أهدتني أمي بعد موت أبي الساعة التي كان يحملها في معصمه. لم أرتدِها أو أجربها مطلقًا، رغم أنني أضع في معصمي الأيسر ساعات شبيهة بالتي كان يفضلها أبي؛ سوارها من جلد بني غالبًا، ولها شاشة دائرية متوسطة الحجم، ولا تلفت الانتباه. أخذت من أمي ساعة أبي وعلَّقتها بتلقائية في بيتي، أمامي على الجدار، بجوار شاشة الكمبيوتر، بحيث تواجهني. توقفت عقاربها عن التقدم بعد أيام، وخلال 15 عامًا، منذ رحيله وحتى الآن، لم أغير بطاريتها، تركتها متوقفة عند العاشرة وخمسين دقيقة. لا أعلم إن كان توقيتًا صباحيًا أم مسائيًا.
***
قبل أسابيع قليلة، وبينما كنت في طائرة متجهة إلى تونس في رحلة عمل، توقفت عقارب ساعتي عن الدوران مباشرة بعدما عدلتها لتلائم التوقيت التونسي بدلًا من الإسباني. ارتبكت في الطائرة، لم أعتد أن تكون حول معصمي ساعة متوقفة، أو أكون بلا ساعة يد منذ أن أهداني أبواي الساعة الأولى طفلًا. فأنا أنظر إلى ساعة يدي كثيرًا، وهذه النظرة ترتبط بأي نشاط أقوم به، ولا يُغني عنها الموبايل.
وصلتُ تونس ليلًا، وكان أول ما فعلته في الصباح أن أعطي الساعة لصديقة كي تحملها إلى محل لتغيير البطاريات وتعيدها إليَّ. لم أكن أعلم أنني لن أراها حتى اليوم التالي، فكان يوم العمل الأول بلا ساعة يد. أنظر إلى الموبايل لأعرف الساعة، وأحدد إيقاع العمل مع مجموعة من السينمائيات العربيات أتيت لأعمل معهن على تطوير مشاريعهن السينمائية. لم يفارقني الارتباك طيلة اليوم.
عدت لغرفتي ليلًا، ورغم أنني كنت متعبًا بسبب النوم القليل والعمل الكثير، سيطر عليَّ هاجس أنني لم أقم بعملي كما يجب، ولم أتحكم في إيقاع الورشة مثلما أريد، وأنني تعجلت في معالجة بعض النقاط، وتباطأت في أخرى أقل أهمية.
نظرت للساعة/المنبه الموجود بجواري، وفهمت أن هذا الشعور كان بسبب عملي، للمرة الأولى، دون ساعة حول معصمي. مرت ساعات دون أن أتمكن من النوم بسبب الهاجس المتعلق بجودة اليوم الأول. واضطررت لتناول حبة منوم كي أرتاح بعض الوقت وأتمكن من العمل بشكل أفضل في اليوم التالي. في الصباح عادت إلى معصمي ساعتي بعد تغيير بطاريتها، شعرت بالأمان والراحة، وبدأت العمل بثقة.
***
الساعة لا تعني لنا الزمن وفقط، بل أيضًا الإيقاع وأشياء أخرى. فعلى سبيل المثال أحرص دائمًا على معرفة طول الأفلام قبل مشاهدتها، وأن أكون واعيًا بتوقيت بداية عرضها. وخلال المشاهدة، وأيًا كانت درجة إعجابي بالفيلم، أنظر إلى ساعة يدي عدة مرات. لا يعكس ذلك شعورًا بالملل، بل غرضه الانتباه لأي منطقة من الفيلم نحن الآن، والانتباه لإيقاعه وبناءه الدرامي، وأن أعرف أين يضع كُتّاب السيناريو والمخرجون الأحداث المحورية في زمن الفيلم وتطوره الدرامي.
***
قال الروائي البرتغالي خوسيه ساراماجو في إحدى المرات إنه كلما تقدم في العمر أصبح أكثر حرية. التقدم في العمر هو مرور الزمن، وأفهم الشيخوخة باعتبارها الوقت الضائع بعد مباراة طويلة، حيث يغامر الطرفان.
كان ساراماجو حرًا، وكان يعبِّر عن هذه الحرية. ولم يخَف من إشهار مواقفه السياسية حتى وإن كانت ستضره. بعد سنوات قليلة من فوزه بجائزة نوبل للآداب، وتحديدًا في 2002، ذهب بصحبة محمود درويش وآخرين لكسر الحصار الإسرائيلي على ياسر عرفات. تحدوا الدبابات، وتحدوا السطوة الإسرائيلية العالمية على وسائل الإعلام.
قال ساراماجو يومها أمام كاميرات التليفزيون إن ما يفعله الإسرائيليون مع الفلسطينيين هو نفس ما فعله النازيون مع اليهود في معسكر أوشفيتز. أي أنه دخل المنطقة المحرمة إسرائيليًا وأوروبيًا وأمريكيًا.
فهمت جملة ساراماجو التي تربط التقدم في العمر بازدياد درجة الحرية من جانب واحد، أنَّ بعضنا يصل إلى حالة من الاستغناء، والتحرر من الخوف، ونصبح أكثر خفة كلما تقدم بنا العمر، فخسائرنا المحتملة تقل مع الوقت.
يقع سؤال الروتين في منطقة السخافة حين نتذكر من هم خارج الزمن
لكنَّ هذا الفهم السياسي لما قاله ساراماجو قاصر. فمع توقف ساعتي عن العمل انتبهت لأنني كلما تقدم بي العمر أصبحت أقل حرية في علاقتي مع العادات والروتين اليومي، وما هو ثابت ومريح في الحياة الشخصية، وأنني أتحول بالتدريج لعبد عادات تبدو تافهة، مثل استحالة الاستغناء عن ساعة اليد والاستعانة بدلًا منها بالموبايل. دون أن يتناقض ذلك مع حرية القول والمخاطرة السياسية، فممارسة الحرية هي أيضًا صفة، أو ممارسة عادية، أو روتين، لمن اعتادوا عليها.
***
هل تمكن ساراماجو العجوز من التحرر من عاداته الشخصية وروتينه وكل هذه التفاصيل الصغيرة التي تحكمنا يوميًا، من نوعية أن تكون مطفأة السجائر على يسارك فوق المكتب الذي تعمل عليه؟ لا أعلم.
***
يقع سؤال الروتين في منطقة السخافة حين نتذكر من هم خارج الزمن، فأنا أكتب هذا النص في اليوم الأول من إضراب علاء عبد الفتاح عن السوائل، ودخوله لمنطقة المخاطرة القصوى، مغامرة الحياة أو الموت. لكن معركة علاء هي أيضًا معركة متعلقة بعقارب الساعة، بالتوقيت، بتمدد الزمن أو تقدمه السريع، وبسباق أطراف متعددة مع هذا الزمن فيما يخص قضيته. وربما يكون هناك بعض رجال السلطة الذين يتمنون الآن أن تتباطأ مؤقتًا ساعة علاء الجسدية في تقدمها، إلى أن يجدوا حلًا. بينما علاء لا يملك في زنزانته ساعة، ويعرف التوقيت تقريبًا بتغير النور.
***
قبل أيام كنت في طائرة متجهة من مدينة روما إلى العاصمة الأردنية عمان. تذكرت عبد الرحمن منيف وكتابه "سيرة مدينة" عن عمان التي ولد وعاش طفولته بها. فأخرجت حوارًا صحفيًا أُجري معه بمناسبة زيارته لعمان أواخر التسعينيات لأقرأه. لم يسأله الصحفي عن عودته لعمان بعد زمن طويل، وعلاقة عمان بالزمن، وكيف مرَّ الزمن على عبد الرحمن منيف المضطر لمغادرة مدن وبلدان كثيرة تركت كل منها بداخله بصمة زمنية.
عمان مدينة انتظار. وتعبير "انتظار" يستدعي الزمن بالضرورة. هي مدينة انتظار أغلب سكانها الذين عبروا النهر آتين من فلسطين عام 1948، أو في عام 1967، أو مبعدين في أوقات مختلفة، لعودتهم. انتظارهم لعبور النهر، الذي جف، للجهة المقابلة مرة أخرى.
أغلب من عبروا النهر في المرة الأولى لن يعبروه مجددًا، تجاوزهم الزمن بالموت. بينما أبنائهم وأحفادهم الذين استقروا بعمان، أو في المخيمات والمدن الأردنية الصغيرة، وعلى الرغم حياتهم المستقرة، يحتفظون بهذا الشعور بأن وجودهم مؤقت، ما زالوا ينتظرون هذا العبور المحتمل، ينتظرون العودة، وإنهاء "حالة الرحيل" المؤقتة الممتدة 75 سنة.
***
بمحاذاتي في نفس الصف بالطائرة هناك ثلاثة سائحين إيطاليين ذاهبين للرحلة سويًا؛ سيدتان ورجل. يجلس الرجل بين السيدتين، وهو محور اهتمامهما. صعدوا للطائرة سكارى، ولم يتوقفوا عن شرب الخمر وإشاعة الصخب بأصوات الإيطاليين العالية التي تجعلهم يبدون وكأنهم يصرخون. كان الثلاثة مهتمين بأن يلتفت إليهم بقية ركاب الطائرة، أن نلتفت إلى أن الرجل مشترك بين السيدتين، أو أن هذه الرحلة هي للمتعة الثلاثية.
وراؤهم مباشرة يجلس رجل عربي، لم يحتمل هذه "العربدة"، فأغلق عينيه وبدأ في ترتيل القرآن بصوت مرتفع، وبطريقة بكائية، ليكون صوته أعلى من صخب وضحكات الثلاثة.
زمن الرحلة متناقض عند الطرفين؛ السيدتان والرجل، الإيطاليون، تنتظرهم المتعة الحقيقية، الملموسة، في نهاية رحلة الطائرة. لكنهم يمددون الزمن، يطيلونه، بمتعة مؤقتة، متعة أن نلتفت جميعنا إليهم، أن يكونوا محور هذا المكان المؤقت، أن نتخيل نوع العلاقة بينهم، وأن نحسدهم على جنَّتهم الأرضية المحتملة.
بينما الرجل العربي يستعين بجنة القرآن، يستعين "بأبدية" القرآن كي يمرر الزمن بأسرع ما يمكن، وأن يهزم هذا الزمن الإيطالي الروماني المنفلت. أما أنا، فأتذكر توقف ساعتي في الطريق إلى تونس، أتذكر ساعة أبي المتوقفة فوق جدار بيتي، ألتفت إلى أن زمني يمر، أشعر بالضجر، وبتأنيب ضمير بسبب الإحساس بالضجر، وأخاف من فكرة أن تتوقف ساعة يدي من جديد حين أصل إلى عمان.