المكتب الصحفي للإدارة الأمريكية
الرئيس السادات مع الوفد الإسرائيلي في كامب ديفيد

إحياء إرث السادات.. بطل الحرب والسلام وأشياء أخرى

منشور الثلاثاء 13 أغسطس 2024

"أنتم تريدون العيش معنا في هذه المنطقة من العالم. وأنا أقول لكم، بكل الإخلاص، إننا نرحب بكم بيننا، بكل الأمن والأمان".

من خطاب الرئيس الراحل أنور السادات في الكنيست الإسرائيلي يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1977.

تحمل الفقرة السابقة من خطاب السادات الطويل مفارقة لغوية طريفة، المزج بين الـ"أنا" والـ"نحن"، بطريقة لا تصدم آذان المستمعين الذين استمعوا إليه بالعبرية عبر سماعات الترجمة الفورية، أو بالعربية، مندهشين مما يشاهدونه على شاشات القنوات التليفزيونية.

لكني سأعود إلى هذا الخطاب بعد قليل.


نعيش الآن المرحلة الرابعة من مراحل "الفرجة" على الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وتمتد خارجها بعمليات قتل واعتقال يومية في الضفة الغربية، وتوتر مكتوم في المناطق المحتلة عام 1948، واغتيالات خارج فلسطين، وخريطة مواجهة تتسع تدريجيًا من لبنان إلى إيران، مرورًا باليمن وسوريا والعراق.

المرحلة الأولى كانت الدهشة؛ وبدأت صباح السابع من أكتوبر واستمرت أسابيعَ قليلةً. كانت الأصوات المسموعة خلالها، من خارج الأُطر الرسمية، هي الانبهار بطوفان الأقصى. لم نسمع أيامها أصواتًا معاديةً للمقاومة، أو على الأقل كانت هذه الأصوات خافتة.

ثم أتت المرحلة الثانية مع اشتداد عملية الإبادة والمجازر اليومية. فأصبح الصوت السائد هو التضامن مع الشعب الفلسطيني، وتعبير أجيال جديدة عن بداية وعيها بالقضية الفلسطينية، والبحث عن جذورها. ولم يجرؤ أعداء المقاومة، وأنصار محور الخليج/ إسرائيل/ أنظمة التبعية العربية، على رفع أصواتهم.

أما المرحلة الثالثة فبدأت مع تراجع اهتمام الإعلام بعملية الإبادة، وبداية التعود عليها، وأيضًا لم تكن تُسمع سوى أصوات التضامن، وإن باتت متناثرة وقليلة مقارنةً بالمرحلتين السابقتين.

لكن المرحلة الحالية، الرابعة، التي يبدو أنها دُشنت بالاغتيالين؛ إسماعيل هنية وفؤاد شكر، وانتظار الحرب الإقليمية أو على الأقل ردود إيران وحزب الله. وللمرة الأولى خلال الأشهر العشرة الأخيرة، ارتفعت أصوات مصرية بنكهة ساداتية، وكأنها تستغل اللحظة لتُعيد إحياء "إرثٍ ما" يُنسب للرئيس الراحل؛ البراجماتي، الحكيم، الذي استطاع بدهائه وتفاوضه مع العدو أن يُنجِّي مصر من المهالك.

القيم التي دفعت السادات ليبادر بالذهاب إلى الكنسيت وتوقيع كامب ديفيد هي النفعية والأنانية

محاولة إعادة إحياء إرث السادات لا تحدث فقط لإيمان الأفراد به وحبهم له، فاسمه لا يرد كثيرًا في الخطابات المستلهمة لروحه. بل لرفع صوت مضاد للمقاومة وداعمي نضالها ولخطاب تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، بالمنطق العدمي التقليدي المنحصر عادة في "مفيش فايدة"، أو في أن العرب بطبيعتهم متخلفون وسيظلون كذلك. أو باللهجة المعادية لكل ما هو فلسطيني ولطموحات التحرر بعموميتها، وكذلك بنفس "فهلوة" السادات: كان هناك حل للقضية، لكن العرب بحماقتهم، والفلسطينيين بإرهابهم، أضاعوه منذ أكثر من أربعة عقود.

استعادة طيف السادات عملية شديدة الانتقائية. تركز على اللقب الذي صاغه بنفسه، لنفسه، من بين ألقاب كثيرة؛ "بطل الحرب والسلام". على اعتبار أنه حارب وقت الحرب، رغم أنه أرادها حربًا محدودة لتحريك المسار التفاوضي. وفي وقت السلام استطاع تحقيقه، وإن لم يعم السلام منطقتنا، فهذا ليس خطأه.

أن يتسم السادات بالبطولة في مجالين متعارضين؛ الحرب والسلم، لا يضعه في مخيلة هؤلاء في منطقة الجدل، بل الأسطورة. لكنه عندما يُستعاد الآن، يُستعاد كنموذج تحت مظلة براجماتية، وليست أسطورية. فالقيم التي دفعت السادات ليبادر بالذهاب إلى الكنسيت وتوقيع كامب ديفيد هي النفعية والأنانية، فرديًا ومجتمعيًا. أن تنجو بذاتك وليذهب الجميع، وأولهم الفلسطينيون، للجحيم. وهذه الذات/مصر التي تنجو بها، لا بد أن يتم تقزيمها، حتى ولو تغنوا بها كوطن عظيم. فهي تهرب من مواجهة من يهدد وجودها، لأنها أُرهقت من أربعة حروب.

هي نفس القيم المطلوب تكريسها الآن، مضاف إليها قيمة أن تنسى الشعوب العربية الفلسطينيين، وألا يهتموا كثيرًا بإبادتهم، وأن يُحجّم تأثير هذه الإبادة بقدر الإمكان، كيلا تتسبب في زلازل سياسية مستقبلية. وأن يُسجن الفلسطينيون في كانتونات، ليست جغرافية وحسب، بل كذلك عقلية، تحتل مليمترات قليلة من عقولنا، كماضٍ انتهى.

من ضمن هذه العملية نفسها محاولة تشويه حماس وفصائل المقاومة وإسماعيل هنية، التي أشرت إليها في المقال السابق. فهم ليسوا إرهابيين وحسب، بل أيضًا لا يملكون أي أفق أو مشروع سوى الانتحار. أما السادات، ذلك الداهية، فكان يحمل تصورًا ومشروعًا.

عظمة الذات وأبديتها

تحكي جيهان السادات في حوار مع مفيد فوزي أن موسى صبري كتب خطاب السادات في الكنسيت. وتشرح ميكانيزم كتابة خطابات زوجها؛ يجلس مع الكاتب، يحكي له المضمون العام للخطاب، فيذهب الكاتب للكتابة، ويعود بالنص الذي يعدل فيه الرئيس.

لم تحكِ بالطبع لجمهور برنامج مفيد فوزي أن موسى، الذي لَفَظت اسمه مجردًا، كان حالة صحفية فريدة، كرس كامل جهده لكتابة خطب الرئيس، ومقالات تمجده في الصحافة المملوكة للدولة، يُقال إنها بلغت الألف مقال. أغلبها خلال سنوات السادات الأخيرة بين 1977 و1981، سنوات إحساسه بالعظمة المطلقة، وأبدية ذاته.

بقراءة خطاب السادات في القدس ومشاهدته عدة مرات، بدا لي أن الساداتيين الجدد لم يقرأوه أو يشاهدوه، بل اكتفوا على الأغلب بالجمل المتفرقة التي اختارها محمد خان في الجزء الأخير من فيلمه أيام السادات (2001)، المأخوذ عن كتاب البحث عن الذات ومذكرات جيهان السادات سيدة من مصر، وهم يركزون أكثر في أداء أحمد زكي.

من يستمع أو يقرأ الخطاب بتركيز، لن يجد فيه أي تصور أو مشروع. مجرد كلام شديد العمومية في أغلبه، وتكرار لألعاب لغوية تحاول أن تكون مركبة وبلاغية، لكنها فارغة المضمون. بالإضافة للكثير من التعبيرات الدينية والإيمانية، وتكرار ممل لكلمة السلام في أي سياق وأي جملة. والأهم، حالة لافتة للانتباه لشخص وصل لمستوىً متطورٍ من النرجسية أو البارانويا. ولنترك التشخيص العلمي للأطباء النفسيين.

يفعل السادات شيئًا ليدخل التاريخ. بل إنه يدق على بوابة التاريخ لتُفتح له، مكررًا عدة مرات أن ما يفعله استثنائي، وتاريخي، وبالغ الشجاعة، وسيغير ليس فقط مسار المنطقة، بل العالم كله. هذا العالم الذي يراقبه بينما يلقي خطابه، مذهولًا أمام شجاعته، وحكمته، ونظرته الثاقبة... إلى آخر هذه الجمل التي يمكن تلخيصها في: انظروا كم أنا عظيم.

أعود إلى الجملة التي بدأت بها المقال؛ هذا الخلط بين الـ"أنا" والـ"نحن". يتحدث السادات في أغلب الخطاب بهذه الصيغة تحديدًا؛ الفرد المتكلم باسم المجموع. لكن المفارقة أنه يتباهى في خطابه بأنه لم يستشر أو يتحدث مع أحد قبل اتخاذه لهذه الخطوة/المشروع. وفي المقابل، وبالرغم من أنها خطوة فردية، يتحدث باسم الشعب المصري كله، في لحظة لم تكن شعبيته تسمح بهذا التمثيل لكل الشعب بعد انتفاضة يناير 1977. بل إنه يتحدث في بعض المواقع باسم الشعب العربي بأكمله.

فتكون النكتة أنني أتيت لكم دون أن أستشير أحدًا، في خطوة لم يفهمها أحد، لكنني أتحدث باسم المجموع، وعلى هذا المجموع أن يتبعني! يقول السادات لأعضاء الكنسيت إن القضية الفلسطينية، التي يفصلها عن القضية العربية ويسميها في إحدى المرات بـ"المشكلة"، هي جوهر الصراع، وإن لم تُحل فلن يكون هناك سلام. إلا أنه لم يتحاور مع أصحابها فيما يفعله قبل أن يفعله، مطلوب منهم فقط أن يتبعوه!

ولأن الفهلوة والنرجسية اكتسبتا صورة البرجماتية السياسية التاريخية التي ستغير شكل العالم، نستطيع فهم افتقاد السادات للخجل من إخراج نتيجة الاستفتاء الشعبي يوم 19 أبريل/نيسان 1979 على معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، بالصورة الشمولية الكاريكاتيرية المعتادة: 99.9% مؤيدون.

بطل الحرب والسلام والإرهاب

إعادة إحياء الإرث الساداتي، أو الحديث عنه باعتباره بطلًا للحرب والسلام، تراعي عادة الترتيب الزمني؛ كان بطل الحرب، ومع انتهاء زمن الحرب أصبح بطل السلام. والقيمة المطلقة هنا عند هؤلاء الذين لا يطيقون العنف السياسي، هي السلام. وهم قادرون على تجاهل العنف الإسرائيلي، باعتباره شيئًا بغيضًا ولكنه قَدَري، ليتوقفوا أمام ما يسمونه بـ"الإرهاب الفلسطيني" لأنه يزيد المشكلة. فيكون بطل الحرب والسلام هو النموذج النقيض المطلوب.

لا يمكن وصم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب ونحن نتحدث عمن شارك مثل السادات في اغتيال وزير مصري

بينما هذا البطل كان بطلًا للإرهاب أيضًا، قبل وبعد كل من الحرب والسلام. بطل ارتبط بعدد من المنظمات السرية قبل 1952، بحثًا عن دور مستقبلي حين أدرك بحدسه أن تغييرًا ما سيحدث. ولم يشغله تعارض توجهات هذه المنظمات فيما بينها؛ الضباط الأحرار، الحرس الحديدي التابع للملك، مصر الفتاة، الإخوان المسلمون، ومجموعات جواسيس النازيين.

المثير هنا أن هذه الصفحة من حياته، التي تباهى بها كبطل وطني/ثوري بعد توليه الرئاسة، هي الصفحة التي يتجاهلها أنصاره والساعون لإحياء إرثه. وهم لا يملكون سوى تجاهلها، فلا يمكن تصوير المقاومة الفلسطينية باعتبارها إرهابًا لأنها وجهت سلاحها لدولة الاحتلال الاستيطاني، فيما نتحدث عن إرهابي شارك في اغتيال وزير المالية، المصري مثله، والقيادي في حزب الوفد، أمين عثمان عام 1944.

ربما يرد البعض على استدعائي لهذا الاغتيال بأنه حدث في سياق تاريخي آخر ومعايير مختلفة. لكن ذلك ليس صحيحًا. فالاغتيال السياسي اعتُبر إرهابًا منذ بدايات القرن العشرين على الأقل. وفي الأربعينيات التي شهدت عملية الاغتيال، كانت الكثير من الأدبيات السياسية المصرية الجادة ترفضه كأسلوب للتحرر من الاحتلال البريطاني.

ولكن لنفترض أني مخطئ في هذا الاستدعاء، فماذا نقول إذًا عن إحياء بطل السلام للمجموعات الجهادية، أثناء تحوله إلى بطل للسلام، بتمويلها وتسليحها لتواجه اليسار بالعنف في الجامعات والأحياء. أليس هذا إرهابًا؟! أم أن الإرهاب يصبح مقبولًا إذا جاء بقرار من الدولة، مثل إرهاب الدولة الإسرائيلية؟!

في مواجهة إرهاب الدولة ربما تنفع المحافل القضائية، لكن في مواجهة إرهاب دولة الاحتلال، لا تنفع سوى المقاومة بكل أشكالها. ربما لم تمتلك هذه المقاومة صباح 7 أكتوبر أفقًا واضحًا إلى أين هي ذاهبة. لكن نقيضها الساداتي مسؤول عما آلت إليه الأحوال، ومسؤول عن الإخلال بتوازنات القوى، بتنازله عن كل الآفاق سوى ذاته، وبإخراج مصر الرسمية من معادلة صراع من المستحيل إخراج المجتمع المصري منها للأبد.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.