مكتبة الكونجرس
مجموعة من المسوطنين اليهود (يشوڤ) يأخذون استراحة من بناء الكيبوتز، فلسطين، 1920 - 1930.

انحدار إسرائيل

قراءة في مسار الصهيونية ومآلاتها

منشور الأربعاء 19 يونيو 2024

(*)عندما سحب آرييل شارون أكثر من ثمانية آلاف مستوطن يهودي من قطاع غزة في عام 2005، كان هدفه الرئيسي تعزيز الاستعمار الإسرائيلي في الضفة الغربية، حيث بدأت على الفور أعداد المستوطنين في الارتفاع. لكن "فك الارتباط" كان له أيضًا غرض آخر، وهو تمكين سلاح الجو الإسرائيلي من قصف غزة متى شاء، وهو أمر لم يكن بوسعهم أبدًا القيام به عندما كان المستوطنون يعيشون هناك.

يُظهر هذا التناقض أن الفلسطينيين في الضفة الغربية إنما كانوا محظوظين للغاية؛ فهُم رغم أنهم محاصرون من قِبل مستوطنين عازمين على سرقة أراضيهم، دون أدنى تردد في ممارسة العنف من أجل إتمام تلك السرقات، فمجرد الوجود اليهودي على أراضيهم جنّبهم القصف والدمار الذي تُعرّض إسرائيل سكان غزة له كل بضعة أعوام.

نوع مختلف من جَزّ العشب

تُشير الحكومة الإسرائيلية إلى حلقات مسلسل العقاب الجماعي تلك باسم جَزّ العشب. وفي الخمس عشرة سنة الأخيرة فقط شنّت خمس هجمات على القطاع، كانت الأربع الأولى منها وحشية وقاسية، كما هو الحال دائمًا عندما يقمع الاستعمار التمرد، حيث قَتلت إسرائيل آلاف المدنيين انتقامًا لإطلاق حماس الصواريخ واحتجاز رهائن.

لكن العملية الأخيرة، عملية السيوف الحديدية، التي بدأت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول ردًا على الغارة القاتلة التي شنتها حماس على جنوب إسرائيل، تختلف من حيث النوع، وليس فقط الدرجة.

فخلال الثمانية أشهر الماضية، قتلت إسرائيل أكثر من 36 ألف فلسطيني، ولا يزال هناك عدد لا يحصى من الأشخاص تحت الأنقاض، وما زال عدد أكبر سوف يموت من الجوع والمرض. كما أُصيب ثمانون ألف فلسطيني، بينهم الكثيرون بتشوهات دائمة. أما الأطفال الذين قُتل آباؤهم، والذين قُتلت أسرهم بأكملها، فيُشكّلون مجموعة سكانية فرعية جديدة.

غيّرت العملية العسكرية في غزة شكل الصراع على فلسطين، وربما حتى معناه

لقد دمَّرت إسرائيل البنية التحتية السكنية في غزة ومستشفياتها وكلّ جامعاتها. واضطر معظم سكان غزة، البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، إلى النزوح، ومنهم من تم تهجيرهم أكثر من مرّة، كما فرّ العديد منهم إلى مناطق "آمنة"، فقط ليتم قصفهم هناك.

لم يَسلَم أحد؛ قُتل عمال الإغاثة والصحفيون والمسعفون بأعداد قياسية. ومع ارتفاع مستويات المجاعة، خلقت إسرائيل العقبة تلو الأخرى أمام توفير الغذاء، مع إصرارها على أن جيشها هو "الأكثر أخلاقية" في العالم. ولكن أمام هذا الادعاء جاءت الصور من غزة عبر تيك توك، الذي حاول أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة حظره، وجاءت كذلك على قناة الجزيرة، التي أغلقت الحكومة الإسرائيلية مكتبها في القدس، لتحكي قصة مختلفة.

تحكي الصور قصة قتل أحد الفلسطينيين الجائعين أمام شاحنات المساعدات في شارع الرشيد في فبراير/شباط، وقصة سكان الخيام في رفح الذين احترقوا أحياء في الغارات الجوية الإسرائيلية، وقصة النساء والأطفال الذين يعيشون على 245 سعرة حرارية في اليوم؛ هذا ما وصفه بنيامين نتنياهو بـ"انتصار الحضارة اليهودية المسيحية على البربرية".

غيّرت العملية العسكرية في غزة شكلَ الصراع على فلسطين، وربما حتى معناه. ويبدو من المضلل، بل وحتى المهين، الإشارة إلى "صراع" بين شعبين بعد أن ذبح أحدهما الآخر بأعداد مذهلة.

انعكس حجم الدمار في المصطلحات: "إبادة المنازل/domicide" لتدمير المساكن؛ و"إبادة الدراسة/scholasticide" لتدمير النظام التعليمي بما فيه المعلّمون، حيث قُتل 95 أستاذًا جامعيًا؛ "الإبادة البيئية/ecocide" لتدمير الزراعة والمسطحات الطبيعية في غزة. بينما تصف سارة روي، الخبيرة في شؤون غزة وابنة أحد الناجين من الهولوكوست، ما يحدث بأنه عملية "إبادة اقتصادية/econocide"، أي تدمير شامل للاقتصاد ومكوناته، وتضيف مفسرةً أن هذا هو "الامتداد المنطقي لتقويض إسرائيل المتعمد لتنمية اقتصاد غزة منذ عام 1967". 

تم غش اللعبة ضد الفلسطينيين بسبب تاريخ مُضطهديهم، فبدا الادعاء الفلسطيني بالإبادة الجماعية وكأنه مجرد محاولة للتعادل

ولكن، لاستعارة لغة اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948، هناك مصطلح أقدم يشير إلى "الأفعال المُرتكبة بقصد التدمير، كليًا أو جزئيًا، لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية". هذا المصطلح هو "إبادة جماعية"، وهناك إجماع متزايد بين القانونيين الدوليين وخبراء حقوق الإنسان على أن إسرائيل ارتكبت جريمة إبادة جماعية، أو على الأقل أعمال إبادة جماعية، في غزة. وهذا ليس رأي الهيئات الدولية فحسب، بل أيضًا الخبراء الذين يتمتعون بسجل من الحذر، بل والحذر الشديد، عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، وأبرزهم آرييه نير، أحد مؤسسي منظمة هيومن رايتس ووتش.

تهمة الإبادة الجماعية ليست جديدةً بين الفلسطينيين. أتذكر أنني سمعت ذلك الوصف عندما كنت في بيروت عام 2002، أثناء الهجوم الإسرائيلي على مخيم جنين للاجئين. حينها فكرت، لا، إنه حصار قاسٍ لا يرحم ولكنه ليس إبادة. صدمني حينها استخدام كلمة "إبادة جماعية" باعتبارها نموذجًا للتضخم الخطابي للنقاش السياسي في الشرق الأوسط، وكأحد أعراض المنافسة المريرة والقبيحة حول مَن هو الضحية؛ إسرائيل أم فلسطين.

تم غش اللعبة ضد الفلسطينيين بسبب تاريخ مُضطهديهم؛ لقد مَنح تدمير يهود أوروبا رأس مال أخلاقيًا للدولة اليهودية الشابة في نظر القوى الغربية. وبدا الادعاء الفلسطيني بالإبادة الجماعية وكأنه مجرد محاولة للتعادل، وهو أمر لا يمكن لكلمات مثل "الاحتلال" أو حتى "الفصل العنصري" أن يحققه أبدًا.

لكن الأمر مختلفٌ هذه المرة، ليس فقط بسبب القتل الوحشي لآلاف النساء والأطفال، ولكن لأن الحجم الهائل للدمار جعل الحياة نفسها مستحيلة بالنسبة لمن نجوا من القصف الإسرائيلي.

اندلعت الحرب بسبب هجوم حماس غير المسبوق، لكن الرغبة في إلحاق المعاناة بغزة كلها، وليس فقط بحماس، لم تبدأ في 7 أكتوبر. وهذا هو جلعاد، نجل آرييل شارون، يقول في عام 2012 "نحن بحاجة إلى تسوية أحياء بأكملها في غزة بالأرض. سحق كل غزة. لم يتوقف الأمريكان عند هيروشيما، فاليابانيون لم يستسلموا بالسرعة الكافية، لذا ضربوا ناجازاكي أيضًا. لا ينبغي أن يكون هناك كهرباء في غزة، ولا بنزين أو مركبات متحركة، لا شيء!". اليوم يبدو هذا وكأنه نبوءة.

دائمًا ما تسبق عنف الإبادة أشكال أخرى من الاضطهاد، تهدف إلى جعل الضحايا بائسين قدر الإمكان، بما في ذلك النهب، والحرمان من الامتيازات، والعزلة، والتطهير العرقي، والتجريد العنصري من الإنسانية. كل هذه الأمور كانت من سمات علاقة إسرائيل بالشعب الفلسطيني منذ تأسيسها. إن ما يتسبب في انزلاق الاضطهاد إلى القتل الجماعي هو عادة الحرب، وخاصة الحرب التي تُعرف بأنها معركة وجودية من أجل البقاء، كما رأينا في الحرب على غزة.

في نهاية المطاف، ماذا بقي لأولئك الذين بقوا على قيد الحياة؟

إن تصريحات قادة إسرائيل لم تخفِ نواياهم؛ قال وزير الدفاع يوآف جالانت "إننا نحارب حيوانات بشرية، وسنتصرف وفقًا لذلك"؛ وقال الرئيس إسحاق هرتسوج "إن الأُمّة بأكملها هي المسؤولة"، بل قدمت تصريحاتهم دليلًا دامغًا على نيتهم. وكذلك فعلت صور السيلفي المبهجة التي التقطها الجنود الإسرائيليون وسط أنقاض غزة؛ فبالنسبة للبعض، على الأقل، كان تدمير غزة مصدرًا للمتعة.

قد تكون الأساليب التي تتبعها إسرائيل مشابهة لتلك التي اتبعها الفرنسيون في الجزائر، أو نظام الأسد في سوريا، في مقابل أساليب النازيين في تريبلينكا أو مرتكبي الإبادة الجماعية من الهوتو في رواندا؛ لكن هذا لا ينفي أنها تُشكّل إبادة جماعية. كما لا ينفيه كون إسرائيل قتلت "فقط" جزءًا من سكان غزة. ففي نهاية المطاف، ماذا بقي لأولئك الذين بقوا على قيد الحياة؟ الحياة العارية، كما يسميها جورجيو أجامبين "حياة مهددة بالجوع والعوز والتهديد الدائم بالضربة الجوية القادمة"، أو "الحادث المأساوي" المقبل، العبارة التي وصف بها نتنياهو حرق 45 مدنيًا في رفح.

قد يزعم أنصار إسرائيل أن هذه ليست "المحرقة"، ولكن الاعتقاد بأن أفضل طريقة لتكريم ذكرى اليهود الذين قُتلوا في معسكر أوشفيتز النازي هو التغاضي عن القتل الجماعي للفلسطينيين لكي يشعر الإسرائيليون بالأمان هو أحد أكبر الانحرافات الأخلاقية في عصرنا الحالي.

في إسرائيل، يصل هذا الاعتقاد حد الإيمان. قد يكون نتنياهو مكروهًا من نصف السكان، لكن حربه على غزة ليست كذلك. وفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة، فإن أغلبية كبيرة من الإسرائيليين تعتقد إما أن رد فعله كان مناسبًا، أو أنه لم يذهب بعيدًا بما فيه الكفاية. إن أغلب يهود إسرائيل غير قادرين على، أو غير راغبين في، النظر إلى ما هو أبعد من الفظائع التي ارتكبت في السابع من أكتوبر، ويعتبرون أنهم محقون تمامًا في شن الحرب حتى يتم تدمير حماس، حتى، أو خاصة، إذا كان هذا يعني التدمير الكامل لغزة.

إنهم يرفضون فكرة أن سلوك إسرائيل، المتمثل في خنقها لغزة واستعمارها للضفة الغربية واستخدامها للفصل العنصري واستفزازاتها في المسجد الأقصى واستمرارها في إنكار حق الفلسطينيين في تقرير المصير، ربما هو ما أدى إلى غضب الفلسطينيين في 7 أكتوبر. وبدلًا من ذلك يصرّون على أنهم الآن، مرة أخرى، ضحايا معاداة السامية، ولأمّة عماليق؛ الأمة المعادية لبني إسرائيل.

إن عدم قدرة الإسرائيليين، أو رفضهم، رؤية مسؤوليتهم في صنع 7 أكتوبر إنما هو دليل على مخاوفهم ورعبهم الذي ورثوه عن أجدادهم، والذي أججته المذابح من جديد. ولكنه يكشف أيضًا عن مدى سيطرة ما أسماه جان دانييل "السجن اليهودي" الذي يعيش فيه اليهود الإسرائيليون. 

طموح الصهيونية VS تحولات إسرائيل

كان طموح الصهيونية الأصلي هو تحويل اليهود إلى لاعبين تاريخيين ذوي سيادة، وشرعيين، يتمتعون بإحساس بالقوة والفاعلية. ولكن ميل اليهود الإسرائيليين إلى اعتبار أنفسهم ضحايا أبديين، من بين عادات الشتات الأخرى، أثبت أنه أقوى من الصهيونية ذاتها. وجد زعماء إسرائيل درعًا أيديولوجيًا قويًا، ومصدرًا لتماسك المجتمع وتوحيده، في رد فعل الضحية هذا.

ليس من المستغرب إذن أن يُفسر الإسرائيليون يوم 7 أكتوبر باعتباره تكملةً للهولوكوست، أو أن يشجع زعماؤهم هذا التفسير، فكلاهما يلتزم بقراءة لاهوتية للتاريخ تقوم على التكرار الأسطوري، حيث يُفهم أي عنف ضد اليهود، بغض النظر عن السياق، على أنه حلقة ضمن سلسلة متواصلة من الاضطهاد؛ إنهم غير قادرين على التمييز بين العنف ضد اليهود لكونهم يهودًا، والعنف ضد اليهود المرتبط بممارسات الدولة اليهودية. من المفارقات المثيرة للسخرية أن هذه الرؤية للتاريخ تخصم من هَول القَتل الممنهج لليهود أثناء الهولوكوست، لأنه ببساطة سيبدو وكأنه مجرد حلقة من مذبحة كبيرة.

أي شيء تقريبًا في ساحة المعركة له ما يبرره، حيث يوجد عدد متزايد من المستوطنين المتطرفين بين الجنود في الوحدات القتالية

وما يعنيه كل هذا، في الممارسة العملية، هو أن أي شخص يلوم إسرائيل على سياساتها قبل السابع من أكتوبر، أو على مذابحها في غزة، يمكن ببساطة تجاهله انطلاقًا من أرضية أنه معاد للسامية، وصديق لحماس وإيران وحزب الله، وصديق أُمّة العماليق.

كما يعني ذلك أيضًا أن أي شيء تقريبًا في ساحة المعركة له ما يبرره، حيث يوجد عدد متزايد من المستوطنين المتطرفين بين الجنود في الوحدات القتالية. وليس من غير المألوف أن نسمع اليهود الإسرائيليين يدافعون عن قتل الأطفال، لأنهم سيصبحون إرهابيين عندما يكبرون، وهي حجة لا تختلف عن ادعاء بعض الفلسطينيين أن قتل طفل يهودي إسرائيلي يعني قتل جندي في جيش الدفاع الإسرائيلي في المستقبل. والسؤال هو كم عدد الأطفال الفلسطينيين الذين يجب أن يموتوا قبل أن يشعر الإسرائيليون بالأمان، أو ما إذا كان اليهود الإسرائيليون يعتبرون أن إزالة السكان الفلسطينيين شرط ضروري لأمانهم.

إن الفكرة الصهيونية المتمثلة في الترانسفير، أي طرد السكان العرب، لهي أقدم من إسرائيل نفسها. اعتنقها كل من بن جوريون، ومنافسه فلاديمير جابوتنسكي الصهيوني التصحيحي الذي كان بمثابة المعلّم لوالد نتنياهو، وغذّت بشكل مباشر عمليات الطرد في حرب عام 1948. لكن حتى ثمانينات القرن الماضي، ومع ظهور مجموعة "المؤرخون الجدد"، أنكرت إسرائيل بشدة ارتكابها للتطهير العرقي، مدعية أن الفلسطينيين غادروا/هربوا لأن الجيوش العربية الغازية شجعتهم على ذلك.

وعندما أُثيرت قضية طرد الفلسطينيين وتدمير قُراهم، كما في الرواية القصيرة لـ س. يزهار الصادرة عام 1949، بعنوان خربة خيزة/Khirbet Khizeh، وقصة أ. ب. يهوشوع الصادرة عام 1963 بعنوان مواجهة الغابات/Facing the Forests، كانت مصحوبة بالألم والتبرير المحمل بالذنب. ولكن كما يشير الصحفي الفرنسي سيلفان سيبل في كتابه المعنون دولة إسرائيل في مقابل اليهود/The State of Israel v. the Jews، تبخر "العار الخفي الكامن وراء الإنكار".

اليوم يتم الدفاع عن كارثة عام 1948 بوقاحة في إسرائيل باعتبارها كانت ضرورةً، ويُنظر إليها باعتبارها مشروعًا غير مكتمل، بل وحتى بطوليًا. بتلسئيل سموتريش وزير المالية، وإيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، كلاهما يؤيد الترانسفير بلا خجل. إن ما نشهده في غزة هو أكثر من مجرد الفصل الأكثر دمويةً في تاريخ إسرائيل-فلسطين؛ إنه ذروة نكبة عام 1948 وذروة تحول إسرائيل من دولة كانت يومًا ما توفر ملاذًا للناجين من معسكرات الموت إلى أُمّة مُدانة بالإبادة الجماعية.

كتب لينين "هناك عقود لا يحدُث فيها شيء، وهناك أسابيع تشهد أحداث عقود". وقد شهدت الأشهر الثمانية الماضية تسارعًا غير عادي في حرب إسرائيل الطويلة ضد الفلسطينيين. فهل كان من الممكن أن يتحول تاريخ الصهيونية إلى خلاف ذلك؟

إن بنيامين نتنياهو رجل عديم الخبرة محدود الخيال، مدفوع إلى حد كبير بشهوته للسلطة ورغبته في تجنب الإدانة بالاحتيال والرشوة، حيث تجري محاكمته بشكل متقطع منذ أوائل عام 2020. لكنه أيضًا رئيس الوزراء الأطول خدمة في تاريخ إسرائيل، وأيديولوجيته العنصرية التوسعية هي الاتجاه السائد هناك. وإسرائيل، التي كانت دائمًا دولة عرقية تقوم على الامتياز اليهودي، أصبحت تحت قيادته دولة قومية رجعية، تنتمي الآن رسميًا حصريًا إلى مواطنيها اليهود. أو على حد تعبير قانون الدولة القومية لعام 2018، الذي يكرّس التفوق اليهودي "إن الحق في ممارسة تقرير المصير الوطني في دولة إسرائيل هو أمر يقتصر على الشعب اليهودي".

لا عجب إذن أن يهتف الفلسطينيون ومؤيدوهم "سوف تتحرر فلسطين من النهر إلى البحر". إن ما يسمعه العديد من الصهاينة باعتباره دعوة للتطهير العرقي أو الإبادة الجماعية هو في نظر معظم الفلسطينيين دعوة لإنهاء الهيمنة اليهودية على كامل الأرض، وإنهاء ظروف الانعدام التام للحرية.

ليس من المستغرب إذن أن تصبح كلمة "صهيوني" بين اليسار الطلابي لقبًا لأولئك الذين يعارضون المساواة في الحقوق والحرية للفلسطينيين، أو الذين، حتى ولو ادعوا تأييد فكرة الدولة الفلسطينية، يصرون على الاعتقاد بأن رغبات اليهود الإسرائيليين، بحكم الاضطهاد الذي تعرض له أسلافهم في أوروبا، أكثر أهمية من رغبات العرب الأصليين في فلسطين.

كانت رؤية بريت شالوم للمصالحة مع السكان الأصليين غير واردة في نظر أغلب الصهاينة لأنهم كانوا يعتبرون عرب فلسطين واضعي يد على أرض يهودية مقدسة

ولكن، كما يُذكرنا شلومو ساند في كتابه المعنون شعبان من أجل دولة؟/?Deux peuples pour un état، كانت هناك صهيونية منشقة أخرى؛ "صهيونية ثقافية" دعت إلى إنشاء دولة ثنائية القومية على أساس التعاون العربي اليهودي، دولة اعتبرت من بين أعضائها شخصيات مثل آحاد هعام، ويهودا ماجنيس، ومارتن بوبر، وحنة آرنت.

في عام 1907، اتهم المثقف الصهيوني إسحاق إبستين الحركة الصهيونية بأنها نسيت "تفصيلة صغيرة: أن هناك في أرضنا الحبيبة شعبًا بأكمله مرتبط بها منذ مئات السنين ولم يفكر أبدًا في تركها". كان تصور إبستين، وحلفائه الذين أسسوا Brit Shalom/التحالف من أجل السلام في عام 1925، أن أرض صهيون مكان لميلاد ثقافي وروحاني جديد. وحذروا من أن أي محاولة لإنشاء دولة يهودية حصرية من شأنها أن تحوِّل الصهيونية إلى حركة استعمارية كلاسيكية، وأن تؤدي إلى حرب دائمة مع العرب الفلسطينيين.

بعد التمرد العربي عام 1929، أدان سكرتير بريت شالوم، هانز كوهن، الحركة الصهيونية الرسمية بسبب "تبنيها موقف المصابين الأبرياء"، ورفضها "أقل قدر من النقاش مع الأشخاص الذين يعيشون في هذا البلد. لقد اعتمدنا بشكل كامل على سطوة القوة البريطانية. لقد وضعنا لأنفسنا أهدافًا كانت حتمًا ستتحول إلى صراع".

الصراع كهدف في حد ذاته

لكن ذلك لم يكن من قُبيل المصادفة، فالصراع مع العرب كان ضروريًا للتيار الصهيوني السائد. بالنسبة لدعاة "الصهيونية العضلية"، كما جادل أمنون راز-كراكوتسكين، فإن إنشاء دولة يهودية في فلسطين سوف يسمح لليهود ليس بتحقيق "إنكار المنفى" فحسب، ولكن أيضًا، وللمفارقة، سوف يسمح لهم بإعادة طرح أنفسهم مواطنين في الغرب الأبيض، على حد تعبير هرتزل، باعتبارهم "متراس أوروبا ضد آسيا".

كانت رؤية بريت شالوم للمصالحة والتعاون مع السكان الأصليين غير واردة في نظر أغلب الصهاينة، لأنهم كانوا يعتبرون عرب فلسطين واضعي يد على أرض يهودية مقدسة. وكما قال بن جوريون "لا نريد أن يصبح الإسرائيليون عربًا. من واجبنا أن نحارب العقلية الشامية التي تدمر الأفراد والمجتمعات". في عام 1933، اختفت بريت شالوم؛ وبعد مرور عام، غادر كوهن فلسطين يائسًا، مقتنعًا بأن الحركة الصهيونية كانت على مسار تصادمي مع الفلسطينيين والمنطقة.

كما كانت حركة بن جوريون أيضًا على مسار تصادمي مع أولئك الذين تعاطفوا مع فكرة وجود ملاذ ثقافي يهودي في فلسطين، مثل كوهن وآرنت، ولكنهم رفضوا الرؤية الإقليمية المتطرفة والإقصائية للدولة المرتبطة بإنشاء إسرائيل في عام 1948. وسوف يجد منتقدو إسرائيل اليهود، الذين تعود جذورهم إلى الصهيونية الثقافية التي أسسها ماجنيس وبوبر أو إلى حزب العمال اليهودي المناهض للصهيونية أنفسهم مذمومين باعتبارهم زنادقة وخونة. في كتابه قضيتنا الفلسطينية/Our Palestine Question، يوضح جيفري ليفين كيف تم طرد منتقدي إسرائيل من اليهود الأمريكيين من المؤسسات اليهودية في العقود التي تلت تشكيل الدولة.

بعد حرب عام 1948، قدمت الصحافة اليهودية الأمريكية تغطية واسعة النطاق، ومتعاطفة إلى حد كبير، مع محنة اللاجئين الفلسطينيين؛ فلم تكن إسرائيل أعلنت بعد أنها لن تقبل إعادة لاجئ واحد. وفي عام 1950 كتب ويليام زوكرمان، محرر النشرة اليهودية/Jewish Newsletter "إن مسألة اللاجئين العرب هي قضية أخلاقية تسمو فوق الدبلوماسية. إن الأرض التي تُسمى الآن إسرائيل مملوكة للاجئين العرب بما لا يقل عن أي إسرائيلي. لقد عاشوا على تلك الأرض وعملوا عليها... لمدة ألف ومائتي عام... وكونهم فرّوا في حالة من الذعر ليس مبررًا لحرمانهم من منازلهم".

وتحت الضغط الإسرائيلي، فقد زوكرمان وظيفته كمراسل نيويورك لصحيفة Jewish Chronicle، ومقرها لندن. وابتهج آرثر لوري، القنصل العام الإسرائيلي في نيويورك، بإقالته معلقًا "ميتزفاه حقيقي"؛ أي "فعل جيد حقًا".

ولم يكن زوكرمان الوحيد. في عام 1953، تلا الحاخام الإصلاحي الأمريكي موريس لازارون صلاة تكفير في مخيم شاتيلا للاجئين في بيروت، معلنًا للمُصلين "لقد أخطأنا"، ودعا إلى إعادة مائة ألف لاجئ فورًا إلى وطنهم باعتبارهم أعضاء في "قبيلة الأقدام الرحالة". وقال "على اليهود أن يقفوا مع لاجئي فلسطين".

خلق الاحتضان غير النقدي للصهيونية "قصر نظر أخلاقي" فيما يتعلق بالقمع الإسرائيلي للفلسطينيين

أما الخبير الأمريكي البارز المتخصص في شؤون اللاجئين الفلسطينيين دون بيريتس، فكان يعمل لدى اللجنة اليهودية الأمريكية/AJC بعد حرب عام 1948، وعمل مع إحدى مجموعات كواكر التي كانت تقوم بتوزيع الطعام والملابس على الفلسطينيين النازحين الذين يعيشون تحت الحكم العسكري الإسرائيلي. وحينها فزع عندما اكتشف ما أسماه "موقف تجاه العرب يشبه موقف العنصريين الأمريكيين (ضد السود)"، فكتب بيرتس كتيبًا عن اللاجئين موجهًا للجنة اليهودية الأمريكية. وجاء رد المسؤولين الإسرائيليين بمحاولة طرده؛ وأوصت إستير هيرليتز، وكانت حينها القنصل الإسرائيلي في نيويورك، السفارة "بالنظر في حفر قبر له" في الكلية اليهودية في بنسلفانيا حيث كان يُدَرِّس.

لم يكن بيريتس متطرفًا. كل ما أراد ببساطة هو أن يخلق ما أسماه "منصة يمكن من خلالها التعبير ليس فقط عن مديح إسرائيل، بل أيضًا عن القلق الحقيقي بشأن العديد من المشاكل التي أصبحت الدولة الجديدة متورطة فيها"، وفي المقام الأول منها "مشكلة اللاجئين العرب، وحالة الأقلية العربية في إسرائيل". وبدلًا من ذلك، واجه بيريتس "محيطًا من المشاعر" جعلت من الصعب "خلق جو للمناقشة الحرة كما هو الحال اليوم في جنوب الولايات المتحدة عند مناقشة اختلاط الأعراق".

ومن بين الأحداث الأكثر دلالةً التي سردها ليفين في كتابه كان حملة تشويه سمعة فايز صايغ، المتحدث الرسمي الفلسطيني البارز في الولايات المتحدة في الخمسينيات وأوائل الستينيات. يكتب ليفين أن الصايغ، وهو مواطن من طبريا، "أدرك تمامًا أن أي مغازلة عربية لمعاديي السامية سوف تشوّه قضيتهم"، ولذلك ابتعد عن النازيين الجدد وعن غيرهم من النشطاء المناهضين لليهود الذين طرقوا بابه. وانضم صايغ إلى الحاخام المناهض للصهيونية، إلمر بيرجر من المجلس الأمريكي لليهودية، وكان بيرجر أثبت نفسه بالفعل كناقد للصهيونية في كتابه الصادر عام 1951، بعنوان التاريخ الحزبي لليهودية/A Partisan History of Judaism، الذي هاجم فيه الحركة لاحتضانها "سياسة هتلر الانفصالية" وخيانة عالمية الرسالة اليهودية.

ووصف أحد الناشطين المؤيدين لإسرائيل صايغ بأنه "واحد من أكفأ المناظرين الذين اضطر اليهود الأمريكيون إلى مواجهتهم على الإطلاق"، واعتُبر صايغ خطرًا بشكل خاص لأنه يصعب اتهامه بمعاداة السامية. وفي جهودهم لمكافحة هذا الحليف العربي للحاخام البارز، الذي لم يستسلم أبدًا للخطاب المعادي للسامية، اضطر النشطاء الصهاينة إلى اختراع تهمة جديدة: أن معاداة الصهيونية هي في حد ذاتها شكل من أشكال معاداة السامية. ولاحقًا طَوّرت رابطة مكافحة التشهير هذه الحجة إلى كتاب في عام 1974، ولكن، كما يوضح ليفين، كان الكتاب متداولًا بالفعل قبل عشرين عامًا.

في نهاية المطاف، انتقل صايغ إلى بيروت، حيث انضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية. وفي أعقاب حرب الأيام الستة عام 1967، خضعت الجالية اليهودية الأمريكية لما أسماه نورمان بودهوريتز "الصهينة الكاملة". وكما يقول جوشوا لايفر في كتابه تحطيم الألواح/Tablets Shattered، أصبحت المؤسسة اليهودية على نحو متزايد "محددة التوجه، وخطابها أكثر فظاظة في دفاعها عن المصلحة اليهودية".

رد الفعل البارد على أحداث 7 أكتوبر بين اليهود اليساريين قد لا يعكس قسوة بقدر ما يعكس فعلًا واعيًا بعدم الانتماء لإسرائيل

واستمرت هذه المؤسسة في ممارسة نفوذها في مؤسسات السلطة والتعليم العالي الأمريكية. وكان سقوط كلودين جاي، رئيسة جامعة هارفارد، الذي خطط له الملياردير الصهيوني بيل أكمان، مجرد مثال واحد على ذلك. وكما كتبَ لايفر، فإن الاحتضان غير النقدي للصهيونية "خلق قصر نظر أخلاقي" فيما يتعلق بالقمع الإسرائيلي للفلسطينيين. إن إنكار اليسار المتطرف أن حماس ارتكبت أي فظائع في السابع من أكتوبر يقابله إنكار الإبادة الجماعية للفلسطينيين بين اليهود الأمريكيين، الذين يزعمون أن هناك الكثير من الطعام في غزة وأن المجاعة الفلسطينية هي مجرد مسرحية.

لقد لقي قصر النظر الأخلاقي هذا مقاومة دائمًا من قبل أقلية من اليهود الأمريكيين. وكانت هناك موجات متتالية من المقاومة، أثارتها حلقات سابقة من الوحشية الإسرائيلية: حرب لبنان، والانتفاضة الأولى، والانتفاضة الثانية. لكن موجة المقاومة الأكثر أهمية قد تكون تلك التي نشهدها الآن من جيل من الشباب اليهود الذين يستحيل عليهم أن يتقبلوا انتسابهم لدولة غير ليبرالية، وعنصرية بشكل واضح، يقودها حليف مقرب من دونالد ترامب. وكما كتب بيتر بينارت في عام 2010، طلبت المؤسسة اليهودية من اليهود الأمريكيين "خلع ليبراليتهم عند باب الصهيونية"، فقط لتجد أن "العديد من الشباب اليهود خلعوا صهيونيتهم ​​بدلًا من ذلك".

إن الصراع الذي وصفه بينارت هو صراع قديم. ففي عام 1967 كتب الصحفي الأمريكي إ. ف. ستون:

"إن إسرائيل تخلق نوعًا من الفصام الأخلاقي عند يهود العالم. ففي العالم الخارجي، تعتمد رفاهية اليهود على الحفاظ على مجتمعات علمانية، غير عنصرية، وتعددية. وداخل إسرائيل تدافع اليهودية عن مجتمع لا يمكن فيه تشريع الزواج المختلط، ويتمتع فيه غير اليهود بمنزلة أقل من اليهود، ويكون المثل الأعلى عنصريًا وإقصائيًا. يتوجب على اليهود أن يُقاتلوا في أماكن أخرى من أجل أمنهم ووجودهم ضد ذات المبادئ والممارسات التي يدافعون عنها داخل إسرائيل".

ثبت أن هذا التناقض أصبح لا يطاق بين العديد من شباب الليبراليين اليهود الأمريكيين؛ فقد شكَّل الطلاب اليهود عددًا كبيرًا، بشكل فاق التوقعات، من المتظاهرين في الجامعات.

لقد حاولوا أيضًا تطوير ما يسميه لايفر "تعبيرات جديدة عن الهوية والمجتمع اليهودي... غير مُقيدة بالنزعة العسكرية الإسرائيلية". ويعرب البعض، مثل لايفر، عن انجذابهم لليهودية التقليدية، وحتى الأرثوذكسية، بسبب ابتعادها عن الليبرالية التي تقبل كل شيء في اليهودية الأمريكية، حتى حين يستنكرون انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان.

تبنى الأكثر تطرفًا بينهم "قومية الشتات الناعمة"، وتنصلوا من أي علاقات مع إسرائيل، وأعلنوا دعمهم لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، واعتنقوا رموز النضال الفلسطيني. ينزعج لايفر من فشل بعض اليهود في انتقاد هجمات 7 أكتوبر. ويتهمهم بـ"القسوة تجاه حياة اليهود الآخرين، الذين صادف أن فر أسلافهم إلى الدولة اليهودية الوليدة المحاصرة، بدلًا من الولايات المتحدة".

ولكن رد الفعل البارد على أحداث 7 أكتوبر، الذي يجده النقاد مثل لايفر مزعجًا للغاية خاصة عندما يعبر عنه يهود يساريون، قد لا يعكس قسوة بقدر ما يعكس فعلًا واعيًا من عدم الانتماء، يولده العار والشعور بالتواطؤ غير المرغوب فيه مع دولة تصر على ولاء اليهود في مختلف أنحاء العالم لها، فضلًا عن رفض ادعاء الحركة الصهيونية بأن اليهود يشكلون شعبًا واحدًا موحدًا له مصير مشترك.

إن كتاب لايفر إنما هو نقد للسجن اليهودي مكتوب من داخل أسواره: لأن "التخلي" عن إسرائيل، كما يصر، مستحيل، ولأن السجن سوف يضم قريبًا أغلبية يهود العالم، في "ثورة على الشروط الأساسية للوجود اليهودي". أولئك الذين يعطون الأولوية لعضويتهم في مجتمع علماني أوسع يسعون إلى تحرير أنفسهم من السجن تمامًا، حتى مع خطر الحرمان كنسيًا باعتبارهم "غير يهود". بالنسبة لهؤلاء الكتاب والناشطين، الذين اجتمع العديد منهم حول مجلة Jewish Currents، التي أُعيد إحياؤها هي ومنظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام"، فإن الإخلاص لمبادئ اليهودية الأخلاقية يتطلب منهم تبني ما يسميه كراكوتزكين "منظور المطرودين" - الذين كانوا، منذ 1948، فلسطينيين، وليسوا من اليهود.

كتب إدوارد سعيد عن الفلسطينيين في عام 1986 "ليس لدينا أمثال آينشتاين ولا شاجال ولا فرويد أو روبنشتاين لحمايتنا بإرث من الإنجازات المجيدة". وأضاف "ولم تصبنا هولوكوست لتحمينا بتعاطف العالم. نحن الآخر، المقابل، وهو خلل في هندسة إعادة التوطين والنزوح الجماعي".

ولا يزال الفلسطينيون "آخرين" في الحسابات الأخلاقية للولايات المتحدة والقوى الغربية، التي لولا دعمها لما تمكنت إسرائيل من تنفيذ هجومها على غزة. ولكن الآن صار بوسعهم أن يستحضروا جريمة إبادة جماعية خاصة بهم، ورغم أن ذلك قد لا يوفر لهم الحماية بعد، فإنه فعل الكثير لتقليص رأس المال الأخلاقي، المتآكل بالفعل، لإسرائيل.

لقد حققت المطالبات الفلسطينية بالأرض والعدالة، المتأصلة بالفعل في ضمير الجنوب العالمي، نجاحات غير عادية في ضمير الغرب الليبرالي، وكذلك ضمير اليهود الأمريكيين. ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى إدوارد سعيد وغيره من الكتاب والنشطاء الفلسطينيين. إن ولادة حركة عالمية، مُعارضة للحرب الإسرائيلية على غزة، ومُدافعة عن الحقوق الفلسطينية؛ إنما هي دلالة أن إسرائيل خسرت الحرب الأخلاقية بين أصحاب الضمير.

وبما أن القضية الفلسطينية مرتبطةٌ بالعدالة الدولية، وبالتضامن بين الشعوب المضطهدة، وبالحفاظ على نظام قائم على القواعد، فإن جاذبية إسرائيل تقتصر إلى حد كبير على اليهود المتدينين، واليمين المتطرف، والقوميين البيض، والساسة الديمقراطيين من الجيل الأكبر سنًا مثل جو بايدن، الذي حذر من "تصاعد شرس" في معاداة السامية بأمريكا بعد الاحتجاجات، ومثل نانسي بيلوسي، التي ادعت أنها اكتشفت "مسحة روسية" بهم.

يزيد من لا معقولية النقاش في الولايات المتحدة أن تهمة معاداة السامية يتم استخدامها كسلاح بيد الإنجيليين اليمينيين

عندما نزل مؤسس جماعة Proud Boys، جافين ماكينيس، ورئيس مجلس النواب الأمريكي، مايك جونسون، إلى حرم جامعة كولومبيا في نيويورك للدفاع عن الطلاب اليهود ضد المتظاهرين "المعادين للسامية"، وكان من بينهم يهود يحملون لافتات مطالبة بتحرير فلسطين، بدا وكأنهم عقدوا لقاءً على غرار 6 يناير. وعلى الرغم من كل ادعاءاتهم بالعزلة في بحر من التعاطف مع فلسطين، فإن اليهود المؤيدين لإسرائيل، مثل الدولة نفسها، لديهم حلفاء أقوياء في واشنطن، وفي الإدارة الأمريكية، وفي مجالس الجامعات.

إن ردود الفعل المفرطة والعسكرية على الاعتصامات في كولومبيا وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وأماكن أخرى، إلى جانب ردود الفعل الغاضبة من الحكومات البريطانية والألمانية والفرنسية على المظاهرات في لندن وباريس وبرلين، هي مقياس للتأثير المتزايد للحركة. وعلى حد تعبير ريجيس دوبريه فإن "الثورة تؤدي إلى تثوير الثورة المضادة".

وهو تطور مقلق بالنسبة لأي شخص يهتم بحرية التعبير وحرية التجمع، وكان إخلاء الشرطة مخيمات اعتصامات الطلاب بمثابة تذكير بأن خطاب "المساحات الآمنة" يمكن أن يفسح المجال أمام سيطرة الجناح اليميني على تلك المساحات. كما أن مشروع قانون معاداة السامية الذي تم إقراره مؤخرًا في مجلس النواب يهدد بخنق الخطاب المؤيد للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية، حيث يمكن أن تصبح إدارات الجامعات مسؤولة عن فشل التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست في فرض تعريف معاداة السامية، الذي يخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية.

مثله مثل الإجراءات المناهضة لمقاطعة إسرائيل التي تبنتها أكثر من ثلاثين دولة، فإن قانون التوعية بمعاداة السامية هو تعبير عما وصفته سوزان نيمان، التي كتبت عن قمع ألمانيا لدعم الحقوق الفلسطينية، بـ"المكارثية المحبّة للسامية"، وسوف يؤدي بالتأكيد إلى المزيد من معاداة السامية، لأنه يعامل الطلاب اليهود كأقلية مميزة، يتطلب شعورها بالأمان حماية قانونية خاصة.

يزيد من لا معقولية النقاش في الولايات المتحدة أن تهمة معاداة السامية يتم استخدامها سلاحًا بيد الإنجيليين اليمينيين، الذين توحدت مصالحهم مع القوميين البيض والمعادين الفعليين للسامية، في حين يضطر السياسيون الليبراليون الديمقراطيون للصمت مرغمين.

التواطؤ

بعد أن قام ضابط شرطة في مدينة نيويورك بإنزال العلم الفلسطيني في سيتي كوليدج واستبدال العلم الأمريكي به، قال عمدة المدينة إريك آدامز "لوموني لكوني فخورًا بكوني أمريكيًا ... نحن لا نتنازل عن أسلوب حياتنا لأيٍّ مَن كان".

كان هذا بطبيعة الحال تعبيرًا مثيرًا للسخرية يعكس كرهًا للأجانب، ومن الصعب تصوُّر أن آدامز، أو أي سياسي أمريكي، قد يدلي بتصريح مشابه بشأن أولئك الذين يلوحون بالعلم الأوكراني مثلًا. أما شرطة نيويورك، فقامت بتصوير عملية إخلاء حرم جامعة كولومبيا من اعتصام الطلاب في فيديو ترويجي، كما لو كانت عملية مداهمة لمكافحة الإرهاب.

لكن هذا يدل على العنصرية العفوية، التي غالبًا ما تكون مصحوبة بالتحيز ضد المسلمين والعرب، الذي لطالما كان موجهًا ضد الفلسطينيين. أُطلق على إدوارد سعيد لقب أستاذ الإرهاب، كما أَطلق عليه قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا لقب "بيرزيت على نهر هدسون".

باري فايس، التي كانت تكتب عمودًا في صحيفة نيويورك تايمز، والتي تعتبر نفسها "مناضلة من أجل حرية التعبير"، بح صوتها عندما كانت طالبة في جامعة كولومبيا وهي تحاول طرد أعضاء هيئة التدريس في قسم دراسات الشرق الأوسط. تلك الحملة ضد الأساتذة الفلسطينيين، التي ساعدت في إرساء الأساس الفكري للهجوم على مخيمات الاعتصام في الجامعات، ذات دلالة.

أخطأ ياسر عرفات عندما قال إن سلاح الفلسطينيين الأعظم هو رَحِمُ المرأة الفلسطينية، فالحقيقة إنه معرفة وتوثيق ما فعلته إسرائيل، وما تفعله، بالشعب الفلسطيني. ومن هنا جاء نهب إسرائيل لمركز الأبحاث الفلسطيني أثناء غزو لبنان عام 1982، ومن هنا جاءت الهجمات على الأساتذة الذين يسلطون الضوء على تاريخ يُفضل البعض إخفاءه.

هل انزلقت بعض الخطابات في الجامعات الأمريكية إلى معاداة السامية؟ هل تعرَّض بعض اليهود المؤيدين لإسرائيل للتنمر الجسدي أو اللفظي؟ نعم، على الرغم من أن مدى المضايقات ضد اليهود لا يزال غير معروف.

هناك أيضًا سؤال، طرحه شاؤول ماجد في كتابه ضرورة المنفى/The Necessity of Exile، حول ما إذا كانت "المظلة الوحيدة لمعاداة السامية" هي أفضل ما يصف كل هذه الأحداث. ويتساءل ماجد "ما هي معاداة السامية إذا لم تعد مصحوبة بالقمع؟ ما الذي يشكل معاداة للسامية عندما يكون اليهود في الواقع هم القائمين بالاضطهاد؟".

وسط كل الاهتمام المتزايد بهشاشة وضع اليهود، لم يكن هناك سوى القليل من النقاش حول هشاشة وضع الطلاب الفلسطينيين والعرب والمسلمين، ناهيك عن تكليف لجنة أكاديمية أو سن مشروع قانون لمجابهة ما يتعرضون له. مثلًا، على عكس اليهود، يتعين على الفلسطينيين إثبات حقهم في مجرد الوجود داخل الحرم الجامعي. يخاطر الفلسطينيون، خاصة إذا شاركوا في الاحتجاجات، بأن يُنظر إليهم على أنهم "متسللون" من أرض أجنبية.

في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تعرض ثلاثة طلاب فلسطينيين كانوا يزورون أقاربهم في ولاية فيرمونت لإطلاق النار على يد متعصب عنصري؛ أحدهم سوف يعيش مشلولًا بقية حياته. لكن بايدن لم يرد على هذا الهجوم، أو غيره من الهجمات على المسلمين، قائلًا "إن الصمت تواطؤ"، كما فعل بشأن معاداة السامية.


في الواقع، كان رفض الصمت، ورفض التواطؤ، هو ما دفع الطلاب من جميع الخلفيات إلى الخروج للشوارع للاحتجاج، مُخاطرين بمستقبلهم أكثر بكثير مما كانت المخاطرة أثناء الاحتجاجات عام 2020 ضد قتل الشرطة للسود في الولايات المتحدة. إن النخبة الليبرالية تتبنى معارضة العنصرية ضد السود، ولكن صدرها لا يتسع لمعارضة حروب إسرائيل المتعاقبة على فلسطين.

تحدى الطلاب صعوبة جمع المعلومات، وازدراء إدارات جامعاتهم، وعنف الشرطة، وفي بعض الحالات الطرد من الجامعة. بل وأعلنت شركات محاماة بارزة أنها لن تقوم بتوظيف الطلاب الذين شاركوا في مخيمات اعتصام الجامعات. احتقرتهم الإدارة السياسية الأمريكية والصحافة السائدة أيما احتقار. قلل المعلقون الليبراليون من شأن الطلاب ووصفوهم بأنهم "مرفهون"، على الرغم من أن العديد منهم، خاصة في الكليات الحكومية، جاءوا من خلفيات فقيرة ومن الطبقة العاملة؛ وزعم البعض أن الاحتجاجات كانت في نهاية المطاف تتعلق بأمريكا، وليس بالشرق الأوسط. والحقيقة أن الأمر كان يتعلق بالاثنين معًا.

كما اتُهم المتظاهرون بجعل اليهود يشعرون بعدم الأمان لمجرد إدانتهم المتكررة للصهيونية. واتهموا بالتبجح، والانخراط في خيال التمرد على غرار عام 1968، وبتجاهل وحشية حماس وحتى تبريرها، واتُهموا كذلك بإضفاء طابع رومانسي على النضال المُسلح في دعوتهم إلى "عولمة الانتفاضة"، وأن حماسة التلاميذ التابعين استحوذت عليهم وأعمت عيونهم عن تعقيدات الحرب التي شاركت فيها أطراف متعددة، وليس فقط إسرائيل وغزة.

هناك، بطبيعة الحال، قدر من الحقيقة في هذه الانتقادات. مثلًا عبارة "وقف تمويل الشرطة"، وكذلك عبارة "من النهر إلى البحر"، فهي جذابة في حكمها المطلق، ولكنها غامضة بشكل خطير، فتصبح كوقود للخصوم اليمينيين الذين يبحثون عن أدلة على دعوات "الإبادة الجماعية" ضد اليهود. وكان هناك أيضًا، كما هو الحال دائمًا، بُعد مسرحي للاحتجاجات، حيث تخيل بعض الطلاب أنفسهم جزءًا من نفس الدراما التي تتصاعد في غزة، فخلطوا بين الإزالة العنيفة لمخيم الاعتصام الجامعي، والتدمير العنيف لمخيمات اللاجئين.

لكن الهجمات على المتظاهرين، سواء بسبب كونهم "مرفهين" أو متعصبين أو بسبب عدائهم المفترض لليهود، لم تكن تصويرًا عادلًا لحركة واسعة النطاق تضم الفلسطينيين واليهود والأمريكيين الأفارقة واللاتينيين والمسيحيين والملحدين.

وعلى الرغم من كل أخطائهم، لفت الطلاب الانتباه إلى أمور بدت وكأنها غائبة عن منتقديهم: فُحش الحرب الإسرائيلية على غزة؛ وتواطؤ حكومتهم في تسليح إسرائيل وتسهيل المذبحة؛ ونفاق ادعاء أمريكا بالدفاع عن حقوق الإنسان والنظام الدولي القائم على القواعد في حين تعطي إسرائيل تفويضًا مطلقًا؛ والحاجة الملحة لوقف إطلاق النار.

ولم تخفهم مقارنة نتنياهو البشعة بين الاحتجاجات والتعبئة المناهضة لليهود في الجامعات الألمانية في الثلاثينيات، حيث لم يكن أحدٌ يحمل لافتات. إذا فاز ترامب، فسيتم إلقاء اللوم عليهم، جنبًا إلى جنب مع الناخبين العرب والمسلمين الذين لا يستطيعون التصويت لرئيس سلّح بيبي. لكنهم يستحقون الثناء على حشد الدعم لوقف إطلاق النار والمساعدة في تغيير الخطاب بشأن فلسطين.

سوف يكون تدمير غزة بمثابة تكوين لهم، كما كانت النضالات ضد حرب فيتنام، والفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وحرب العراق بالنسبة للأجيال السابقة. إن صورتهم للطفلة التي قُتلت على يد دولة إبادة جماعية لن تكون آن فرانك، بل هند رجب، الفتاة البالغة من العمر ستة أعوام التي قُتلت بنيران دبابة إسرائيلية بينما كانت تجلس في سيارة تطلب المساعدة، وتحيط بها جثث أقاربها المقتولين.

وعندما يهتفون "كلنا فلسطينيون"، فإنهم يتأثرون بنفس الشعور بالتضامن الذي دفع الطلاب في عام 1968 إلى ترديد "نحن جميعًا يهود ألمان" بعد طرد الزعيم الطلابي اليهودي الألماني دانييل كوهن بنديت من فرنسا. هذه مشاعر لا يمكن لأي مجموعة من الضحايا أن تظل هي المستفيدة منها إلى الأبد، ولا حتى أحفاد اليهود الأوروبيين الذين لقوا حتفهم في معسكرات الموت النازية.


وكما قال المؤرخ إنزو ترافيرسو، فإن نسخة معينة من ذكرى الهولوكوست، التي تتمحور حول المعاناة اليهودية والتأسيس "الإعجازي" لإسرائيل، كانت بمثابة "ديانة مدنية" في الغرب منذ السبعينيات. لم يكن الناس في الجنوب العالمي أبدًا من رعية هذه الكنيسة، لأسباب عدة، ليس أقلها أنها مرتبطة برد الفعل الدفاعي عن دولة إسرائيل، الذي يوصف في ألمانيا بأنه مبرر تأسيس دولة إسرائيل/Staatsräson بالنسبة للعديد من اليهود، الغارقين في السرد الصهيوني عن الاضطهاد اليهودي والخلاص الإسرائيلي، الذين يُشجعون على الاعتقاد بأن عام 1939 قد يكون قاب قوسين أو أدنى.

لذلك، فإن كون الفلسطينيين، وليس الإسرائيليون، هم من يُنظر إليهم اليوم من قبل معظم الناس على أنهم في الوضع نفسه الذي كان عليه اليهود أنفسهم ذات يوم، كضحايا للقمع والاضطهاد، كلاجئين عديمي الجنسية، هو أمر يشكل صدمة.

رد فعلهم، بطبيعة الحال، هو إعادة توجيه الحديث نحو الهولوكوست، أو إلى أحداث 7 أكتوبر. لا ينبغي تجاهل هذه المخاوف. ولكن، كما كتب جيمس بالدوين في أواخر الستينيات "لا يرغب المرء... أن يخبره يهودي أمريكي أن معاناته كبيرة مثل معاناة الزنجي الأمريكي. إنها ليست كذلك، ويدرك المرء أنها ليست من نفس النبرة التي يؤكد لك بها أنها كذلك".

السؤال هو كيف يمكن لهذه الحركات، إن كان ذلك ممكنًا، أن تساعد في إنهاء الحرب في غزة، وإنهاء الاحتلال ومصفوفة السيطرة القمعية التي تؤثر على كل الفلسطينيين، بما في ذلك المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل، الذين يشكلون خُمس السكان.

في حين أن عدالة القضية الفلسطينية لم تتمتع قط باعتراف أوسع أو أكثر عالمية، وفي حين لم تجتذب حركة مقاطعة إسرائيل-التي يذمها المدافعون عن إسرائيل باعتبارها "معادية للسامية" و"إرهابية"- دعمًا مماثلًا على الإطلاق؛ فإن الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها في حالة فوضى كاملة تقريبًا. فالسلطة الفلسطينية هي سلطة بالاسم فقط، وهي شرطي إسرائيلي افتراضي، مكروه ومحل سخرية أولئك الذين يعيشون في ظله.

فالسلطة الفلسطينية لم تكن قادرةً على حماية الفلسطينيين في الضفة الغربية من هجمات المستوطنين وعنف الجيش الذي أودى بحياة خمسمائة فلسطيني في الأشهر الثمانية الماضية وأسفر عن سرقة أكثر من 37 ألف فدان من الأراضي، الأمر الذي بات يزحف على غزة. كما يخضع الفلسطينيون داخل إسرائيل لمراقبة مكثفة، ويتعرضون لخطر الاتهام بالخيانة، ويتُركون تحت رحمة العصابات الإجرامية التي تستبد على نحو متزايد بالمدن العربية.

اليوم الطويل التالي

يبدو مستقبل غزة أكثر قتامةً، حتى في حالة التوصل إلى هدنة طويلة الأمد أو وقف لإطلاق النار. فهي في تصور "غزة 2035"، الذي عممه مكتب نتنياهو، تبدو منطقة تجارة حرة على الطراز الخليجي، أما جاريد كوشنر فيضع نصب عينيه مشروع تطوير الواجهة البحرية للقطاع، بينما يصر اليمين الإسرائيلي على إعادة المستوطنات.

أما بالنسبة للناجين من الهجوم الإسرائيلي، فيتوقع أستاذ العلوم السياسية ناثان براون أنهم سوف يعيشون في "معسكر ضخم"، حيث، كما ذكر في كتابه الطوفان/Deluge، وهو مجموعة من المقالات حول الحرب الحالية، "القانون والنظام... من المرجح أن يديرهما، هذا إذا تمت إدارتها من الأساس، لجان المخيم والعصابات التي سوف تنصب نفسها بنفسها". ويضيف "ولا يبدو هذا أشبه باليوم التالي للصراع بقدر ما يبدو وكأنه شفق طويل من التفكك واليأس".

إن التفكك واليأس هما بطبيعة الحال الظروف التي تشجع "الإرهاب" الذي تدعي إسرائيل أنها تحاربه. وسيكون من السهل على الناجين من غزة أن يستسلموا لإغوائه، خاصة وأنهم لم يُمنحوا أي أمل في حياة أفضل، ناهيك عن دولة، ولم يحصلوا سوى على محاضرات حول وجوب التوقف عن حفر الأنفاق لتحويل القطاع إلى دبي.

على مدى الأشهر الثمانية الماضية، أصبحت فلسطين في نظر الطلاب الأمريكيين والبريطانيين ما تمثله أوكرانيا بالنسبة لليبراليين: رمزًا نقيًا للنضال ضد العدوان. ولكن مثلما يتجاهل المعجبون بزيلينسكي العناصر غير الليبرالية في الحركة الوطنية، يميل كذلك أنصار فلسطين إلى التغاضي عن وحشية حماس، ليس فقط ضد اليهود الإسرائيليين ولكن ضد منتقديها الفلسطينيين. وكما قال إسحاق دويتشر، إنه على الرغم أنه من غير الممكن وضع "النزعة القومية للمُستَغَلين والُمضطَهَدين على نفس مقياس المعيار الأخلاقي السياسي للنزعة القومية للغزاة والمُضطهِدِين"، إلا أنه "لا ينبغي النظر إليها دون نقد".

في كتابه حرب المئة عام على فلسطين/The Hundred Years’ War on Palestine، الصادر في 2020، يكتب رشيد خالدي أنه عندما زار الناشط الباكستاني إقبال أحمد قواعد منظمة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان، "عاد بنقد أربك أولئك الذين طلبوا نصيحته". وبينما كان مؤيدًا من حيث المبدأ للكفاح المسلح ضد الأنظمة الاستعمارية مثل النظام في الجزائر، إلا أنه تساءل عما إذا كان الكفاح المسلح هو المسار الصحيح للعمل ضد خصم منظمة التحرير الفلسطينية، إسرائيل.

وكانت وجهة نظر إقبال أحمد "أن استخدام القوة فقط عزز شعور الضحية الموجود مسبقًا والمنتشر بين الإسرائيليين، ووحد المجتمع الإسرائيلي، وعزز النزعات الصهيونية الأكثر راديكالية، ودعم كذلك الجهات الفاعلة الخارجية". لم ينكر أحمد حق الفلسطينيين في الانخراط في المقاومة المسلحة، لكنه كان يعتقد أنه ينبغي ممارسته بذكاء، لخلق انقسامات بين اليهود الإسرائيليين الذين لا بد من التوصل معهم في نهاية المطاف إلى تسوية؛ صيغة تحررية جديدة تقوم على التعايش والاعتراف المتبادل والعدالة.

من الصعب اليوم أن نتصور تحالفًا بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين التقدميين من ذلك النوع الذي ظهر خلال الانتفاضة الأولى. صحيح أن المجموعات التي تسعى إلى العمل المشترك بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا تزال موجودة، لكنها أصغر من أي وقت مضى، وتواجه الحصار والتخريب: اختفى المدافعون عن ثنائية القومية التي رسمتها شخصيات مختلفة مثل يهودا ماجنيس وإدوارد سعيد وتوني جَت وعزمي بشارة.

ومع ذلك فإن المرء يتساءل ما الذي كان سيقوله إقبال أحمد عن الغارة المشهدية المذهلة التي شنتها حماس في السابع من أكتوبر؛ هجوم جريء على قواعد إسرائيلية تطور إلى مذابح بشعة في حفل غنائي وفي الكيبوتسات. لا يمكن إنكار تأثيرها على المدى القصير: لقد أعادت عملية طوفان الأقصى قضية فلسطين إلى جدول الأعمال الدولي، وخرّبت تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، وحطمت كلًا من أسطورة الاحتلال المجاني وأسطورة إسرائيل التي لا تُقهر.

لكن يبدو أن مهندسي العملية، يحيى السنوار ومحمد الضيف، لم تكن لديهما خطة لحماية سكان غزة مما سيأتي بعد ذلك. ومثلهم مثل نتنياهو، الذي ظهروا معه مؤخرًا على قائمة المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، فإنهم تكتيكيون لا يرحمون، قادرون على ارتكاب أعمال عنف وحشية ومروعة بينما يفتقرون إلى الرؤية الاستراتيجية.

"غدًا سوف يكون يومًا مختلفًا"، هذا ما وعد به الضيف في بيانه الصادر في 7 أكتوبر، وكان محقًا. ولكن الفارق، بعد الحماسة الأولية التي جلبتها عملية الهروب من السجن، أصبح الآن مجسدًا في أنقاض غزة.

بعد ثمانية أشهر من 7 أكتوبر، لا تزال فلسطين رهينة في قبضة، وتحت رحمة، دولة يهودية انتقامية غاضبة، ملتزمة أكثر من أي وقت مضى بمشروعها الاستعماري، تزدري الانتقادات الدولية، وتبسط إرادتها على شعب تحول إلى غرباء في وطنهم أو إلى ناجين عاجزين، ينتظرون تسلُّم الحصة التالية من الإعاشة.

وبينما استفادت الدولة، التي تطلق على نفسها "الدولة الناشئة"، من تطور أسلحتها الرقابية في صفقات مربحة مع الدكتاتوريات العربية، وقدمت تدريبات على مكافحة التمرد لفرق الشرطة الزائرة، إلا أن نزعتها العسكرية الغريزية لا تترك مجالًا لمبادرات جديدة. لا تستطيع إسرائيل أن تتخيل مستقبلًا مع جيرانها أو مواطنيها الفلسطينيين لا تعتمد فيه على القوة بعد الآن.

إن الجدار الحديدي ليس مجرد استراتيجية دفاعية: إنه المساحة المريحة لإسرائيل. إن سياسة حافة الهاوية التي ينتهجها نتنياهو مع إيران وحزب الله هي أكثر من مجرد محاولة للبقاء في السلطة؛ إنه امتداد كلاسيكي لسياسة موشيه ديان المتمثلة في "الدفاع الفعال". ولن يتوقف العنف ما لم توقف الولايات المتحدة إمدادات السلاح وتغلّ يد إسرائيل. ولكن من غير المرجح أن يحدث هذا في أي وقت قريب: فمن المقرر أن يلقي نتنياهو كلمة أمام الكونجرس في 24 يوليو/تموز، بعدما تلقى دعوة غير رسمية من الحزبين الديمقراطي والجمهوري لمشاركة "رؤيته للدفاع عن الديمقراطية، ومكافحة الإرهاب، وإرساء سلام عادل ودائم في المنطقة".

وقوبلت دعوة بايدن لوقف إطلاق النار برفض جديد مهين مِن قبل نتنياهو، الذي يعلم أن الإدارة الأمريكية ليست على وشك تعليق المساعدات العسكرية أو مراعاة أي من "الخطوط الحمراء" التي تتعلق بالمساعدات.

لكن حركة مخيمات اعتصامات الجامعات، والمعارضة المتزايدة بين القادة الديمقراطيين التقدميين من رشيدة طليب إلى بيرني ساندرز، تنبئ بمستقبل لن توفر فيه واشنطن الأسلحة والغطاء الدبلوماسي لجرائم إسرائيل. ويبقى أن نرى ما إذا كان الفلسطينيون سيتمكنون من التمسك بأراضيهم حتى ذلك اليوم، في مواجهة المستوطنين المتعصبين ومؤيدي التطهير العرقي الذين استولوا على الدولة الإسرائيلية.