اعتاد السادات أن يفتعل لحظات غضب وأستاذية أمام فريقه، مثلما فعل مع نبيل العربي عند توقيع اتفاق كامب ديفيد، وإهانته وزارة الخارجية بأكملها، كما أشرت في المقال السابق. وفي أوقات أخرى، كان يستخدم انفعالاته المسرحية ليَظهر في صورة الضحية، لكنه ضحية ذات سمات خاصة، لأنه عبقري لا يقدِّر الآخرون عبقريته، عدا الأمريكيين.
التمجيد الذاتي للعبقرية التي لا يُقدِّرها المحيطون به، يصاحبه وصفُ هؤلاء بأنهم لا يفهمون في السياسة. فبقراءة مذكرات إبراهيم كامل، وما كتبه لطفي الخولي عن مقابلاته مع السادات، ومحاورات أحمد بهاء الدين مع الرئيس، ومذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي عن حرب أكتوبر، وغيرها، يبدو بوضوح أن السياسة عند السادات لا تخرج عن ثلاثة مفاهيم أساسية متلازمة: الفهلوة، والمؤامرة، والتلوث.
وربما لذلك تحديدًا كان يشعر بأنه أقدر سياسيًا من كل الآخرين، مستندًا لتميزه عنهم في التلوث والفهلوة، ما مكَّنه، بالمناسبة، من التخلص ممن أسماهم "مراكز القوى"، وكانوا أقوى منه. أما شغفه بالمؤامرات فأوصله لدرجة أن يتصور في صيف 1978 أنه قادر على إحداث شقاق داخل إسرائيل، فيُسقط بيجن بالتعاون مع وزير دفاعه وايزمان، ليصبح شيمون بيريز رئيسًا للوزراء، فيوقعان سويًا اتفاقًا للسلام. فكان يمنح مثل هؤلاء، وايزمان وبيريز، تنازلات في لقاءات منفردة معهم، متصورًا أنه يكسبهم. فينقلاها لبيجن ليستخدمها ضده.
في مذكرات إبراهيم كامل، يلمس القارئ بوضوح حُسن النية الذي اتصف به وزير الخارجية الجديد، وربما قدرًا من البراءة، وربما السذاجة، وكيف يتناقض مع تلوث أداء السادات والروح المؤامراتية التي حكمته. وبالإضافة إلى هذا التناقض، المحاولات المستمرة لتقزيم من يحيطون به، وانتقاد فريقه المفاوض والتحدث عنه سلبًا أمام الإسرائيليين والأمريكيين. أن يشعر الجميع بالخوف منه وبالضآلة أمامه. وهو الأسلوب الذي نجح مع أغلبهم، ولم ينجح مع إبراهيم كامل.
تظهر هذه اللعبة عندما نضع لقطة اللقاء الأخير بين كامل والسادات في واشنطن، بعد يومين من توقيع كامب ديفيد، في مواجهة مشهد لقائهما الأول قبلها بثلاثين عامًا، في اجتماع سري قبل سجنهما سويًا في قضية أمين عثمان.
في هذه الاجتماع، حرص السادات على الإيحاء لشباب الحزب الوطني الأصغر منه سنًا، بأنه داهية سياسي، ثم اختفى وقت العملية. وفي لقاء اللقطة الأخيرة، حين أصر إبراهيم كامل يوم 19 سبتمبر/أيلول 1978 على الاستقالة احتجاجًا على اتفاقية كامب ديفيد، والعودة إلى مصر بمفرده، عرض عليه السادات رشوة لشراء صمته، وإن لم يُسمِّها الوزير المستقيل رشوة في مذكراته، مُلحًا عليه أن يختار أي بلد في العالم ليكون سفيرًا به. فيضمن السادات بذلك ألَّا يروي إبراهيم كامل رحلته مع سنة التفاوض، فلا يصدر بالتالي الكتاب الذي نحن بصدده.
لكنه ليس وقت القفز إلى مشهد كامب ديفيد. فلنعد للوراء قليلًا، فمشهد الاتفاقية موضوع المقال المقبل.
العدو/الصديق يسكن التفاصيل
انتهت الجولة الأولى من المفاوضات بين السادات وبيجن في الإسماعيلية بالفشل، نتيجة رفض الطرف المصري للمشروع الذي قدمته إسرائيل، وترفض فيه الانسحاب من الأراضي المحتلة، باعتبارها أرضًا اكتسبتها إسرائيل دفاعًا عن النفس، وتتمسك بمستوطناتها ومطاراتها في سيناء، بما ينتقص من السيادة المصرية عليها.
لكن رغم هذا الفشل، تشكلت الاستراتيجية المصرية بصورة أفضل بعد الإسماعيلية بأيام، بفضل فريق العمل في وزارة الخارجية، الذي أصر على أن موضوع التفاوض الوحيد هو إعلان مبادئ شامل، يعتمد على ثلاثة محاور.
المحور الأول سيناء وما يخصها من إجراءات، والسيادة المصرية الكاملة عليها، وهذه ليست محل نقاش وتفاوض. والمحور الثاني شمولية العملية، بحيث يتبع إعلان المبادئ توسيع لعملية التفاوض بدخول سوريا والأردن والفلسطينيين، ونهاية الظن بأن مصر ستوقع اتفاقًا منفردًا. أما المحور الثالث، فهو القضية الفلسطينية، بكل ما تشمله من وضع الضفة وغزة والمستوطنات والضمانات الأمنية وشكل التمثيل الفلسطيني وعلاقة الضفة بالأردن، إلى آخر هذه المسائل، وفي القلب منها ما لا يقبل التنازل بدوره؛ حق العودة والتعويض للاجئين، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، والدولة الفلسطينية المستقلة.
في مواجهة هذه الاستراتيجية، نجح الإسرائيليون والأمريكيون في فرض تكتيك مضاد، يعتمد على خلط كل القضايا ببعضها بأكبر درجة ممكنة، لتتعقد وتتشعب بالتفاصيل الكثيرة. فيكون على الجانب المصري أن يتفاوض على كل شيء، بما فيه البديهيات، مثل الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة وفق القرارات الأممية. بل ويتفاوض كذلك على المطارات والمستوطنات الإسرائيلية في سيناء. والأهم أن يتفاوض على المسائل التي تخص الأطراف الأخرى الغائبة عن عملية التفاوض؛ سوريا والأردن والفلسطينيين، والمفترض أن ينضموا للعملية السلمية بناء على تصورات إبراهيم كامل.
غرق الفريق المصري في بحر التفاصيل المتشعبة. ووقع الانفصال بين المحاور الثلاثة بداية من الإسماعيلية في ديسمبر/كانون الثاني 1977، بعكس ما أعلنه السادات في خطاب القدس، الذي أكد فيه أنه حضر "لبيتهم" من أجل سلام شامل، وأن جوهر المشكلة هو القضية الفلسطينية، وبدونها لا حل ولا سلام. لكن "توهان" الطرف المصري لم يحدث بسبب فريق الخارجية، بل بسبب السادات، سواء بوعي منه وبنيِّةٍ واتفاق مسبق مع أصدقائه، أو بسبب جهله وعشوائيته ونرجسيته.
قَبِل السادات في الإسماعيلية نسف إعلان المبادئ الشامل من الأساس، بقبوله أن تكون هناك لجنتان؛ واحدة سياسية، والأخرى عسكرية لشؤون الأمن. تجتمع الأولى برئاسة وزيري الخارجية في القدس، والثانية برئاسة وزيري الدفاع في القاهرة، مُقرًّا بحضور التفاصيل قبل ما هو شامل، ومعترفًا من جديد بأن القدس تكافئ القاهرة وتوازيها؛ عاصمة للإسرائيليين، لا أرضًا محتلة.
اضطر إبراهيم كامل للقبول، وظلت وزارتا الخارجية المصرية والإسرائيلية تتبادلان عبر السفارة الأمريكية في القاهرة جداول أعمال متناقضة لاجتماع اللجنة السياسية الأول في القدس. وبقراءة مذكرات وزير الخارجية، نفهم بوضوح أن الاستراتيجية المصرية اعتمدت على عرقلة هذا الاجتماع لتناقضه مع هدفها في التوصل لإعلان شامل قبل أي تفاصيل.
لغياب الاتفاق بينهما، أعدت الإدارة الأمريكية جدول اجتماع وسلمته للسادات مباشرة، دون أن يمر بوزير الخارجية. فوافق رئيس الجمهورية عليه، لمجرد أنه مقدم من صديقه كارتر، دون أن يناقش أحدًا في مضمونه. وفي الاجتماع التالي لمجلس الأمن القومي في بيت السادات، وكان الأول الذي يحضره إبراهيم كامل، يُخبر السادات الجميع بأن وزير الخارجية سيسافر إلى القدس بعد ظهر اليوم نفسه، ليمثل مصر في اجتماع لم يُحضِّر له، ولم يطَّلع على جدول أعماله، بل لم يعلم به مسبقًا.
قصة اللجان نفسها، وبعيدًا عن بديهية رفضها، من ضمن المحطات التي تبين الفروق الأساسية بين الرئيس ووزير خارجيته. فإبراهيم كامل، ورغم فردية المبادرة، كان يرى إمكانية توسيع المسار لينتهي بحل شامل، يجذب إليه في مراحله المختلفة القوى العربية والفلسطينية والدولية، بشرط الإصرار على عدم التفاوض على التفاصيل والتمسك بإعلان المبادئ الشامل. في حين أن السادات لم يكن يعنيه سوى إنقاذ ذاته وفقط، دون النظر بأي شكل للعرب والفلسطينيين.
استعراضية التمهيد للصعود للمسرح
المثير للاهتمام، أن الوزير فوجئ منذ البداية بما سيدمر كل هذا المسار؛ إحساس مريض بالعظمة عند السادات، يصاحبه إحساس عميق بالضآلة والجهل، فيعوضهما بالبحث عن التقدير المستمر. وأتاه التقدير فعلًا من الأمريكيين وبعض الإسرائيليين. لعبوا على نرجسيته وفخره الطفولي بوصف "صديقي" الذي استخدمه عشوائيًا، بمناسبة وبدون مناسبة. فيكون كارتر وبيجن ووايزمان، وحتى موشى دايان الذي كان السادات يخبر فريقه بنفوره منه، جميعهم أصدقاءه. أما الأسوأ، فهو أن يتحدث مع هؤلاء الأصدقاء ضد أعضاء فريقه نفسه، ويقلل منهم، ويسميهم "أبناءه".
ولأن السادات كان يفتتح أي اتصال أو خطاب أو جلسة تفاوض بتمجيد مبادرته الذاتية بالذهاب للقدس، وكأنه ينتظر التصفيق قبل الصعود للمسرح، حرص الأمريكيون والإسرائيليون على بدء كلامهم معه دائمًا بتمجيد هذا الذهاب لإرضائه. لدرجة أن الصدام الوحيد، الناعم، الذي حدث مع صديقه كارتر في كامب ديفيد، كان لأن الرئيس الأمريكي وصف كلًّا من السادات وبيجن بأنهما رجلا سلام. فغضب السادات قائلًا إنه هو من ذهب للقدس، وليس بيجن.
توالت اللقاءات المنفردة والتنازلات التي يقدمها دون ثمن خلال دردشاته مع أي طرف، بمن فيهم من لا يتولون سلطة في إسرائيل، مثل شيمون بيريز. مما أدى، حسب وصف إبراهيم كامل، لأن يذهب السادات في النهاية لكامب ديفيد "عاريًا"، دون أي ورقة ضغط أو مساومة أو خطوط حمراء. فكل شيء حدث فعليًا؛ تنازلات متتالية، خسارة مصر لعمقها وامتدادها الأهم بمقاطعة دول عربية لها، ومن لم يقاطعوها فترت علاقاتهم الرسمية بها، وذلك كله بسبب صبيانية السادات وإهاناته المتكررة لهم بلهجته القومية المصرية المتعالية.
فبينما يجتمع وزراء الخارجية العرب في القاهرة أثناء الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان في مارس/آذار 1978، يدعو السادات وزير الدفاع الإسرائيلي لزيارته في مصر، دون داعٍ أو مناسبة. وبينما تُهان الدول العربية باستضافة عزرا وايزمان، الذي يعتدي جيشه على لبنان، في عاصمة مصر، تشن الصحف المصرية بتعليمات من السادات حملة ضد حافظ الأسد، لأنه لا يتصدى بقواته الموجودة في لبنان، تحت مظلة قوات الردع العربية، للغزو الإسرائيلي.
الطريف أن السادات في هذا الاجتماع الذي دعا إليه وايزمان، أعطى الكثير لإسرائيل، أكثر مما كانت تتوقعه، ودون داعٍ. فحسب مذكرات الوزير الإسرائيلي، تنازل السادات يومها عن مطلب الدولة الفلسطينية المستقلة، وأقر بالمستوطنات في الضفة وغزة، وتبعية الضفة للأردن، وأعلن نيته في توقيع الاتفاق بدلًا من الأردنيين إن رفضوا التوقيع.
لم تنحصر المسارات الانفرادية والموازية والسرية، بعيدًا عن وزارة الخارجية، في شخص السادات. بل أنه بارك مبكرًا فتح المسارات الموازية عبر سيد مرعي رئيس مجلس الشعب، وحسن التهامي، متخليًا تدريجيًا عن أي حديث عن الجولان، والدخول في لعبة مساومات نرجسية، وصلت لاحقًا، في المشهد الأخير، لتضخم شعوره بالعظمة، وتصوره بأنه قادر على حكم الضفة وغزة بدلًا من الأردن والفلسطينيين، وصولًا لتوقيع ما لا يرضاه الفلسطينيون، وأقل بكثير من الحد الأدنى الذي حددته مصر منذ البداية.
بالتوقيع على الاتفاقية بصياغتها الأخيرة، التي وضعها أسامة الباز تحت إشراف الرئيس الأمريكي، افتتح السادات نكبة جديدة للفلسطينيين، عنوانها العريض أن أكبر دولة عربية تنازلت عن قضيتهم وشوهتها. حتى القدس لم تسلم من تنازلاته المجانية، فاختصرها، دون أن يعرف ولو خريطتها، في اجتماع مع شيمون بيريز في النمسا، ثم اجتماع تالٍ مع السكرتير العام للأمم المتحدة في نفس الزيارة، ولاحقًا في مفاوضات كامب ديفيد، بعدة تصريحات يقبل فيها بميلٍ مربع واحد من العاصمة الفلسطينية، يرفع عليه أي علم عربي أو إسلامي، مختصرًا بأمنيته المدينة، بكل ما تحمله من ثقل في الصراع العربي الإسرائيلي، في ميل مربع واحد، يضم غالبًا المسجد الأقصى وبعض الحارات المحيطة به.