحبه، الإشارة؛ المفارقة. فأنا أيضًا سأرسل رسائل من البحر. رسائل مختلفة عن تلك التي تلقاها يحيى بطل الفيلم. لا تتعلق بالتحرر والبحث عالم جديد وذات جديدة، بل عن رحلة البحث عن طريق يوصل إلى غزة، لوقف المجاعة والإبادة والحصار. 

رسائل لا نريد إرسالها

لا تحمل الرسائل هذه المرة أي شاعرية. تفتقد لشاعرية عالم داود، عالم ما قبل الإبادة. إنها رسائل مباشرة تتعلق بما هو ملموس وله رائحة وشكل. تتعلق بما هو مأساوي، كابوسي، لا بحلم. في أحد مشاهد الفيلم، يصارع يحيى البطل النوة، البحر. إن أخدنا المعنى لمنطقة المباشرة، بعيدًا عن منطقة الرمزية التي أتصور أن داود عبد السيد قصدها بأن يصارع يحيى الإله الذي يحدد مصيره كي يقرر هو هذا المصير.

تغير العالم كثيرًا ولم تتغير الفاشية

بعد أن رأيت الملصق على ظهر الفتاة بيومين؛ ليلة 2 سبتمبر/أيلول كنا نصارع عاصفة بقارب صغير. عاصفة ليلية، أمطار، وبحر هائج، بعيدين عن بقية القافلة، دون إنترنت، دون تواصل. مجموعة لم يبِت أغلبها في حياتهم؛ ومن بينهم أنا، ليلةً في قارب صغير في وسط البحر. لتكون ليلتهم الأولى عاصفة، بعد أن غادروا ميناء برشلونة بساعتين فقط. 

في قاربنا، وكل القوارب الأخرى، كان أغلب المتطوعين من قافلة الصمود يعانون من الدوار والقيء الشديدين. لكنني لا أعرف هذا السر العلمي/الفيزيقي الغامض الذي حماني من الإصابة بالدوار. أجلس بالقرب من قائد/قائدة القارب، أساعده/أساعدها في التحكم به، وتجنب أن نفقد أشياءنا المتروكة في هذا الجانب المكشوف من قاربنا الذي يبدو هشًا وصغيرًا في بحر مظلم.(*)

فجأة، لم أصبح بحارًا بل مساعدٌ، أراقب البحر لأتأكد من عدم وجود شيء أمامنا أو قوارب أخرى. وأشد بعض الحبال، وأراعي من أصيبوا بالدوار، وكأن الحلم القديم يتحقق رغمًا عني، دون إرادتي، فهذه المرة نعم أنا في قارب، لم أكن أرغب أن أكون به، أو أن يكون أي أحد به. ألّا يضطر أحد للذهاب من غرب المتوسط إلى شرقه لأن البربرية/الدولة الفاشية تبيد الشعب الفلسطيني. 

القاعة الواسعة التي تلقينا فيها التدريب، هي جزء من القاعة الرئيسية القديمة والهائلة لنقابة UGT، خصصت في سنوات الحرب الأهلية الإسبانية بين عامي 1936 و1939 لهؤلاء المتطوعين الذين شكَّلوا الفوج العالمي الآتي من أنحاء العالم للنضال المسلح ضد الفاشية الإسبانية. لكن بعد عقود طويلة، ها هي تضم متطوعين دوليين آخرين، جاءوا لمحاولة كسر الحصار عن غزة، وقف الإبادة والتجويع، وأن يقولوا فلسطين من النهر إلى البحر. لكن بعد أن تغير العالم كثيرًا، ولم تتغير الفاشية. 


(*)تتحفظ المنصة على ذكر أي معلومات من شأنها كشف هوية قادة قوارب أسطول الصمود المتوجه إلى غزة، لاعتبارات أمنهم وسلامتهم

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.