بعد ساعات من طوفان الأقصى، ومع بدء عملية الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، أذاعت قناة القاهرة الإخبارية فيديو كليب يجمع بين الاحتفاء بمشاهد تدمير الآليات الإسرائيلية وإزالة الأسلاك الشائكة الحدودية، واستعراض مشاهد الدمار الأولى في القطاع جراء القصف الوحشي، وذلك على خلفية نشيد كلُّ أخٍ عربيٍّ أخي الذي أبدعه الموسيقار محمد عبد الوهاب من كلمات حسين السيد عام 1965.
يومها، كان التفاؤل حاضرًا في جلسة نقاشية مع بعض الأصدقاء، مُستَلْهمًا مما بدا انتصارًا مبكرًا للمقاومة وإحياءً للقضية الفلسطينية، في وقتٍ كانت المؤشرات خطيرةً على وجود نوايا دولية وإقليمية لدفنها، تجلت بوضوح عندما وقف نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مستعرضًا خريطة لشرقِ أوسطٍ جديد، لا مكان فيه لدولة فلسطينية ولا قطاع ولا ضفة، بل تشمل حدود الكيان الصهيوني المصطنع كامل الأراضي المحتلة، إلى جانب أسماء دول المنطقة التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل والقريبة من التطبيع معها.
أوحى لنا نشيد عبد الوهاب الذي كان يُبثُّ مرارًا بنقاش حول الأعمال الفنية المكرسة للقضية الفلسطينية، وهو حديث ذو شجون ربما ينبغي التوسع فيه قريبًا. لكنَّ بعض كلماته، في ظل غموض مواقف بعض الدول العربية واضطرابها من الطوفان والعدوان، حفزت مراجعاتنا لموقع مصر من القضية الفلسطينية "لك أعداء واقفين لك دايمًا.. بالمرصاد وسلاح الغدر" ولموقع تلك القضية من الأولويات العربية عمومًا "ناصر، وانصر كل مجاهد.. ناصر، احنا طريقنا واحد.. أرضنا واحدة مبادئ واحدة.. وبتجمعنا وحدة صف".
في هوامش التاريخ
حسب الأستاذ محمد حسنين هيكل، فقد اعترف صديقه القريب وعراب الوحدة العربية جمال عبد الناصر بعد أيام معدودة من هزيمة يونيو 1967 بأنه تصرَّف وهو يتصور أن العالم العربي أمةٌ واحدةٌ، الأمر الذي اكتشف أنه "لم يكن دقيقًا.. فالحقيقة أننا مشروع أمة تحت التنفيذ".
وفي مراجعة مؤلمة، يقول عبد الناصر إن "كل النظم في العالم العربي تقريبًا قبلت شروط السلامة الأمريكية ورضوا بقيام إسرائيل وعدم التحرك لأمل الوحدة العربية والسكوت على ضياع فلسطين والبقاء بعيدًا عن تكاليف العصر وتحدياته، إلا نحن ركبتنا العنجهية واندفعنا وراء أهداف يبدو أنها كانت فوق طاقتنا".
تنزع هذه العبارات رداء الواقعية عن نشيد عبد الوهاب، وتجعله أقرب إلى أحلام بقيت حبيسة الشعر والموسيقى. لكنها أيضا تعبِّر عن مركزية مصر التي لا مراء فيها، ليس من وجهة النظر المصرية فقط بل أيضًا وفق التقديرات الصهيونية والأمريكية والبريطانية، كما تؤكد الوثائق والشهادات والكتب التي كانت الشهور الماضية مناسبة جيدة للاطلاع عليها.
أصبحت مقولة قراءة التاريخ مهمة لاستشراف المستقبل "أكليشيه" لكنها حقيقة رغم ذلك. فجذور كل ما نراه وما سنشهده موجودة في الماضي. وربما كان الفارق الأساسي الذي يظهر بين قادة المشروع الصهيوني مثل مؤسس الدولة ديفيد بن جوريون والقادة العرب، ما تعكسه مذكراته مثلًا من قدرة هائلة على الاطلاع والتوثيق والتنبؤ على طريقة لاعب شطرنج ماهر، وأيضًا الحرص على إحاطة نفسه بأكبر قدر من الآراء المتباينة.
قراءة التاريخ، بهوامشه، مهمة أيضًا لإدراك جوهر السياسات الصهيونية والغربية في صورتها الصافية، قبل أن تتراكم فوقها طبقات الأحداث والتفاصيل التي أفقدتنا البوصلة.
وعلى نفس درجة الأهمية، تُذكِّرنا هوامش التاريخ بما بات يصعب طرحه بجلاء وسط قدر هائل من المربكات، لا سيما أوهام البعض بإمكانية انفصال أي دولة عربية، تحديدًا مصر، عن القضية الفلسطينية بمختلف تفاصيلها، باعتبار الوجود الصهيوني أكبر خطر استراتيجي عابر للأجيال على الشعب المصري وباقي شعوب المنطقة.
صيف سويسري بلا غيوم
رؤية مصر الرسمية المبكرة لذلك الخطر كانت العنوان الرئيس للقاءات استضافتها مدينة لوزان السويسرية قبل 75 عامًا، على هامش مؤتمر عقدته لجنة التوفيق التابعة للأمم المتحدة لحل النزاعات بين الدول العربية والكيان الوليد من أبريل/نيسان إلى سبتمبر/أيلول 1949، بينما حرب فلسطين تضع أوزارها.
جرت تلك اللقاءات بين مبعوث مصر إلى المؤتمر، الوزير المفوض في الخارجية محمد عبد المنعم مصطفى، الذي سيصبح لاحقًا أمينًا عامًا مساعدًا للجامعة العربية، والمبعوث السياسي الإسرائيلي الشهير إلياهو ساسون، ذي الخبرة الواسعة في التعامل مع العرب والبريطانيين، نظرًا لميلاده في سوريا ودراسته في لبنان، دفعته لاحقًا لتقلد عدة حقائب وزارية، ثم أصبح نجله موشيه ثاني سفير إسرائيلي في القاهرة.
ومن واقع رسائل ساسون للقيادة الإسرائيلية، التي اطلع عليها المؤرخ الإسرائيلي البريطاني الشهير آفي شلايم وأورد خلاصتها في كتابه المهم التواطؤ عبر الأردن الصادر عام 1988، يمكن التعرف على معالم الرؤية المصرية للمشروع الصهيوني كشرٍّ مطلقٍ، في مقابل قناعة إسرائيلية بأن تحييد مصر وإقامة سلام معها هو حجر الأساس لعلاقات ودية دائمة مع باقي دول المنطقة. أو على حد تعبير شلايم "باختصار، كان طريق السلام بين إسرائيل وجيرانها يمر عبر القاهرة".
عقب الهزيمة العربية شارك مصطفى في مؤتمر لوزان، حاملًا رسالةً من الملك فاروق مفادها أنه يؤيد السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، بحثًا عن مخرج مشرف من الحرب، لكن ليس من الضروري الضغط على مصر لتوقيع معاهدة سلام بحجة عدم ملاءمة الظروف الداخلية.
لكن مكوث مصطفى وساسون لفترة طويلة على ضفاف بحيرة جنيف كان كفيلًا بكشف حقيقة التصورات المصرية. ومع التعمق أكثر في النقاش، بدأ مصطفى يتحدث عن "الدروس التي استفادتها مصر من الحرب"، وكيف أنه بات من الواجب "توسيع المناطق العربية في فلسطين، وبشكل أساسي تمسك مصر بالسيطرة على قطاع غزة وتوسيعه جنوبًا وشمالًا، وتحويل صحراء النقب إلى أرض عربية وتعميرها، وتوطين اللاجئين فيها وجعلها دولة قابلة للحياة" في وقت كان عدد اللاجئين أقل من 300 ألف، مشيرًا إلى إمكانية تحقيق ذلك بـ"معونة أمريكية".
أدرك بن جوريون بعين الخبير أن العرض المصري في حقيقته تحضير لحرب محتملة
ولا يُخفي ساسون في رسائله دهشته وغضبه مع زميله رؤوفين شيلواح المبعوث الشخصي لبن جوريون، لأن الرؤية المصرية لا تتماشى مع قرار تقسيم فلسطين عام 1947، الذي كان يخصص معظم صحراء النقب للدولة اليهودية. وأكدا أن إسرائيل لن تتخلى عن "قدم مربع واحد من النقب"، فرد مصطفى "أعلم ذلك، لكنَّ الجليل كانت أرضًا عربية في خطة التقسيم واستوليتم عليها ولن تتخلوا عنها"، مقترحًا إدخال هذا التعديل على قرار التقسيم وعرض الأمر على الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ثم أخذ النقاش شكلًا أكثر صرامةً ووضوحًا من طرف مصطفى "مصر لا تريد حدودًا مشتركة مع إسرائيل، ولسنا سعداء بتأسيس دولتكم، وفعلنا كل شيء نقدر عليه من أجل منع تأسيسها، ومقتنعون بأن هذه الدولة غريبة عن محيطها على كل المستويات، وسوف تكون مصدرًا للنزاعات والتعقيدات وعدم الاستقرار. مصر لن تشعر بالأمان في وجود ثلاثة أو أربعة ملايين يهودي (متعلمون ومغامرون ويريدون التضحية بأنفسهم) ولقد أخبرت الأمريكيين بأننا نحرص على ألَّا تكون إسرائيل كبيرة أو قوية أو مكتظة باليهود". وحذر من تجدد الحرب بين البلدين بعيدًا عن أي فرصة للسلام، إذا تم إجبار مصر على إخلاء قطاع غزة.
وبذلك أشار مصطفى بوضوح، وقبل عهد عبد الناصر بسنوات، إلى مبادئ استراتيجية أساسية لمصر: إسرائيل عدو. ولا يُرجى منها خير. ولا يمكن قبولها قوية. ومن الضروري الحفاظ على منطقة عازلة مع هذا الكيان.
نلتقي في مناسبات أخرى!
لم تكشف مصر أي وثائق رسمية عن تلك المحادثات، لذلك فمصدرها الوحيد هو ساسون، الذي تحظى رسائله بثقة الأستاذين هيكل وشلايم. كما أننا نرى انعكاسات تلك النقاشات في يوميات بن جوريون طوال صيف 1949.
تُفصح رسائل ساسون عن اتجاه إسرائيل المبكر لتحدي الشرعية الدولية من أجل التوسع وتهديد محيطها. فليس خفيًا أن المطالب المصرية غير المعلنة التي حملها مصطفى قريبة بعض الشيء من المقترح الأول الذي قدمه المبعوث الأممي الكونت فولك برنادوت، الذي اغتالته جماعة شتيرن الإسرائيلية المتطرفة في سبتمبر/أيلول 1948 فيما يخص تعريب النقب.
ويذكر بن جوريون أن "مصطفى زعم قبول الأمريكيين لذلك المقترح". غير أن ساسون وشيلواح بإيعاز من بن جوريون أبلغا مصطفى بأنه حتى إذا أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة ذلك، فسوف ترفض إسرائيل القرار وتتحداه.
هنا، لم يجد مصطفى أي جدوى من استمرار الحديث، فقال "مستعد لمقابلتكم في أي وقت، ولكن من الأفضل الحديث عن أمور أخرى غير السياسة".
بن جوريون يعرف أكثر
لم تكن لوزان المدينة التي احتضنت اللقاء الأول بين مبعوثين مصريين وإسرائيليين، ففي خريف 1948 التقى ساسون المبعوث المصري كمال رياض مرتين، وتحدثا عن أمور عدة بلغت حد مشاركة إسرائيل في الجامعة العربية مع تغيير اسمها إلى "جامعة الشرق" وكتابة مسودة معاهدة لإنهاء الحرب. لكن النقاط الخاصة بسيطرة مصر على جنوب فلسطين شككت بن جوريون في جدية الملك فاروق، خاصة بعد دعمه تأسيس حكومة عموم فلسطين بقيادة المفتي أمين الحسيني في غزة.
ويبدو أن بن جوريون أدرك بعين الخبير أن العرض المصري في حقيقته تحضير لحرب محتملة، عبر صنع منطقة عازلة تُمكِّن المصريين مستقبلًا من الدفاع عن أراضيهم من داخل فلسطين، وأيضًا لمنع ضم هذه المنطقة إلى إسرائيل أو الأردن، وبالتالي منع إنشاء قواعد عسكرية صهيونية أو بريطانية لصيقة بسيناء.
ولذلك لم يُخطِر بن جوريون مجلس الوزراء بتلك المستجدات استعدادًا لتحول خطير. فبعد أربعة أيام فقط، وفي 6 أكتوبر/تشرين أول 1948، عَقَد اجتماعًا مع قادة الأركان وأعضاء الحكومة، اتخذوا فيه قرارًا وصفه في مذكراته بأنه "الأخطر منذ تأسيس الدولة"، بشن حملة عسكرية في صحراء النقب لوقف التقدم المصري.
كان البريطانيون يراقبون عن كثب من موضع غير مريح وليس في أيديهم الكثير ليحافظوا على مكتسباتهم القديمة، بينما يتشكل عالم جديد بقطبين أمريكي وسوفيتي. لكن رسالة وجهها مكتبهم بالشرق الأوسط إلى لندن بعد 48 ساعة من القرار الإسرائيلي، لخصت الموقف من كل جوانبه لتلك الحرب وللحروب المقبلة أيضًا: مفتاح الوضع في العالم العربي يكمن في مصر. قد يكون مفتاحًا سيئًا، لكنه الوحيد هناك.