نتجوَّل بين صفحات بعضنا البعض على السوشيال ميديا، نبحث عن خبر جديد أو موقف سياسي يمنحنا بعض الأمل. نقلق لو احتفل أحدنا بشيء يخصّه في هذه الأيام، أو إذا غيَّر أحدهم صورته على فيسبوك أو إنستجرام ليضع صورة شخصية بدلًا من شارة الحداد السوداء المصحوبة بعلم فلسطين.
صحيح أنه قلق مبالغ فيه، لكنه مبرر، ويتضخم أكثر حين يتعلق الأمر بآراء مختلفة، فنحن في زمن سيادة الدم، والحياد في هذه الأزمنة في جوهره مساواة بين القاتل والمقتول، المحتل والمقاوم.
هذه المبالغة المشاعرية تليق بهذه الأيام، حيث كل الأشياء حولنا مبالغ فيها، كحجم المجزرة الحاصلة والاستسلام العربي الرسمي الكامل لها. ومبالغ فيه أيضًا مدى التناقض بين مشاهد الاحتجاج الشعبي في مدن العالم ورفعها شعار "الحرية لفلسطين" من جانب، وعلى الجانب الآخر حالة الخوف الشعبي العربي من التعبير عن الغضب، العائد بدوره للقمع المبالغ في قسوته الذي ذقناه من أنظمتنا خلال الأعوام الأخيرة.
ومبالغ فيه كذلك ترحيب الكثير من الحكومات والقوى السياسية الأوروبية بالمجزرة، بل والتشجيع عليها أحيانًا، وتصوير حماس وكأنها داعش، وهذا الغياب المريب لأي أسئلة جادة حول موقف الولايات المتحدة الأمريكية المشجع على المزيد من الدم.
القلق الشخصي السائد بيننا خلال الأسابيع الأخيرة لا علاقة له بأيِّ رغبات شخصية في المزايدة السياسية أو الأخلاقية، وهما معتادتين في ظروف سابقة، بل قلق حقيقي، من أن ننسى أو أن نعتاد على المجزرة، أن تتحول لخبر يوميٍّ عاديٍّ. والقلق الأكبر نابع من وعينا بأنَّ هذه المعركة هي الأكبر منذ سنوات طويلة، وستحدد مسارنا ومسار المنطقة، وأن علينا أن ننتصر فيها، أن ننتصر على الأقل بألا نُمكِّنهم من أن يفرضوا ما كانوا يفرضونه قبل عملية المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر.
السادات كمفتتح
صورة للرئيس السابق أنور السادات مبتسمًا. شيء عاديٌّ جدًا، لكنها كانت محرَّك كتابة هذا المقال. نشرت الصورة إحدى الصديقات في بدايات مجزرة غزة، مع تعليق من جملة واحدة "الله يرحمك أنت اللي إدتهم على قفاهم".
أزعجتني الصورة وكذلك التعليق، خصوصًا أنها تزامنت مع عملية مقتل السياح الإسرائيليين في الإسكندرية، وطرح البعض آراء يمكن تلخيصها بأننا جميعًا، كشعب مصري، أعطينا السياح الإسرائيليين الأمان، وأنَّ الاتفاقيات بين مصر وإسرائيل لا تلزم النظام وفقط، بل تلزم الشعب الذي وافق عليها عبر العقود الماضية، وكأن الشعب سُئِل فعلًا عن موقفه ورأيه!
وأزعجتني الصورة مع التعليق أكثر، لأنني أرى العكس تمامًا، أنَّ السادات، عبر الخطوة الأولى التي اتخذها بزيارة الكنيست الإسرائيلي وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، ومن ثمَّ إخراج مصر، بكل ثقلها وأهميتها، من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، هو من افتتح رحلة الانهيار، التي أوصلت عبر سنين طويلة لمجزرة غزة الحالية، ومنحت الكثير من الأنظمة ووسائل الإعلام القدرة على تصويرها وكأنها عادية.
لكن هناك ما هو أبعد من الانزعاج؛ نفي الحقائق التاريخية بعد عملية 7 أكتوبر، التي بدت في توقيتها وكأنها احتفاء "رمزي" من المقاومة الفلسطينية، بالذكرى الخمسين لعبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف. هذا العمل البطولي للجنود والضباط المصريين، وقادة جيشنا وعلى رأسهم الراحل الفريق سعد الدين الشاذلي. هؤلاء الذين خاضوها كحرب تحرير للأراضي المحتلة، على عكس السادات الذي أرادها حرب تحريك، حربًا محدودة للوصول لمائدة التفاوض، وافتتاح مسيرة التنازلات المتتالية التي ستترك الفلسطينيين بمفردهم.
عليَّ وعلى الجميع، من حين لآخر، مراجعة مذكرات وكتابات السياسيين والعسكريين المؤثرين في عقد السبعينيات، لنتذكر ما حدث ولا ننساه. وعلينا كذلك مراجعة مواقف السادات ومصر الرسمية تجاه الاعتداءات الإسرائيلية المتتالية بعد بدء مسار التفاوض ونهج كامب ديفيد، بداية من عملية الليطاني في جنوب لبنان، التي أرادتها إسرائيل تأديبًا للمقاومة الفلسطينية، واختبارًا لمدى مبالاة السادات باحتلالها أراضٍ عربية جديدة، وصولًا لمجزرة غزة اليوم، مرورًا باستمرارية النظام المصري في لعب دور المتفرج، أو الوسيط التفاوضي أحيانًا بين حماس وإسرائيل في "الأزمات" المتتالية.
علينا الرجوع قليلًا للوراء لنتذكر الخلفية السياسية لعملية 7 أكتوبر ونتخيل دوافعها، وقد جاءت غالبًا لإجهاض "الساداتية" بعد تعميمها بابتذال أكبر مما كانت تعنيه في السبعينيات. فعشية هذه العملية، التي لا تتوقف بكل تأكيد عند هدف تبييض سجون الاحتلال الإسرائيلي من الأسرى الفلسطينيين، كان الحديث قد أصبح مكشوفًا وعلنيًا، ورسميًا أيضًا، عن قرب توقيع اتفاقيات بين إسرائيل والسعودية، هذا البلد الذي امتلك بجدارته المالية والنفطية وسطوة رائحتهما ريادته في المنطقة، بعد تدمير العراق وسوريا، وتدمير مصر اقتصاديًا واجتماعيًا ومعنويًا، عبر نظامها الذي اختار التبعية الكاملة للخليج.
المصير العربي فلسطينيًا
كان التحول إلى هنود حمر جدد يعيشون في مجتمعات مغلقة تشبه الأقفاص الزجاجية، هو المصير الفلسطيني "المفترض" في ظلال بانوراما أنظمة عربية تتسابق للصلح والتعاون مع العدو الإسرائيلي، وتسلم بسيادته العسكرية، دون أن تطلب مقابلًا ولو هزيلًا للشعب الفلسطيني.
كنا سنمارس فعل الفرجة عليهم كحيوانات قاربت على الانقراض، منزوعي السلاح والأسنان، في غزة، أو الضفة الغربية المحاصرة بالمستوطنات الإسرائيلية وجدران الفصل العنصري، أو مخيمات الشتات. وستمنحهم الحكومات العربية القادرة ماليًا بعض الهبات والفتات والحسنات سنويًا، لرعاية من بقي منهم كآثار في متحف ينتمي لزمن فات ولن يعود.
كان هذا المخطط المرسوم للفلسطينيين قبل 7 أكتوبر، وهنا نستطيع أن نرى عملية المقاومة كمغامرة قصوى، أو قفزة للأمام، إما أن نكون أو ننتهي للأبد. إما أن يُهزم الفلسطينيون ويتكرس المستقبل المرسوم لهم، أو أن يجهضوا كلَّ هذا المسار. ومن هذه الزاوية نفسها نستطيع إدراك مستوى الدموية والتدمير الإسرائيلي، فمستقبل الكيان في المنطقة، ومستقبل أنظمة التطبيع، أصبحوا أيضًا على المحك.
المعركة خارج غزة هي انعكاس ما يحدث داخلها؛ فإما مجتمع مستسلم أو مجتمع جديد مقاوم ومواجه
هل تقلقنا صورة شخصية على فيسبوك؟ بالطبع لا، فالصور الشخصية غير قادرة على إثارة القلق. ليست مسألة صور شخصية، أو آراء متباينة، بل مسألة مصير، فهذه المعركة ستحدد كثيرًا من مستقبلنا. ولنتوقف عند مستوى النخب الثقافية والفنية، المفترض بها تشكيل وجدان الناس ووعيهم.
التعامل بعادية مع المجزرة، أو تجاهلها، واستمرار الإيقاع الطبيعي للإنتاج المهرجاناتي بصوره المختلفة، يسير أيضًا في طريق تطبيع عملية التطبيع مع العدو، والتعاون معه. وكلمة "مهرجاناتي" هنا للتحقير من هذا النوع من المنتجات التي تُسوَّق باعتبارها ثقافة وفنًا، في حين أنها منتجات للاستهلاك السريع باحتفالية لا مبرر لها.
جانب من جوانب التطبيع مع العدو هو أن نتحول على المستوى العربي لمجموعة من منتجي ما تقرره الأقطاب المالية في الخليج في رحلة تعاونها مع إسرائيل. ومن سيتجاوب مع هذا المسار له كل شيء، ومن سيمتنع أو يرفض أو يعارض ليس له أي شيء.
ربما هي المذبحة الأولي التي تحدث في غزة لكنها ستحدد مسارنا ومستقبلنا جميعًا كعرب، مستقبلنا ليس فقط كمجتمعات وكتل، بل كأفراد أيضًا؛ نوعية عملنا، وطموحاتنا المستقبلية، وصولًا لتفاصيل حياتنا اليومية.
المعركة خارج غزة هي هذه المعركة تحديدًا، وهي انعكاس ما يحدث داخل غزة، وانعكاس سؤال أيٍّ من الطرفين سينتصر، وأيِّ مجتمع عربي سيدفع باتجاهه الطرف المنتصر؛ إما مجتمع مستسلم يقوده البترودولار المتعاون مع إسرائيل، ننسى فيه أبجديات الاستقلال والمصالح الوطنية والقومية، وننظر للفلسطينيين باعتبارهم حفريات قديمة، أو أن تعود القضية الفلسطينية لتشكل المفصل الحقيقي والأساسي في مجتمع جديد مقاوم ومواجه، مجتمع يسعى للعدل والحرية في غزة، والضفة الغربية، والداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، ومخيمات الشتات، وفي كل مدننا وقرانا العربية.