تصميم: أحمد بلال - المنصة
ياسر عرفات ومحمود عباس ومحمد دحلان

الأفق الفلسطيني بين لحظتين| حتى لا تسقط بقايا الجدار فوق رؤوسنا

منشور الثلاثاء 17 ديسمبر 2024

حكى المؤرخ إيلان بابيه، الذي ناقشتُ بعضًا من أطروحاته في الجزأين الأولين من هذه السلسلة، أنه نبَّه، مع آخرين، عرفات، لمخاطر مسار أوسلو، وتأثيره السلبي على القضية الفلسطينية. ذات مرة، رد عليه أبو عمار بما كان يتصور أنه "القول الحسم"، أو "الحجة الدامغة"، قائلًا إنه سيكون في الداخل الفلسطيني، ما يعني انتقال الثورة الفلسطينية، بقواها وإمكاناتها ومؤسساتها للنضال من الداخل لا من الشتات. على الأغلب استقر في ذهن أبو عمار أن الثورة الفلسطينية ستصير أقوى، بمجرد عودته للأرض المحتلة.

اتفاق أوسلو وانتقال "البعض" للداخل، وما تلى ذلك من اتفاقيات، وصولًا لتوقف مسار التفاوض مع الانتفاضة الثانية، ثم موت عرفات، كانت كلها بمثابة إعلان هزيمة مشروع البرجوازية الفلسطينية، وقبولها بأقل مما كانت تطمح له قبل هذا الاتفاق بثلاثة عقود؛ أقل بكثير.

فبدلًا من مشروعها القديم، فلسطين من النهر إلى البحر، الذي فُرض عليه الانكماش والتواضع مع مرور السنين حتى اختُزل في مجرد مشروع دولة مستقلة صغيرة على حدود 1967، اكتفت البرجوازية الفلسطينية بأن تحظى بـ"كانتون" ليس أكثر، تمارس فيه بعض الصلاحيات الإدارية، دون أن تتمكن من تطوير مشروع اقتصادي وسياسي ولو متواضع، يضمن مصالحها وسيطرتها على هذا القطاع من الشعب، الذي منحته لها إسرائيل لتمارس سلطتها الإدارية والبوليسية عليه.

من عرفات إلى دحلان وأبو مازن

ياسر عرفات- رسم: هشام عبد الحميد- المنصة

الفئات البرجوازية الهشة، أو الشرائح الأعلى اقتصاديًا واجتماعيًا من الفلسطينيين، التي ترعرعت أساسًا في الخليج، كان ممثلها الأوضح جناح عرفات في حركة فتح. هذه الفئات هي التي أسست الحركة مطلع الستينيات، لتعلن عن وجودها بداية يناير/كانون الثاني 1965. ودون أن ترتقي لمستوى تشكيل طبقة اجتماعية؛ مكنتها الأنظمة العربية، وبالذات نظام عبد الناصر، من أن تكون لها الغلبة في منظمة التحرير الفلسطينية.

هذه الفئات كانت تعي جيدًا مشروعها؛ مواكبة مشروع البرجوازيات العربية في الاستقلال وبناء مشاريعها الاقتصادية/المالية الخاصة، دون الدخول في صدامات مع قطاعات فلسطينية أخرى، أو مع أنظمة عربية لها توجهات متنوعة ومتناقضة. ولذلك حرصت على أن يكون برنامجها وخطابها السياسيان فضفاضين حمَّالي أوجه، تُمكن قراءتهما من اليمين ومن اليسار؛ أن يُرضيا، على سبيل المثال، عبد الناصر ونقيضه السعودي في الوقت نفسه.

ومع انهيار مشروع البرجوازية المصرية الاستقلالي نفسه بهزيمة 1967، ثم هزائم فتح ومنظمة التحرير المتتالية، وتورطهما في مواجهات حقيقية، وفرضِ أطرافٍ عربيةٍ عليهما تحديد المواقع بالتحالف أو العداء، تحطمت تدريجيًا طموحات البرجوازية الفلسطينية التي مثلتها فتح كمنظمة سياسية وعسكرية، وكمؤسسة. اكتشفت مع هزائمها المتتالية أنه ليس بإمكانها أن تطمح أن تكون أكثر من وكيل محلي للرأسمالية العالمية في الضفة وغزة. ووكيل غير ذي أهمية مقارنة بمن يحيطون به؛ مصر والأردن ولبنان والسعودية، وإسرائيل نفسها.

الانحدار نفسه نستطيع أن نرى مساره في مشروع دولة يوليو؛ من بناء السد العالي ومصنع الحديد والصلب، وصولًا إلى تحوُّل الرأسمالية المصرية إلى مجرد وكيل محلي للأمريكيين والأوروبيين في زمن السادات ومبادرته وانفتاحه.

السلطة الفلسطينية تحولت إلى وكيل إسرائيل في الحكم الإداري والقمعي لكانتونات الضفة وغزة المعزولة

في الحالة الفلسطينية الفتحاوية لم يكن لمسار أوسلو سوى أن يقود لتحوُّل شبيه، وإن كان أكثر دراماتيكية وتفاهة، من أن يكون ممثلوها أبو جهاد وأبو إياد وأبو يوسف النجار وكمال عدوان، وغيرهم ممن أسسوا وقادوا فتح، وصولًا إلى أبو مازن ودحلان. أي أن تصبح وكيلًا لدولة إسرائيل في الحكم الإداري والقمعي لكانتونات الضفة وغزة المعزولة، التي لا تشكل أي أساس لدولة.

أشرت قبل شهور لما رواه إدوارد سعيد، أن عرفات عشية توقيع اتفاق أوسلو كان يتوسل إلى الإسرائيليين بأن يسمحوا له بحمل لقب "الرئيس"، وأن توضع صورته على طوابع البريد. ولم يمنحوه هذا ولا ذاك. أما عودته للداخل مع رجاله، وبالذات في القطاعين البيروقراطي والأمني، بعد أن صفَّت إسرائيل واغتالت كل من لم يكونوا ليرضوا بدور الوكيل الإسرائيلي من المحيطين به، فلم تكن إضافةً للثورة الفلسطينية، أو للانتفاضة الأولى، بل خصمت منها ومن رصيدها، وجعلت قياداتها الحقيقيين محاصرين في كل المواقع وعزلتهم، وأعلنت أخيرًا نهايتها، فقد جاءت الدولة.

الاستقلال على بعد آلاف الكيلومترات

أشرت في المقال الأول من هذه السلسلة إلى المناسبة التي دُعي في سياقها إيلان بابيه لمدريد لإلقاء محاضرته. وهي ذكرى إعلان المجلس الوطني الفلسطيني استقلال دولة فلسطين، في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1988، من الجزائر، التي تفصلها عن حدود فلسطين دولتان. وحكيت أنه لم يلتفت لها أو يعلق عليها، وتجاهلها كذلك الحضور في تعليقاتهم وأسئلتهم. وحكيت أنه لم يلتفت لها أو يعلق عليها، وتجاهلها كذلك الحضور في تعليقاتهم وأسئلتهم. وهو ما لفت انتباهي بشكل خاص، وكأن في هذا الإعلان، أو هذه الخطوة السياسية، ما لا نود الحديث عنه لأنه سيصدم المستمعين والقراء.

خلال الانتفاضة الأولى، وكأنه تتويج لها، بينما في الحقيقة كان بداية الخصم من رصيدها، أتى إعلان الاستقلال الذي تضمَّن الاعتراف بإسرائيل. كتب صياغته النهائية محمود درويش، ودعمه إدوارد سعيد قبل انفصاله النهائي عن عرفات بسبب مسار أوسلو ثم نقده لهذا الإعلان لاحقًا، حين تبينت ملامح المسار الذي دشنه.

يعتمد إعلان الاستقلال على الرصيد السياسي والأخلاقي العالمي الذي كسبته الانتفاضة الأولى، وعلى زخمها. فيبدو عرفات، وهو يقرؤه، كأنه قائد هذه الانتفاضة، فيقول في منتصفه إن "المجلس الوطني يُعلن، باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني، قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف". ويعتمد الإعلان كذلك على ما طمحت في أكثر منه بكثير هذه الانتفاضة، والثورة الفلسطينية في مجمل مسارها، وهو قرار التقسيم 181 الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947.

ربما كان الإعلان مفيدًا للمعارك السياسية الدبلوماسية الخارجية، من ناحية اعتراف دول عديدة بهذه الدولة الجديدة بناء على قرار التقسيم القديم. وهو ما يشكل ضغطًا سياسيًا على إسرائيل. لكن البرنامج السياسي المصاحب لهذا الإعلان، كان يحمل في طياته ما يناقض هذا الإعلان نفسه. فقد تمحور حول قراري 242 لعام 1967، وقرار 338 لعام 1973، والتفاوض على أساسهما. أي ما هو أقل من 181 الوارد في الإعلان نفسه.

لم توافق كل الفصائل الفلسطينية على هذا البرنامج السياسي. كان أهم الرافضين داخل المجلس الوطني الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن خارج المجلس ومنظمة التحرير، كانت حماس حديثة النشأة من ضمنهم أيضًا.

تكرست الطموحات الهزيلة للقطاع البرجوازي الذي يمثله عرفات في أنه يتسول بعد الإعلان، ومن جنيف، الإدارة الأمريكية، بأن تتحاور معه على أساس قرارات لا تتضمن حقي العودة وتقرير المصير للشعب الفلسطيني. وهو ما وافقت عليه بالطبع الإدارة الأمريكية، كونه ينسف حق المرأة الفلسطينية التي كتبت عنها منذ أسبوعين، وتريد العودة لبلدتها الأصلية، شفا عمرو المحتلة 1948، وليس غزة المحتلة 1967.

مرة أخرى وللأبد.. من النهر إلى البحر

تحاول إسرائيل، مثلما يشير إيلان بابيه، تصوير السابع من أكتوبر بدايةً للمأساة الفلسطينية، بأن تنزعه عن سياقه التاريخي، وكأن قبله لم تكن هناك إبادة وتطهير عرقي منذ 75 عامًا، وإصرار فلسطيني شعبي، ليس على حل الدولتين، بل على الحقين الأساسيين المعترف بهما دوليًا؛ العودة وتقرير المصير. ولأن هذه الصورة إسرائيلية في جوهرها، وتعتمد على جهل المتلقي وتزييف التاريخ، فلن أناقشها، مكتفيًا بالتذكير بدعوة بابيه؛ أن ننسف ما تعلمناه.

لا تعود جذور المأساة الفلسطينية الحالية لأوسلو، أو لإعلان الاستقلال قبله بأعوام، بل للستينيات، مع سيطرة طبقة اجتماعية محددة على موقع القيادة لمجمل نضالات الشعب الفلسطيني. طبقة انهارت مع الوقت، وتحللت، وتحول ممثلوها لمجموعة من المغامرين والنصابين والمنتفعين. لذلك علينا أن ننسف البديهيات؛ هذه الطبقة نفسها التي مثّلها عرفات، وانحدرت، لم يكن لها أن تقود النضال الفلسطيني من الأساس. وإن كان لها المشاركة في الوحدة الوطنية العريضة، فليس من موقع القيادة والقوة والنفوذ المالي.

تتوسل بواقي البرجوازية الفلسطينية التي تحكم بضعة حاراتٍ للأوروبيين بأن يعترفوا بها كدولة

نسف ما تعلمناه بتعبيرات بابيه لا يقف هنا، بل يمتد لأنفسنا، لنسف بديهيات تقديس الشخصيات التاريخية. يمتد لأن يتحمل من لعبوا أدوارًا كارثية مسؤوليتهم التاريخية، حتى وإن ماتوا. فإن كانت دولة إسرائيل جدارًا تدب فيه الشروخ وسينهار، فهناك جدار آخر؛ جدار مشروع أوسلو الذي انهار مع الانتفاضة الثانية، وتقوم الآن إسرائيل بالإعلان عالميًا عن انهياره التام بعداد دم لا يتوقف، وعلى أشلاء عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

المفارقة التاريخية المأساوية والدموية أن جدار أوسلو لم يسقط في البحر، أو كمجرد اتفاقيات ستكون نتائج نهايتها، كما صور الداعون لها وقتها، إعادة إبعاد "المناضلين" إلى الخارج. لكنه انهار على مدى هذه السنوات الطويلة مسببًا الأذى والضرر للشعب الفلسطيني بالأساس.

وها هي بقاياه اليوم تنهار فوق رؤوس الفلسطينيين في الداخل، وأمام بقايا سلطة حكم ذاتي إداري فاسدة، تتركها إسرائيل في مكاتبها، رغم قدرتها على إزاحتها في ساعات قليلة، كشاهد على الخراب، وكواجهة ربما تحتاجها مستقبلًا، وهو ما حدث سابقًا، ويتكرر هذه الأيام، من عمليات اعتقال واغتيال تنفذها قوات أمن السلطة، ضد المقاومة في مخيم جنين.

وبينما تنسف إسرائيل وهم حل الدولتين، هذا المشروع الذي اعترف به المجلس الوطني الفلسطيني رغم استحالة تحقيقه، تظل بواقي البرجوازية الفلسطينية التي تحكم بعض الحارات في رام الله، تتوسل من الأوروبيين أن يعترفوا بها كدولة على قطاع غزة المدمر، وبعض قرى ومخيمات الضفة، وكأن حل الدولتين سيتحقق بهذا الشكل.

لن تمنح إسرائيل أبو مازن أبدًا هذا الحلم المبتسر، مثلما لم تسمح لعرفات بأن يضع صورته على طوابع البريد، ليبقى محمود عباس وسلطته مجرد شاهدين على ماضٍ يجسد المهارة الإسرائيلية، بعرقلة مفاوضاتها مع ممثلي الداخل الحقيقيين في مدريد، من كانوا يضغطون بانتفاضتهم لانسحاب إسرائيلي غير مشروط من الضفة وغزة دون اعتراف بحدود 1967، لتتفاوض مع من هم أضعف منهم في أوسلو.

هناك نموذج حقيقي وموجود ومتاح لحل كل هذه الأزمة والصراع الممتد منذ 75 عامًا، ليس حل الدولتين المستحيل وغير العادل. بل أن نزيل ما تم تلقيننا إياه، ونطرح التصور الواقعي؛ فلسطين قبل 1948، من النهر إلى البحر. وأن نستعد بالبديل لهذا الجدار/إسرائيل بعد أن ينهار، حتى لا ينهار بدوره فوق رؤوسنا مثلما فعل جدار أوسلو.

هنا أتفق مع بابيه؛ الهدف هو فلسطين، حيث عاش الجميع من مختلف الأديان والمعتقدات في سلام. هذا هو النموذج. والالتزام بالدفاع عنه، والدفع باتجاهه، قبل أن يحتاج لتفاؤل تاريخي، يحتاج لالتزام أخلاقي، تسببت الإبادة في أن تتبناه قطاعات عالمية جديدة مع كل يوم جديد. التزام أخلاقي بحق الشعب الفلسطيني في الحياة والعدالة ومن ثم السلام.