يوم توقيع الرئيس المصري الراحل أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل مناحم بيجين معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في البيت الأبيض، بحضور الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، أصدر روح الله الموسوي الخميني، مرشد الثورة الإيرانية، بيانًا مقتضبًا يدين فيه بشدة تلك التسوية، ويعتبرها "محض خيانة للإسلام والمسلمين"*.
قبلها بنحو شهر، ورغم استقبال السادات لشاه إيران محمد رضا بهلوي في لحظة انهيار نظامه، أعلنت القاهرة اعترافها بنظام وحكومة الجمهورية الإسلامية بعد أيام على انتصار الثورة هناك في 11 فبراير/شباط، داعيةً إلى "استمرار وتعزيز العلاقات بين البلدين والشعبين الشقيقين في جميع المجالات"، حسب خطاب رسمي وجهه رئيس الوزراء المصري مصطفى خليل إلى نظيره الإيراني مهدي بازركان في 17 فبراير من العام نفسه.
لم يتعامل نظام الخميني مع مبادرة القاهرة بإيجابية، بل أخذ يدفع نحو التصعيد والمواجهة مع نظام السادات الذي كان منخرطًا في مفاوضات كامب ديفيد مع إسرائيل برعاية أمريكية، واستقبل الشاه الذي خلعته الثورة، متجاهلًا تحذير الخارجية الإيرانية للسفير المصري في طهران سمير صفوت من أنَّ "دعوة بهلوي للإقامة في مصر ستترك آثارًا سلبية على العلاقات بين البلدين في المستقبل".
من يملأ الفراغ المصري؟
بعد ساعات قليلة من توقيع السادات معاهدة السلام مع تل أبيب، في 26 مارس/آذار، أصدر الخميني بيانه المشار إليه أعلاه، معتبرًا أن تلك المعاهدة تمثل "خطرًا داهمًا ومحدقًا وجادًا على الشرق الأوسط"، متهمًا الرئيس المصري بـ"التبعية للإدراة الأمريكية الاستعمارية".
ولأنَّ الخميني كان يرى في انحسار الدور المصري في الشرق الأوسط مساحةً للتمدد، بما يسمح له بتصدير مشروعه الثوري إلى دول الجوار العربي وصناعة نفوذ يجعل من بعض العواصم العربية خط الدفاع الأول عن الجمهورية الإسلامية، أعلن الرجل انحيازه للدول العربية التي شكلت ما عرف حينها بـ جبهة الرفض، وأيد كل الخطوات التي انتهت إلى عزل مصر عربيًا وتعليق عضويتها بالجامعة العربية؛ "نؤيد الموقف السياسي للبلدان العربية التي تعارض هذه المعاهدة، ونعتبر أنفسنا على درب واحد مع الأخوة مسلمي الدول العربية".
وفور صدور بيان الخميني ضد المعاهدة المشؤومة، اندلعت في طهران وبعض المدن الإيرانية مظاهرات غاضبة تهتف ضد السادات وإسرائيل وأمريكا. وبينما أراد بعض زعماء الثورة الإيرانية الإبقاء على العلاقات مع مصر، لأنَّ "العرب حتمًا سيعودون يومًا ما إليها"، أصر الخميني على قطع العلاقات الدبلوماسية وأصدر في 28 أبريل/نيسان 1979 توجيهًا إلى وزير خارجيته إبراهيم يزدي، بما استقر عليه رأيه بقطع العلاقات. وردت مصر بإجراء مماثل بعد يومين، وقطعت علاقاتها مع النظام الإيراني الذي "انساق لضغوط دول الرفض العربي"، على ما جاء في بيان وزارة الخارجية الرسمي.
إذا كانت مصر تقيم علاقةً مع كيان صهيوني إرهابي فمن الأَوْلى أن نفتح حوارًا مع إيران
كانت تلك هي المرة الثانية التي تُقطع فيها العلاقات بين البلدين، وللمفارقة المرة الأولى كانت لسبب مشابه، لكن بقرار من نظام عبد الناصر عام 1960 بعد اعتراف الشاه بإسرائيل.
مع القطيعة الثانية، بدأت مرحلة من المواجهة السياسية بين البلدين، فلم يتوقف التوتر عند حدَّ التراشق والتلاسن وحملات التحريض العلنية، إذ اقتنع السادات، الذي سلم بأنَّ "99% من أوراق اللعبة مع الأمريكان"، أنَّ نظام الخميني بات تهديدًا حقيقيًا لا لنظامه وحسب بل لأنظمة المنطقة المشمولة بالرعاية الأمريكية، خاصة بعد أن ألهمت الثورة الإسلامية "الشيعية" كثيرًا من الحركات والتنظيمات الإسلامية "السنية" في البلاد العربية.
لذلك، عندما اقتحم الطلبة الإيرانيون السفارة الأمريكية في طهران نوفمبر/تشرين الثاني 1979، واحتجزوا عددًا من موظفيها، لم تكتفِ مصر بإصدار بيان يستنكر الحدث ويعتبره "خروجًا عن تقاليد الإسلام السمحة التي تحفظ للمواثيق قدسيتها"، بل منحت الولايات المتحدة تسهيلات عسكرية لتنفيذ عملية "دلتا" لتحرير الرهائن.
وعندما اندلعت الحرب بين إيران والعراق نهاية عام 1980 على خلفية النزاع على شط العرب، قرر السادات دعم الرئيس العراقي صدام حسين ومدّه بما يحتاجه من سلاح وذخيرة، رغم أنَّ الأخير قاد "جبهة الرفض" التي حرضت على عزل مصر عربيًا.
في المقابل، لم يتوقف التحريض الإيراني على السادات، ودعا الخميني في أكثر من مناسبة المصريين إلى الثورة عليه باعتباره "خان العروبة والإسلام، واتَّبع أعداء الأمة". وبعد حادث المنصة أصدر الخميني بيانًا يبارك عملية اغتيال السادات ويصف مرتكبيها بالأبطال، ثم طالب المصريين بالتخلص من نائبه حسني مبارك، الذي قال إنه يسير "على خطى سلفه في التبعية لأمريكا وإسرائيل".
نتائج الخيارات القديمة
وفي الوقت الذي أخرجت فيه "كامب ديفيد" مصر من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي وعزلتها عن محيطها العربي، واختارت القاهرة طوعًا، أو اتفاقًا مع أطرافٍ أخرى، الانكماش الإقليمي والانغماس في أمورها الداخلية، كانت طهران، ولم يكن نظامها أرسى دعائمه بعد، تخطط للتمدد وصناعة النفوذ في عواصم الشرق الأوسط بعد الفراغ الذي تركه الغياب المصري.
ورغم الحصار والعقوبات المفروضَيْن على إيران، فإنها استطاعت أن تعزز قدراتها الاقتصادية والعلمية والعسكرية، وتدافع عن مشروعها وتتحدى الغرب وحلفاءه في المنطقة، حتى تحولت إلى القوة التي يُعمل لها حسابٌ في الإقليم. في الوقت نفسه، توالت الإخفاقات على مصر نتيجة فشل سياسات حكوماتها منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي في تبني مشروعٍ يناسب قدراتها ومكانتها وتاريخها، وراهنت تلك الحكومات على الولايات المتحدة باعتبارها "شريكًا استراتيجيًا"، فخطَّط هذا الشريك ونجح في إغراق البلاد في مستنقع الديون والتخلف حتى لا تقوم لها قائمة.
الحرب الأخيرة على غزة أثبتت أن إيران هي الدولة الوحيدة في الإقليم التي تملك قدرات وأدوات حقيقية لمواجهة المخططات الصهيو-أمريكية، التي تستهدف خلخلة الأمن القومي لدول المنطقة، وهو ما يستدعي أن تستجيب القاهرة إلى محاولات طهران المتكررة التطبيع معها. فمهما كانت التعقيدات والتوترات التي شابت العلاقات بين القاهرة وطهران، يمكن بحوار الأنداد حلحلة الأزمات، سواء في العراق أو سوريا أو اليمن أو لبنان، لا سيما بعد أن أنهت دول الخليج قطيعتها مع إيران.
فإذا كانت مصر تقيم علاقةً مع كيان صهيوني إرهابي تعدَّى إجرامه حدود نهب أرض فلسطين وتصفية حقوق شعبها ووصل إلى ما يحدث من أبشع عمليات إبادة جماعية في العصر الحديث، فمن الأَوْلى أن نفتح حوارًا مع إيران، لا ينتهي فقط بعودة العلاقات معها باعتبارها دولةً طبيعيةً في المنطقة وحسب، بل بفتح أفق للتعاون والشراكة على قاعدة الندية.
لن تستطيع مصر مواجهةَ خطر المشروع الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا وغربيًا، الذي يستهدفها كما يستهدف فلسطين، وهي غائبة عن محيطها الإقليمي ومنكفئة على مشاكلها وأزماتها، بل بالبحث عن مساحات جديدة من التعاون مع قوى الإقليم الفاعلة. وإذا كان مسار التفاهم مع أنقرة فُتح بعد عقدٍ من القطيعة، فعليها الآن أن تسلك نهجًا مماثلًا بفتح خطِّ اتصال مع طهران، على أن يشمل المملكة العربية السعودية، ليكتمل المحور الذي قد يُسهم في فرملة الخطر الداهم الذي يجتاح الشرق الأوسط.
* يستند هذا المقال إلى كتب: مدافع آية الله، محمد حسنين هيكل. إيران من الداخل، فهمي هويدي. العلاقات المصرية الإيرانية بين الوصال والقطيعة، سعيد الصباغ.