أشرت في مقال سابق إلى أن إسرائيل، ومع عبور أولى دباباتها الحدود إلى لبنان في ربيع 1978، أبلغت السادات ببدءِ غزوها الذي عُرِف بعملية الليطاني، ليذهب الرئيس المصري إلى النوم بعدها، ويتساءل عند استيقاظه عمَّا إذا كانت إسرائيل "أدَّبت" الفلسطينيين.
بالإمكان وصف هذا الأداء السياسي بالكثير. تطورت خصومة السادات مع الفلسطينيين لرفضهم مبادرته بالسلام مع إسرائيل خلال شهور، لدرجة إعلان حقده عليهم ورغبته في أذيتهم. فخلال مؤتمر كامب ديفيد، وبعد أن وافق على ربط مصير الضفة الغربية بالأردن، ولأن التنازلات المجانية التي قدمها بخصوص القضية الفلسطينية طالت الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، التي كان يقلل منها بتسميتها "أماني"، ولأنها لن تُرضي الأردن كذلك، تصور في لحظة معينة أنه قادر على الإشراف على الضفة الغربية أو إدارتها بدلًا منه.
نبه وزيرُ الخارجية إبراهيم كامل الساداتَ إلى استحالة ذلك. وأنه لو حدث وأرسل السادات جيشًا إلى الضفة، فسيؤدي ذلك لمواجهات مع الفلسطينيين. فكان رد السادات العنتري على هذا التحذير حرفيًا "إن قتلوا مصريًا واحدًا سأقتل منهم عشرة".
هناك جانب كوميدي في مأساوية أن يتحول موقف حاكم مصر من البحث عن حقوق الشعب الفلسطيني، إلى إلغائهم فعليًا، بل التلويح بقتلهم، مرورًا بأن يصبح الهدفُ العمليُّ للمباحثات منعَ عودة الاتحاد السوفيتي للشرق الأوسط، بدلًا من حل مشكلته.
الجانب الكوميدي أو الهزلي أن نائب رئيس الوزراء المصري حسن التهامي، المشهور بشعوذته، صدَّق قبل توقيع كامب ديفيد بساعات، أن مصر ستحكم الضفة الغربية فعلًا. ولأول مرة منذ بداية صداقتهما الطويلة، طلب من السادات "طلبًا شخصيًا"، حسب تعبيره؛ أن يعيِّنه حاكمًا على القدس، التي أشرت في المقال السابق إلى أن السادات اختصرها لميل مربع واحد يريد أن يرفع فوقه علمًا عربيًا أو إسلاميًا، كان مصريًا في أحلام حسن التهامي "حاكم القدس".
الرحلة الأخيرة.. الهاوية الأخيرة
في صيف 1978، وقبل أسابيع من سفر السادات والوفد المرافق له إلى كامب ديفيد، قرر الرئيس، وبحسم، وبموافقة فريقه، قطع المفاوضات لتأكدهم من غياب نية السلام عند الجانب الإسرائيلي، ولأن بيجن يستخدم المفاوضات لتضييع الوقت والدخول في متاهات وتنازلات متتالية، بينما يغير واقع الأراضي المحتلة بالمستوطنات وإنشاء المواقع العسكرية وإجراءات الضم.
سمع فريقُ السادات الرئيسَ يتحدث للمرة الأولى عن تفهمه لمتطلبات الأمن الإسرائيلية
لكن هذا الموقف تغيَّر فجأة 180 درجة مع بداية أغسطس/آب، بمجرد أن أرسل كارتر وزير خارجيته فانس إلى السادات، ليخبره أنه قرر عقد مؤتمر قمة ثلاثي. بعد اجتماعه بفانس، أعلن الرئيس المصري موافقته على القمة وترحيبه بها، وبشروط كارتر التي كان من بينها أن تكون مدة الإقامة في كامب ديفيد مفتوحة بلا سقف. لن يخرج أحد من المنتجع الذي سيُعزل عن العالم إلا بعد توقيع اتفاق.
تجاهل السادات طيلة الشهر السابق للمؤتمر، كل تقارير الخارجية المصرية حول إعلان المبادئ والاستراتيجية التي ستتبعها مصر في كامب ديفيد. وظل يرفض الاجتماع مع وزير خارجيته بحجة أن الصيام يرهقه، إلى أن فاجأ جميع من حضروا اجتماع مجلس الأمن القومي في استراحته بالإسماعيلية، قبل السفر بثمانٍ وأربعين ساعة، بأن هدفه قد تغيَّر، ولم يعد إعلان مبادئ شاملًا، بل شيء جديد، تحدث عنه شفويًا، وسماه "إطار السلام".
عرض السادات في هذا الاجتماع أفكاره التي سيذهب بها إلى كامب ديفيد، بعد أن يصوغها لاحقًا وفي اللحظات الأخيرة أسامة الباز، بالاتفاق مع الرئيس ومن وراء ظهر فريق الخارجية. الطريف، أن السادات دعا إلى هذا الاجتماع السري الذي يقتصر حضوره على أهم مسؤولي الدولة، همت مصطفى مديرة التليفزيون، وسعد زغلول المسؤول عن الشؤون الصحفية في الرئاسة.
في هذا الاجتماع، سمع فريق السادات للمرة الأولى الرئيسَ يتحدث بصراحة، وبلهجة جديدة، عن تفهمه لمتطلبات الأمن الإسرائيلية التي طالما رفضها سابقًا، ويطرح مقابلها حل السلام الذي سيحقق وحده الأمن للجميع، بدليل أن مصر حطمت نظرية الأمن الإسرائيلي في السادس من أكتوبر.
افتتح السادات في هذا الاجتماع نغمة "عندهم حق"، باعتبار أن ضرب العمق الإسرائيلي ممكن من القدس أو غزة. ولأول مرة، تمهيدًا لسفره، لم يُبدِ السادات فقط تفهّمًا لادعاءات إسرائيل بشأن أمنها، بل تخلَّى عن المبدأ الأساسي الذي طالما حكم مصر قبل هذا اليوم؛ لا تنازل عن أرضٍ أو سيادة.
بعيدًا عن المسرح
عشق السادات الظهور والتباهي وأن يكون محاطًا بالاهتمام. وهناك دلائل كثيرة من مساره على ذلك، من مذكرات إبراهيم كامل وغيرها. من بينها حضور همت مصطفى اجتماع مجلس الأمن القومي، ليظهر أمامها بصورة الرجل الاستراتيجي الذي يُمسك بكل الخيوط بين يديه، مقللًا من قيمة فريقه الذي يفاجئه أمامها بالجديد. وربما كان قرار العزلة المطلقة في كامب ديفيد، أو ما أسماه الوفد المصري والسادات بـ"السجن"، سببه أن الإسرائيليين والأمريكيين درسوا نفسية السادات وتركيبته جيدًا، فأرادوا إبعاده عن خشبة المسرح التي يشعر فوقها بالراحة.
في مكان معزول، دون معجبين أو أصدقاء أو عائلة أو أضواء أو صحفيين، شَعَر السادات أكثر بالضَعف والعزلة. الوحيدون الذين يُظهِرون تقديرهم له في سجنه الفخم هم سجانوه أنفسهم، الأمريكيون، الذين منعوا الدخول والخروج وتحكموا في الاتصالات. أما التقدير من فريقه فلم يكن كافيًا في حالة العزلة تلك التي دفعته أكثر فأكثر لتقديم التنازلات. فالفريق مطيع من قَبْل العزلة، لا يناقشه، ولا يعدل تصوراته. ويتعامل هو معهم بتعالٍ يصل لدرجة طردهم من محل إقامته في لحظة غضب وبصورة مهينة. والوحيد الذي يواجهه ويناقشه هو رئيس وفده نفسه، وزير الخارجية.
التركيبة النفسية لا تتوقف عند منطقة الأداء المسرحي، بل تُترجم في السياسة. فبعد أن غابت الجولان عن المباحثات كقضية، غُيبت كذلك الضفة الغربية وقطاع غزة، ليسيطر على السادات وهمُ أنَّ سلام مصر المنفرد مع إسرائيل سيحل كل الأمور، وستكون له كلمة في إدارة الضفة وغزة. صدَّق ما أوهمه به الأمريكيون، بأن سلطته، بالإضافة إلى حجم مصر ومكانتها وتأثيرها، تؤهلانه ليحل محل الأردنيين والفلسطينيين، وستجعلان العرب يقبلون بأي اتفاق سيوقعه.
ولأنه محاصر وضعيف ونرجسي، لم يُبدِ أي رد فعل على نسف مشروعه الذي أسماه بإطار السلام. وفي الجلسة الأولى، حين رفض بيجن بحسم مناقشة المشروع حتى، ظل الرئيس صامتًا. لم يتحدث، لم يدافع عن إطاره، ولم ينفذ وعده لفريقه بالانسحاب إن لم يوافقوا على إطار السلام. كان واثقًا من أن كارتر سيرضيه في النهاية ليمجدهما العالم سويًا كبطلي سلام، وإن كان على حساب فترته الرئاسية الثانية، واحتمال أن يعمل اللوبي الصهيوني على إسقاطه في انتخاباتها.
المسرح المتخيَّل في ذهن السادات لا يخلو من مفاجآت وتحولات درامية. فبعد أيام، غضبَ فجأة، وقرر الانسحاب، وأصدر الأوامر لفريقه بحزم الحقائب للعودة إلى مصر. وانهار تقريبًا أمام وزيري خارجية مصر والولايات المتحدة، قائلًا إنه قدم الكثير من التنازلات من أجل أمريكا وكارتر، ولا يعرف الآن كيف يوقع على هذه التنازلات.
الخروج من كامب ديفيد ليس مثل دخولها، فبعد زيارة عاجلة من كارتر، واجتماعهما منفردين لنصف ساعة، تغيرت حالته تمامًا. أعلن البقاء، وقال "سأوقع على أي شيء يقترحه الرئيس الأمريكي كارتر دون أن أقرأه". فبالإمكان إسقاط الاتفاق، إن لم يعجبنا، بأن يرفضه مجلس الشعب.
هنا تحديدًا جوهر المأزق؛ هل يقبل السادات بكل تصوراته عن نفسه كفرعون، أن يوقع على ما يمكن لمجلس الشعب إسقاطه لاحقًا؟! بالطبع لا. ناهيك عن أنه بعد خسارته السوفييت والعرب، سيخسر كارتر الذي سيشكِّل إسقاط الاتفاق في البرلمان إهانة له وإعلانًا لفشله. هنا سيكون السادات انتهى تمامًا، وسيصبح إسقاطه، أو خلعه، أو الانقلاب عليه، رهن ساعات أو أيام قليلة.
مجنون أو خائن.. أو كلاهما
متباهيًا بصداقته مع كارتر، كان السادات قبل وأثناء مؤتمر كامب ديفيد، يصر سرًا وعلنًا على إشراك الولايات المتحدة الأمريكية في المفاوضات مباشرة. ليس كوسيط أو شاهد، بل كشريك كامل، ليصعِّب الأمور على نفسه وفريقه، بحيث يتفاوضان مع طرفين وليس طرفًا واحدًا. لم يكن "السياسي الداهية" أدرك بعد أن هذه الصداقةَ الجديدةَ سطحيةٌ ولا تعني شيئًا لكارتر، مقارنة بالتحالف العضوي الوثيق والاستثنائي الذي يربط الولايات المتحدة بإسرائيل.
قبل توقيع الاتفاقية بيومين وصف السادات بيجن بأنه أقذر عدو لكنه سرعان ما عاد إلى صيغة صديقي
خلال المؤتمر، ظهر كذب كارتر في اتفاقه مع صديقه الجديد، ووعوده التي ظل شهورًا يرددها، بأن إدارته ستعرض على مصر أي وثيقة اقتراح قبل عرضها على إسرائيل، عندما أخرج بيجن في إحدى الجلسات ورقة موقعة من هنري كسينجر عام 1975، حين كان وزيرًا للخارجية، تلتزم فيها الولايات المتحدة بأن تناقش أي مسألة تتعلق بحل النزاع في الشرق الأوسط مع إسرائيل أولًا، قبل طرحها على أي طرف آخر.
يكتشف الداهية وقتها مدى سطحية هذه الصداقة وانعدام قيمتها، ويدرك أنه الطرف الأضعف في هذا المثلث، الذي لا يملك إلا التوقيع على أي اتفاق يرضي أصدقاءه الأمريكيين والإسرائيليين. وهو ما جعله يشعر قبل توقيع الاتفاق بيومين بالإهانة، عندما رد إبراهيم كامل على مدحه المستمر لكارتر، بأن الأخير "تافه وحقير". ربما شعر أن السُبَّة موجهة له أيضًا، وربما وصله قبل هذا الاجتماع أن إبراهيم كامل وصفه قبل أن يستقيل من منصب وزير الخارجية، أمام مدير مكتبه أحمد ماهر، بأنه "خائن أو مجنون".
بإشراف مباشر من الرئيس الأمريكي، صاغ أسامة الباز ممثلًا عن الجانب المصري الاتفاقية التي لم تخرج فقط متوائمة بالكامل مع المشروع الإسرائيلي الأساسي المتعلق بالقضية الفلسطينية، الذي رفضته مصر عند تقديمه قبلها بشهور في الإسماعيلية، بل أسوأ.
فبفضل التعديلات المتتالية التي أدخلها بيجن قبل التوقيع بساعات، كانوا قد وصلوا عند هذه النقطة، وحسب تعبير إبراهيم كامل، إلى "كارثة على الشعوب العربية"، تُخرِج مصر تمامًا من النزاع، وتُطلق يد إسرائيل لتسيطر على المنطقة تمامًا وتفعل فيها ما تشاء، دون أي التزام من جانبها، أو من جانب مصر، تجاه الفلسطينيين.
حتى صيغة "الحكم الذاتي" التي عرضها بيجن في الجولة الأولى من المفاوضات في الإسماعيلية، ورفضتها مصر لأنها لا تعني "الدولة"، تحولت في الوثيقة النهائية إلى "مجلس إداري". وهي الوثيقة النهائية ذاتها التي حُذف منها قبل التوقيع عليها بساعات قليلة، الأساس الذي استندت إليه مصر طيلة الوقت: رفض الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة. استبدلت أولًا بمصطلحِ "رفض" المستند على القرار 242 بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، صيغة استعطاف ممثلة في تعبير "لا يجوز"، ثم حُذفت هذه الصيغة الاستعطافية نهائيًا من الصياغة الأخيرة للاتفاق.
اللقطة الأخيرة.. الصعود إلى المسرح
قبل توقيع الاتفاقية بيومين، كان السادات يصف بيجن بأنه "أقذر عدو". لكنه عند التوقيع، استعاد لغة "صديقي". لكن هذا الصديق حرص على إهانة السادات ومصر في كلمته التي أعقبت التوقيع، وعلى الهواء مباشرة، مرتين؛ عندما قال أمام العالم كله إن أجداده هم من بنوا الأهرام، وعندما تحدث، مستهزئًا بالسادات، عن "البعض" الذين حزموا حقائبهم غضبًا لمغادرة المباحثات، ثم عادوا فورًا للتوقيع. ولم يرد السادات على الإهانتين.
كان بيجن وكأنه يشارك السادات في محو آثار الضربة التاريخية التي وجهها جنود وضباط مصر لإسرائيل في السادس من أكتوبر، بقيادة المرحوم الفريق سعد الدين الشاذلي، الذي تساعد مذكراته في فهم مقدمة رحلة السادات، بطل الحرب والسلام، بين الحرب والسلام. كفهلوي على الأقل، أجهض كل شيء؛ الدم، والمسار السلمي نفسه، لصالح إسرائيل، ولصالح شعور مؤقت بالأهمية والتقدير من بعض الأمريكيين.
لكن إن كانت مثل هذه الإهانات قابلة للنسيان، فإن ما لا يمكن نسيانه، وما ظلت شعوب المنطقة، وبالذات الشعب الفلسطيني، تدفع ثمنه حتى اليوم، هو توقيع رئيس مصر على وثيقة إخراجها من الصراع. وفي الإبادة الحالية، لا نستطيع قراءة الموقف المصري إلا باعتباره إحدى نتائج مسلسل بدأ بمبادرة زيارة القدس، ثم مسار التفاوض، ثم كامب ديفيد بشكلها النهائي الذي يجرد الفلسطينيين من كل شيء، بما فيه الجانب المعنوي؛ أن حقوقهم التاريخية، ومأساتهم، تعني مصر الرسمية وتشغلها.