تصميم: أحمد بلال- المنصة

جدران بيننا| عدوهم في الداخل

منشور الأربعاء 14 مايو 2025

شاهدت صدفةً فيلمًا أمريكيًا اسمه Israelism/الأسرلة (2023)، يُعرض على منصات أوروبية متخصصة في السينما، رغم أنه أقرب لريبورتاج تليفزيوني معلوماتي. بالطبع، منحته أجواء الإبادة الحالية إمكانية هذا الحضور. يحكي عن عدد من الشباب الأمريكي المتصهين، وعن عملية اصطيادهم من بيئات ثقافية وسياسية وتعليمية، مبنيةً بالكامل وعن قصد، لتُحوِّل الأطفال لمشاريع صهاينة، منتسبين لدولة احتلال لا تربطهم بها أي صلة طبيعية، ويكادون لا يعرفون عنها شيئًا.

لكن الاختلافات بين مصائرهم مدهشة. ففيما يتحول بعضهم تدريجيًا لجنود مخلِصين للمشروع الصهيوني العنصري، بتطرف يُقرِّبهم من ملامح القتلة المحترفين/المرتزقة، يتمرد آخرون على هذا المصير، بعد أن تحولوا إلى إسرائيليين بشكل شبه كامل، تطوع بعضهم في الجيش الإسرائيلي. هؤلاء، من يغيِّرون مصائرهم لينفصلوا عن المنظومة الفكرية الصهيونية في منتصف الطريق، قاطعين الصلة بعملية "الأسرلة" التي تبدأ منذ الصغر، تجمعهم سمة أساسية؛ القدرة على طرح الأسئلة، ومواجهتها، وليس الهرب منها.

تشغلهم في مرحلة ما، لسبب أو لآخر، مجموعةٌ من الأسئلة الأخلاقية المتعلقة بمشروعية وجود هذه الدولة نفسها، فيبدؤون في مواجهة هذه الأسئلة، منطلقين في رحلة الانفصال الكامل عن إسرائيل ومشروعها. أو تقلقهم أسئلة أخلاقية، تتعلق ببعض ممارسات الدولة تجاه الآخر الفلسطيني، فيتوقفون في هذه الحالة عند حدود رفض احتلال الضفة الغربية وغزة، لا يتجاوزونها، لا يصلون لمستوى إدراك حقيقة المشروع الصهيوني؛ كمشروع استيطان عنصري وديني قائم على إبادة شعب آخر.

تصنع إسرائيل على عكس إرادتها أعداءها داخلها، رغم أنها ماكينة عظيمة الفاعلية لصناعة الحلفاء والمتواطئين. لكنها، بحكم طبيعتها، وبحكم أن مجردَ وجودِها سؤالٌ منافٍ للأخلاق، وللمبادئ البسيطة التي تعلمها البشر عبر آلاف السنوات ليتمكنوا من العيش سويًا، لا مفر أمامها من خلق هؤلاء الأعداء.

الخروج من العائلة

يعرف أغلبنا، ولو بشكل ضبابي، نماذج من هذا النوع من الإسرائيليين الذين يصبحون أعداءَ دولتهم نفسها، وتحدثت عن بعضهم في مقالات سابقة. وبينما أكتب هذا المقال، التقيت صدفة بقصتين؛ الأولى قصة نواع أفيشاغ شنال، اليمنية/الأمريكية، التي تخلت عن جنسيتها الإسرائيلية، وتُعرِّف نفسها بأنها "عربية يهودية". كتبت شنال قصتها في مقال بالإنجليزية، ترجمه ونشره موقع رصيف22 الشهر الماضي، والثانية هي آرنا مير-خميس، مؤسسة مسرح الحجر في مخيم جنين، وحكت لي عنها الصديقة سماح بصول، الباحثة والناقدة السينمائية، من فلسطينيي الـ48.

الأهم من التصنيفات أن نقف عند جوهر المواقف وكيف تقود أحيانًا للخروج عن حدود العائلة أو أرض الميعاد

بينما أقرأ نص شنال الطويل، تذكرت بعض جوانب ما روته العراقية اليهودية إيله شوحاط في كتابها المهم ذكريات ممنوعة، عن كيف دمرت إسرائيل الهوية القومية والثقافية لليهود العرب/الشرقيين، واستعبدتهم من أجل بناء مجد ومشروع الرأسمالي الصهيوني الأوروبي. تختلف رحلة شوحاط عن رحلة شنال، في أن الأخيرة تنازلت عن الجنسية وأشهرت عداءها لإسرائيل من الخارج، معترفةً بأن حظها الحسن جنَّبها العيش في دولة الاحتلال. بعكس شوحاط التي انفصلت عن الدولة قبل أن تتركها، وبدأت في العمل الثقافي والسياسي ضدها من الداخل، والكشف عن بعض أكاذيبها التاريخية في أعمال بحثية وأكاديمية مهمة.

لكنهما يلتقيان كامرأتين انتمتا لجماعتين عرقيتين مُورس ضدهما، من ضمن كذبة "دولة كل اليهود"، القهر والعبودية والتمييز لصالح "الجنس الأرقى"، الأبيض/الأوروبي. وصل في حالة اليمنيين الفقراء إلى حد سرقة أطفالهم الرضع ومنحهم لعائلات ناجية من المحرقة الأوروبية. تحكي شنال أكثر من شوحاط عن حاضر وماضي عائلتها، المتماهية مع الدولة التي دمرت حياة أفراد هذه العائلة نفسها. تحكي عن أبناء العم والأقارب، وعن العار الذي تشعر به بسبب خدمتهم في الجيش الإسرائيلي. لكن كليهما تتجنب حكي واقعهما الشخصي كمنبوذتين.

ربما تتمكنان، ويتمكن كل هؤلاء المنفصلين عن المشروع الصهيوني، ومن أشهروا العداء له من داخل دولة إسرائيل ومنظومتها، أن يفتحوا يومًا ما ملف النبذ العائلي والاضطهاد المجتمعي الذي يلاقونه بسبب معاداتهم للصهيونية، مثلما فعلت ميشال شفارتز، ابنة الأرستقراطيين الروس، التي حكت لي كيف لم تقبل عائلُتها، بمن فيهم والداها وابنتاها، رفضها لدولة إسرائيل وانحيازها للمقاومة الفلسطينية. فتنقطع علاقتها بهم نهائيًا، وتتحول للابنة/الأم المنبوذة.

الخروج من أرض الميعاد

تأسس منطلق/حجة هذه السلسلة من المقالات على حالة فيلم "لا أرض أخرى" للفلسطيني باسل عدرا والإسرائيلي يوفال أبراهام. فلأعد لهذا المنطلق/الحجة، رغم أن الحديث عن الفيلم انتهى. لفت انتباهي توصيف الصحفية الفلسطينية حنين مجادلة، في مقال بصحيفة هاآرتس الإسرائيلية، يوفال أبراهام، بأنه من اليساريين الليبراليين.

إنه تصنيف ملتبس يعبِّر عن مأزق تقليدي؛ التصنيف السهل والمتسرع للمنفصلين عن دولتهم، دولة الاحتلال. لا أعرف إن كان يوفال يساريًا ليبراليًا أم لا. ما يهمني هو منتجه، فيلمه، وما يكشفه لمشاهديه عن همجية وتوحش الاحتلال الإسرائيلي. وما يكشفه من تحالف وثيق بين أهم مؤسستين في دولة إسرائيل؛ جيشها وقطعان مستوطنيها، ضد فلسطينيين يعيشون في مكانهم الطبيعي. ما يهمني كذلك هو احتمالية دخول المخرج لمرحلة تطوير حقيقي، وتجذير عدائه لدولة التفوق العنصري الصهيونية، أيًا كانت التوصيفات التي يمكن إطلاقها عليه، التي لا يمكن أن تضعه الكفة نفسها مع حركة صهيونية مثل "السلام الآن"، ليوصف كلاهما بالليبرالية اليسارية.

مجرد ذِكر اسم حركة السلام الآن يستدعي وهمًا قديمًا، وملفًا آخر. الوهم هو ما كان يشاع عن هذه الحركة، منذ تأسيسها نهايات السبعينيات، بأنها ممثلة اليسار في إسرائيل، وبأنها المحاور المناسب للعرب، لتحقيق طموحات التسوية العادلة في الثمانينيات ومطلع التسعينيات. والملف، غير المنفصل عن هذا الوهم، هو ملف التعايش المزعوم الذي رُوج له بداية من مبادرة السادات الشهيرة، التي تُسلِّم بمشروعية دولة إسرائيل.

لا يملك أحد تقديم وصفة سحرية أو مانيوال شامل جامع لما يمكن تسميته بقواعد مقاطعة العدو

لذلك تحديدًا أرى أن الأهم من التصنيفات، هو الوقوف عند جوهر المواقف، وكيف تقود أحيانًا للخروج عن حدود العائلة أو أرض الميعاد. بشرط ألَّا يكون مطلوبًا من المثقف الإسرائيلي، البادئ في عملية الانفصال عن دولته، تقديم فروض الولاء والطاعة لأي طرف كان، حتى وإن كان عربيًا أو فلسطينيًا.

تقديم شهادات حسن السير والسلوك، والطاعة الفكرية والسياسية، عبارة عن استسلام لحالة مرفوضة، جوهرها وهم التفوق القومي العربي في مواجهة وهم التفوق القومي اليهودي. والتفوق غير الحق. بالإضافة إلى أن تقديم فروض الولاء، وإن كانت للضحية، يتعارض مع الحرية والاستقلالية الفكرية المطلوبة من المثقف. إنها حالة مهينة من الخنوع، مدمرة لجوهر عملية الإنتاج الثقافي وتلقيه.

أن نخرج من التابو

يبدو رفضي في الفقرة السابقة لتقديم شهادات السير والسلوك اصطدامًا بالتابو المرتبط بـ الأنا/الآخر، والآخر هنا هو من يحمل الجنسية الإسرائيلية. لكنه ليس كذلك في الوسط الفلسطيني، ويستدعي حالات سابقة، منها حالة آرنا مير- خميس. التي أكتفي بإيراد نص ما أرسلته لي سماح بصول عنها.

من يراجع تاريخ آرنا سيرى أنها التحقت في مطلع شبابها بأحد التنظيمات الصهيونية. لكنها تحولت، وانضمت للحزب الشيوعي وتزوجت من الكاتب الفلسطيني صليبا خميس. وأصبحت شريكة في النضال المناهض للاحتلال، ولم تكفّ يومًا عن استخدام الكوفية، وتجذرت قناعتها بعدالة القضية الفلسطينية، وتوجهت إلى مخيم جنين للعمل مع الأطفال وتأسيس مسرح الحجر.

ابنها الممثل الراحل جوليانو مير - خميس، كان جنديًا في الجيش الإسرائيلي، (وهذا نابع من نسب الولد لوالدته في إسرائيل وبالتالي تتم دعوته لأداء الخدمة العسكرية إذا كانت الأم يهودية). لكنه هو الآخر اختار المضي في مسار مناهض للاحتلال، وتكريس معرفته وتجربته الفنية في إقامة وإدارة  مسرح الحرية، متابعًا مسيرة والدته حتى يوم مقتله.

طوال نشاط آرنا وجوليانو المسرحي في مخيم جنين لم تكن هناك دعوات صارخة مطالبة بمقاطعتهما، ولم توضع أعناقهما تحت مقصلة محاسبة الماضي. هذا لا يعني أن الشعب الفلسطيني غير واعٍ لماضيهما، لكنني أعتقد أن الأمر ارتبط بمدى صدق الفعل الآني، والتواجد بين الناس والتعامل اليومي معهم، فجوليانو كان يعيش فعليًا بين مخيم جنين وحيفا، وآرنا كانت مناضلة بحق ضد الاحتلال.

هناك عدد من الناشطين الإسرائيليين المناهضين للاحتلال الذين يتواجدون في قرية باسل عدرا، وعمومًا في قرى مسافر يطا، بشكل يومي. هناك أيضًا رافضون للخدمة العسكرية يقضون عقوبة السجن. وهناك أعضاء إسرائيليون في الأحزاب السياسية الفلسطينية الفاعلة في البرلمان الإسرائيلي. رغم قلة كل هؤلاء، فإنهم حاضرون، ونضالهم مهم لنا، وجزء منهم يدفع أثمان مواقفه. وأعتقد أن مطالبتهم المستمرة بإثبات الولاء غير مجدية.

انتهى كلام سماح بصول، المشجع على كسر جدران التابو المقلق، المتضمَّن في عبارة إدوارد سعيد التي تحدثت عنها في المقال السابق "يجب ألَّا نستحوذ على خيال شعبنا فحسب، بل ينبغي أن نستحوذ على خيال مضطهِدينا أيضًا".

لكن تعبير "المشجع" لا يكفي لإنهاء الخوف والرهبة من مناقشة هذه الدعوة لـ"فعل" ما، الواردة في عبارة إدوارد سعيد. فهناك مخزون هائل من الاتهامات المحتمل أن تصيب من يجرؤون على التفكير والنقاش. لكن، لم يعد هناك مفر من فتح هذا الملف مستقبلًا، فقد كان، ولا يزال ضروريًا. لا مفر لأسباب كثيرة، من ضمنها أن كلام محمود درويش الذي افتتحت به المقال الأول من هذه السلسلة، أن العالم يهتم بالفلسطينيين لأنه يهتم بالمسألة اليهودية، لم يعد صحيحًا. ولأن عالم ما بعد الإبادة سيكون أكثر قسوة وكابوسية. يتطلب مناقشة كل الملفات كي نتجاوزه، وكي لا تُصور أي هزيمة وكأنها أبدية.

لا يملك أحدٌ تقديم وصفة سحرية، أو مانيوال شامل جامع، لما يمكن تسميته بقواعد مقاطعة العدو، التي نعرف أنها ضرورية، ونعرف أنها تؤلمه. مثلما لا يمكن في الوقت نفسه وضع قواعد للتعاون والنضال المشترك مع المتمردين على هذا العدو، بناء على تعريفات فصيحة ومختصرة تتلقاها الجموع الواسعة، لتعرف من الصهيوني ومن غير الصهيوني.

الوصفات الشاملة/الجامعة، الفصيحة والمختصرة، ليست فقط مستحيلة، بل إنها غير مطلوبة في عالم شديد التعقيد والتغير المستمر. لكن الفلسطينيين، والمنحازين للحق الفلسطيني بحسم، يستطيعون الوصول إلى أرضيات أكثر وضوحًا للتعامل مع الجديد الذي بدأ في العالم بخصوص فلسطين، كي لا تكون نماذج الشباب المتمردين على "الأسرلة"، أو يوفال أبراهام، أو إيله شوحاط، وغيرهم، خاضعة للصدفة وللضمير الفردي.

إن كان المتلهفون العرب للتطبيع مع العدو يُضرِّون بنا وهم يقدمون صورة مزيفة لموقف شعوبنا من إسرائيل، فالمتمردون على الصهيونية من داخل إسرائيل، هم أكثر من يفضحونها في العالم.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.