قبل ساعات من مغادرة الوفودِ المتفاوضة منتجعَ كامب ديفيد باتجاه البيت الأبيض في واشنطن، يوم 17 سبتمبر/أيلول 1978، لتوقيع المعاهدة، وبينما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يضيف تعديلاته الأخيرة على الاتفاق، أقنع الرئيس الأمريكي نظيره المصري، لحفظ ماء وجهه، بتسجيل تصوراته لحل مشكلة القدس في خطابات متبادلة بين الأطراف الثلاثة، تتضمن مواقفهم المختلفة من المدينة. استجاب السادات للفكرة، وبدأ في تبادل خطابات، على عجل، مع بيجن وكارتر.
في ساعات الفوضى الأخيرة تلك، اطلع المسؤول عن الجانب القانوني في الوفد المصري حينها، الدبلوماسي والسياسي الراحل نبيل العربي، على هذه الخطابات. فذهب لينبه وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل أنها بلا أي قيمة قانونية. ولأن إبراهيم كامل الذي استقال من منصبه قبل ساعات، وافق على طلب السادات بأن تظل استقالته سرًا حتى العودة، لم يخبر نبيل العربي بها، بل أقنعه بالذهاب إلى السادات بنفسه ليخبره برأيه القانوني. فذهب العربي إلى مقر إقامة السادات في المنتجع.
يحكي محمد إبراهيم كامل في مذكراته السلام الضائع في كامب ديفيد، أن العربي عاد إليه بعد نصف ساعة فقط، ليحكي له ما دار في لقائه السريع مع السادات؛ عندما وصل إليه، وجد عنده بيجن يهنئه بتوصلهما لاتفاق سلام، فكان عليه الانتظار حتى انصرف، ثم دخل وطلب أن يقول رأيه القانوني في هذه الخطابات.
استمع السادات حتى انتهى العربي من شرح وجهة نظره، ثم أجابه بالتالي؛ "لقد استمعت إليك كما رأيت دون مقاطعة من أجل ألا يقول أحد إني لا أستمع ولا أقرأ كما يشيعون عني. ولكن اعلم أن كل ما قلته لي قد دخل من أذني اليمنى وخرج من أذني اليسرى. إنكم في وزارة الخارجية تظنون أنكم تفهمون في السياسة ولكنكم لا تفهمون شيئًا على الإطلاق، ولن أعير كلامكم أو مذكراتكم أي التفات بعد ذلك. إني رجل أعمل وفقًا لاستراتيجية عليا لا تستطيعون إدراكها أو فهمها، ولست في حاجة إلى تقاريركم السفسطائية الهائفة، (...)، تفضل الآن بالانصراف ولا تعودوا لتتعبوا رأسي وتضيعوا وقتي بأسانيدكم القانونية الفارغة".
في محل النقاط التي وضعتها منتصف النص، زيادات لا تتعلق بوجهة نظر السادات في وزارة الخارجية المصرية، بل مجرد كلام عن "صديقه" كارتر، وعن محمد حسنين هيكل الذي جمعته صلة نسب بالعربي. وكان السادات يرى أن هيكل يتآمر عليه لقلب نظام الحكم، فوعد العربي بقطع رقبة قريبه.
التليفزيون يخبرك بمصيرك
مشهد الخطابات القانونية هذا كان واحدًا من مشاهد الفصل الأخير لمسلسل طويل استمر عشرة أشهر، منذ زيارة السادات للقدس في نوفمبر/تشرين الثاني 1977، وصولًا ليوم 17 سبتمبر 1978، الذي وقَّع فيه الرئيس المصري اتفاقية كامب ديفيد، مختتمًا المسلسل بمشهد مشوق، ومهين له ولمصر، سأحكيه في الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة.
بالإمكان أن نقسِّم المسلسل لثلاثة فصول أساسية، أتناول في هذا المقال أولها، مقدمته؛ بداية التفاوض بناء على مذكرات إبراهيم كامل. ثم أتناول في المقال التالي مرحلة الوسط. لأختتمه بالحلقة الأخيرة؛ مؤتمر كامب ديفيد والتوقيع.
يستطيع البعض التشكيك في رواية محمد إبراهيم كامل. لكنها تكتسب مصداقيتها من عوامل عديدة، أهمها أن لا أحد ممن وردت أسماؤهم فيها شكك فيها عندما نشرت الطبعة المصرية منها للمرة الأولى في الثمانينيات، عبر سلسلة كتاب الأهالي. الدبلوماسيون والسياسيون نبيل العربي وأسامة الباز وأحمد ماهر وأحمد أبو الغيط، وغيرهم.
والتشكيك في رواية وزير الخارجية المستقيل ليس لها محل، لأن علاقته بالسادات لم يكن بها ما يستدعي أن يكذب، أو أن يشوه صورة رئيس الجمهورية. والأهم، دقة الوزير البالغة في تسجيل كل ما كان يحدث خلال توليه للوزارة، واستناد جانب مما يحكيه على ما نشره قادة إسرائيل المشاركون في عملية التفاوض.
سُجن كلاهما، السادات وإبراهيم كامل، سويًا لشهور في قضية اغتيال أمين عثمان عام 1946. وتوطدت علاقتهما في السجن. وبعد الثورة، تحديدًا في 1955، التحق إبراهيم كامل بالخارجية. عمل سفيرًا لمصر في عدد من البلدان، كان آخرها ألمانيا الاتحادية (الغربية)، حتى عُيِّن وزيرًا للخارجية. لكن قصة تعيينه تستحق الذكر، لما تعكسه من دلالات عن كيفية إدارة السادات ورجاله المقربين دولةً بحجم مصر.
لم يعلم سفير مصر في بلد بأهمية ألمانيا بخطاب السادات الذي أعلن فيه يوم 9 نوفمبر 1977 أمام مجلس الشعب استعداده للذهاب للقدس، إلا من الراديو، بعد ساعات من إلقائه، وقبل أن يذهب للنوم. ولم يعرف في اليوم التالي كيف يجيب أسئلة الخارجية الألمانية والسفراء العرب حول المبادرة، ونية السادات ومخططه، لغياب أي توجيهات من مصر.
لم تأتِ التوجيهات. وفي يوم سفر السادات إلى القدس، 19 نوفمبر 1977، استقال وزير الخارجية إسماعيل فهمي من منصبه. وتبعه في الاستقالة محمود رياض وزير الدولة للشؤون الخارجية. وتوالت سلسلة من الاستقالات في الوزارة احتجاجًا على المبادرة والزيارة، ممن رأوها كارثية.
وبينما يقضي إبراهيم كامل إجازته العائلية لاحقًا في القاهرة، وبعد أن عاشت البلد أسابيعَ قليلةً بلا وزير للخارجية، عرف من التليفزيون المصري خبر تعيينه وزيرًا، دون إخباره أو استشارته. وبعدها بساعات قليلة، وفي المساء، تلقى مكالمة من حسني مبارك نائب الرئيس، للتهنئة، ولإخباره بأنهما سيسافران سويًا صباح اليوم التالي للإسماعيلية، لبدء المفاوضات بين السادات وبيجن. دون أن يستلم الوزير حقيبته الوزارية ومنصبه رسميًا، أو يطلع على أي ملفات تتعلق بهذا التفاوض.
صديقي بيجن.. صديقي كارتر
في الإسماعيلية، كان السادات منتعشًا وسعيدًا بمبادرته وببدء ما لم يفعله أحد قبله؛ التفاوض مع بيجن. لكن كان على وزير خارجية مصر الجديد أن يحلف اليمين. فاقترح السادات أن يشارك بيجن في مراسم القسم. إذ كان يصفه وقتها بـ"صديقي بيجن"، مُعتبرًا أن السلام تحقق فعلًا. فلا مانع إذًا أن يُقسم الوزير الذي ستكون مهمته الدفاع عن مصالح مصر سياسيًا ودبلوماسيًا أمام من لا يزال عدوه، على الأقل رسميًا وقانونيًا.
نتيجة فزع إبراهيم كامل من الفكرة ورفضها بحسم، ارتجل السادات مراسم القسم في الغرفة نفسها التي يجلس فيها مع بيجن ووفده الإسرائيلي، وبحضورهم، وإن لم يشاركوا فيها رسميًا. أقسم الوزير فعلًا بحضور عدوه، ليتوجه بعدها فريق العدو إليه، ويهنئه بمنصبه الجديد الذي يضعه خصمًا لهم في المفاوضات.
لم يتبنَّ إبراهيم كامل موقف سلفه المستقيل، وغيره من السياسيين، بشأن المبادرة وتوقيتها، واعتراضهم على أن يزور الرئيس المصري إسرائيل في وقفة عيد الأضحى، وأن يصلي في القدس، ويخطب في الكنيست في اليوم التالي، واعتبارها كارثة على العرب. بل كان موقفه منها إيجابيًا، وتصور أن بإمكانها بالفعل تحقيق سلام شامل، بشرط كفاءة الفريق المصري في إدارة عملية التفاوض.
لكن هذا الموقف الإيجابي للوزير لم يطغَ على قلقه من عشوائية السادات، ومن أن الأفكار تأتي لذهنه في لحظة، تستهويه، فينفذها دون دراسة. فلم يكن يعلم وقتها أن المبادرة لم تكن عشوائية، أو نتيجة لـ"عبقرية" السادات مثلما كان يروج عن نفسه، بل نتيجة اتصالات سرية رعاها الملك الحسن في المغرب، بين وزير الخارجية الإسرائيلي موشى ديان، وحسن التهامي نائب رئيس الوزراء المصري، وصديق السادات المقرب وزميله السابق في تنظيم الضباط الأحرار، وأحد أعمدة "الهزل" في السلطة، الذي عُرفت عنه الشعوذة، والتحدث عن غيبيات باعتبارها مسلمات، واشتهر بتصريحاته وتنبؤاته الغريبة.
يعترف إبراهيم كامل في مذكراته بأن المبادرة في حد ذاتها أضعفت الجانب العربي. فبعد حرب أكتوبر، تحسن وضع مصر والبلدان العربية مقارنةً بإسرائيل. اكتسب الجانب العربي عوامل قوة واضحة من عبور القناة، وتدمير نظرية الردع الإسرائيلي، وحظر البترول، وتحققت حالة من الالتفاف والتضامن العربي حول مصر ومعها. وهو ما دفع المجتمع الدولي للإعداد، ولو ببطء، لمؤتمر جنيف للسلام.
كان مؤتمر جنيف هو المسار الذي اتفقت عليه الدول العربية بعد الحرب، رغم بعض الخلافات بين القاهرة ودمشق بخصوصه، أساسًا فيما يتعلق بطبيعة تشكيل الوفود. فبينما أراد حافظ الأسد وفدًا عربيًا موحدًا يضم الجميع، رأى السادات أن تذهب ثلاثة وفود عربية منفصلة؛ سوريا ومصر والأردن، على أن تُضمَّن منظمة التحرير الفلسطينية في الوفد الأردني، ما كان يتفق مع الرغبة الإسرائيلية، رغم أن المنظمة وقتها كانت قد حظيت باعتراف دولي واكتسبت صفة المراقب في الأمم المتحدة.
أجهَضت مبادرة السادات بالذهاب منفردًا إلى القدس مسار جنيف، وأحدثت انقسامًا في الجانب العربي، ومقاطعة بعض دوله لمصر. فأحد الأطراف الأساسية يريد التفاوض المباشر دون استشارة الآخرين، الذين عليهم بالتالي أن يتبعوه، بالتفاوض بدورهم مع إسرائيل، إن أرادوا، منفردين. ولأن المبادرة كانت مجانية، فقد فتحت الطريق أمام دول آسيوية وإفريقية لإعادة علاقاتها مع إسرائيل، بعد أن قطعتها تضامنًا مع مصر. بمجرد قيام السادات بالزيارة كُسرت عزلة إسرائيل، التي كانت أهم عامل ضغط عليها.
لا مكان لسوء النية بين الأصدقاء. ورغم الضربات المتتالية التي تلقاها السادات خلال مسار المفاوضات من صديقيه كارتر وبيجن، وتغيير التزاماتهما طيلة الوقت، كان يصر على الصداقة والثقة، فيذهب لكل جولات التفاوض دون أوراق أو تحضير أو استراتيجية واضحة. وإن صاغ فريق الخارجية استراتيجيات وتصورات وبرامج، كثيرًا ما كان يتجاهلها، أو يتجنب أن تُعرض عليه، أو أن يقرأها.
وفي الوقت الذي وطد فيه الصداقة مع الخصم/العدو، كان يُشهر احتقاره للعرب، ويتخذ خطوات تنهي علاقة مصر بهم. فينعزل عن محيطه العربي تدريجيًا، ثم ينعزل عن فريقه نفسه، داخلًا في سراديب التفاوض والتنازلات السرية كفردٍ، بطلٍ، فرعون.