تعاقبت على قيادة المواجهة مع دولة إسرائيل منذ إنشائها وحتى الآن دولتان من نوعين مختلفين؛ دولة يوليو في مصر خلال الفترة الناصرية وحتى مبادرة السلام وزيارة السادات إلى القدس عام 1977، ودولة ولاية الفقيه في إيران منذ انتهاء حربها مع العراق عام 1988.
أما بين هاتين المرحلتين؛ فتولت القيادة "جبهة الصمود والتصدي"، التي تكوّنت من خمس دول عربية أهمها سوريا الأسد وعراق صدام حسين. أعلنت الجبهة رفضها معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، لكنَّ ما قادته كان مواجهة محدودة، لم تتعدَّ كثيرًا حدود النوايا.
تأسس كلا النظامين في مصر وإيران على ثورة، على ما بينهما فوارق مهمة. وأجرى كلاهما تحولات سياسية جذرية، وطرحا رؤىً فيما يتعلق بأوضاع المنطقة ودخلا في صراعات بشأنها. ومع ذلك، هناك فروق جوهرية بين سياساتهما الإقليمية، هي موضوع هذا المقال.
المكانة والدوافع
من جهة أولى، كانت الرؤية الأساسية التي طرحتها دولة يوليو هي تخليص المنطقة من الاستعمار، ورفض الدخول في أحلاف عسكرية مع أي من المعسكرين العالميين المتنازعين، الشيوعي والغربي. واستطاعت أن تفرض رؤيتها هذه إلى حد كبير.
لم تتأسس هذه الرؤية على العداء لإسرائيل بصفة خاصة، بل كانت واقعيًا تقبل بوجودها، لكن ضمن شروط. وبهذا التصور دخلت في مفاوضات سرية غير مباشرة مع إسرائيل، عن طريق الولايات المتحدة، عامي 1955 و1963، لكنها لم تسفر عن اتفاق.
وبعد هزيمة 1967 بخمسة شهور، قبلت القرار 242 من مجلس الأمن، الذي قام على مبدأ الأرض مقابل السلام وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، ما مهَّد الطريق لاحقًا لمعاهدة السلام.
في المقابل، أعلنت إيران في عهد ولاية الفقيه رفضها لوجود إسرائيل منذ البداية، كما أكدت عداءها للولايات المتحدة ووصفتها بالشيطان الأكبر، من منطلق ديني، رغم تلقيها مساعدات إسرائيلية وأمريكية في حربها مع العراق بين 1980 و1988، وهي لا تزال متمسكة بهذا الموقف حتى الآن.
استطاعت إيران أن تجمع معسكرًا يؤيدها، لكنها لم تستطع أن تفرض رؤيتها على المنطقة، وإن كانت قد نجحت، مع أطراف أخرى، في عرقلة التصور البديل القائل بالتصالح مع إسرائيل في إطار فكرة حل الدولتين، الذي يتضمن إقامة دولة فلسطينية.
يمكن تفسير استمرارية هذا الموقف، ضمن عوامل أخرى، بجوهرية المسألة الفلسطينية بالنسبة للفكرة الثورية الشيعية التي حملها النظام الإيراني، لأنها جواز مروره الوحيد تقريبًا للجماهير العربية السُنيّة، التي تمثل الغالبية الساحقة من مسلمي المنطقة، ووسيلتها لمد نفوذها بينها، أو بين قطاعاتها الساخطة. وبغيرها، تظل جيبًا معزولًا، لغويًا وثقافيًا وعقائديًا، وسط هذا البحر العربي السُنّي، وهو ما يفسر حرصها على تقويض أي حل سلمي.
لم تعانِ مصر بطبيعة الحال من هذه العزلة المذهبية واللغوية والثقافية، ولم ترفع من الأساس شعارات دينية في موقفها المعادي لإسرائيل. بل استُدعيت عربيًا للعب الدور القيادي في مواجهة إسرائيل، بوصفها أكبر دولة عربية، وبوصفها في تماسٍ مباشر مع فلسطين المحتلة. بل ومُنحت قيادة الحركة القومية العربية التي نشأت في الشام، ولم تكن لها جذور قوية في مصر.
باختصار، بينما كانت مصر تعمل في محيطها الطبيعي، وكانت القضية الفلسطينية بالنسبة لها واجبًا، أو عبئًا، لا فرصة؛ اعتمدت إيران الملالي اعتمادًا كبيرًا على تبني القضية، كمرتكز لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
التعرُّض للضغط
من جهة ثانية، كانت مصر الناصرية، بسبب انتمائها العميق المذكور للمنطقة والقضية، أكثر عرضة بكثير من إيران الملالي للضغط العربي للقيام بما استقر الإجماع الشعبي العربي على أنه واجبها في مواجهة إسرائيل، خصوصًا تحرير فلسطين.
أتى الضغط الأكبر على مصر من الدول العربية المستقلة حديثًا آنذاك، خصوصًا تلك التي تُعتبر أقرب شبهًا بها، وهي الجمهوريات الناشئة التي تبنت القومية العربية والاشتراكية، في مقابل الدول التي اعتُبرت رجعية ووثيقة الصلة بالاستعمار مثل السعودية والأردن. أتى الضغط والنقد من حكومات حزب البعث في سوريا، ومن المنظمات الفلسطينية التي تكونت وقتها وتمتعت بدعم الحزب، في إطار الصراع على النفوذ الإقليمي.
وصل هذا الضغط إلى ذروته حين انطلقت إذاعات الدول المصطلح عليها بالتقدمية قبل حرب 1967 تنتقد عبد الناصر لقبوله بوجود قوات الطوارئ الدولية على حدوده مع إسرائيل، بينما تتعرض سوريا، فيما شاع وقتها، لتهديد إسرائيلي عسكري، ولعدم تحرير فلسطين، فضلًا عن سماحه بمرور الملاحة الإسرائيلية "أمام عينيه" في خليج العقبة، وفقًا لاتفاق برعاية الولايات المتحدة بعد حرب 1956، مقابل انسحاب إسرائيل من سيناء.
ساهم هذا الابتزاز الإعلامي بقوة، مع عوامل أخرى، في صدور القرار المصري الكارثي بطلب سحب قوات الطوارئ الدولية من سيناء، ثم إغلاق مضيق العقبة، الذي أدى إلى الحرب.
أما إيران الملالي، فلم تتعرض أبدًا لهذا النقد أو الضغط من داخل معسكرها، رغم الحملات العديدة ضدها من خارجه، بل عوملت من البداية كمُتفضِّلة (أو متطفلة) بقيادة المقاومة. فلم تكن لإيران، التي تبعُد مئات الكيلومترات عن إسرائيل، مساهمة سابقة في الصراع، بل كانت صديقة لإسرائيل في عهد حكم الشاه، بخلاف مصر الناصرية التي تلقَّت ميراث حرب 1948.
لكن عدم تعرضها للضغط يرجع أساسًا إلى عامل آخر، له علاقة بطبيعة معسكر المقاومة التابع لها، كما سنرى الآن.
بين الدولة والميليشيا
من جهة ثالثة، كانت مصر الناصرية دولة وطنية، تستند إلى أسس عريقة كدولة متجانسة سكانيًا إلى حدٍّ كبير، ولم تعرف قبل ثورة يوليو ولا بعدها ظاهرة الميليشيات المحلية.
أما بالنسبة للسياسة الإقليمية، فقد قادت مصر تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في أول مؤتمر قمة عربي عام 1964، ودعمت منظمة فتح، التي استولت عمليًا على منظمة التحرير، بعد حرب 1967، لكنها لم تستعمل هذه الميليشيا أو غيرها نائبًا عنها أو أداةً لها، سواء في مواجهة إسرائيل، أو في الصراعات العربية الإقليمية.
الميليشيا "منتصرة بالضرورة" طالما ظلت قائمة وإن خسرت أراضي أو فقدت معظم قواتها
كما أنها تصرفت كدولة مسؤولة عن سكانها في هذا الصراع، فنقلتهم من منطقة القناة إلى الداخل بعد حرب 1967، ثم واجهت إسرائيل في حرب نظامية عام 1973، واستعادت سيناء بطريق التفاوض.
أما النظام الحالي في طهران فقد تأسس أصلًا على مبدأ الميليشيا، بإنشاء الحرس الثوري بعد الثورة مباشرة، كميليشيا عقائدية شيعية مسلحة جيدًا، توازي الجيش الرسمي وتتحكم في أسلحة استراتيجية، كما أسس شرطةً عقائديةً موازية لشرطة الدولة/الباسيج، مهمتهما حماية نظام ولاية الفقيه في إيران.
وبسبب طبيعتها هذه، مارست إيران الملالي سياستها الإقليمية عن طريق إقامة أو مساعدة ميليشيات عربية محلية، وخلقت "فيلق القدس" كفرع من الحرس الثوري، ليُسلِّح ويدرب ويقود هذه الميليشيات، وينسق بينها.
بالإضافة إلى إنشاء حزب الله وميليشياه، سعت إيران إلى استثمار كل تفكك داخلي في دول المشرق العربي، أو صنعه إذا سمحت الظروف، لإقامة أو نشر أو مساعدة ميليشيات تابعة لها، ونجحت في بعض الحالات؛ أغلب ميليشيات الحشد الشعبي في العراق، وميليشيا الحوثي في اليمن، وكذلك في فلسطين، بمساندة حماس المتمردة على عرفات والسلطة الفلسطينية. بل وحتى في سوريا، حين تعرَّضت للتفكك ضمن أحداث الربيع العربي، رغم ولاء النظام السوري المُسبق لها، إذ كان النظام العربي الوحيد الذي أيد إيران الملالي صراحةً في حربها الطويلة مع العراق.
ولما كانت إيران هي الدولة الوحيدة الفاعلة في هذا التحالف، خلافًا لسوريا الأسد والعراق المنكوبَين حاليًا، ولما كانت الميليشيات المذكورة تعتمد عليها، كما ذكرتُ، فإنها بطبيعة الحال لم تفكر في منازعتها على القيادة، ولم تُعرِّضها لأي نقد أو ابتزاز، بل قبلت دائمًا توجيهاتها، سواء أوصت بالتهدئة أو بالمواجهة، محدودة كانت أم شاملة.
ولم تحتجَّ هذه الفصائل، ولا الجماهير التي تؤيدها، على بقاء إيران محتفظة بقوتها بعيدًا عن هذه المواجهة، ولم تُبدِ أي نقدٍ لنجاح عمليات إسرائيلية عديدة داخل إيران، وتقبلت بلا تردد تبريرها بمفهوم الصبر الاستراتيجي، الذي يعني عمليًا إعفاء إيران من أي التزام واضح.
كذلك فإن المبدأ الميليشياوي منحها وحلفاءها، بمن فيهم حماس، وضعية "عدم القابلية للهزيمة". هذا طبيعي؛ فهناك معايير واضحة لهزيمة الدول، مثل فقدانها أجزاء من أراضيها، أو تحطيم جيشها، أو عجزها عن حماية مواطنيها. أما الميليشيا، فهي "منتصرة بالضرورة"، إن جاز التعبير، طالما ظلت قائمة، حتى لو خسرت أراضي كانت تسيطر عليها، أو فقدت معظم قواتها، أو قُتِل آلاف أو عشرات آلاف من المدنيين الواقعين تحت سيطرتها، وحتى لو لم تحاول حمايتهم.
خلاصة
بصفة عامة، تبدو الميليشياوية أكثر نجاحًا من الدول في مواجهة إسرائيل. فقد دفعتها إلى الانسحاب من جنوب لبنان، ومن قطاع غزة (قبل عودتها بعد 7 أكتوبر)، فيما عجزت دولة مثل سوريا عن استعادة الجولان، التي ضمتها إسرائيل.
لكن هذه النجاحات لا ترجع في الواقع إلى تفوق مبدأ الميليشيا؛ فقد اعتمدت هذه الميليشيات على دعم دول أو دولة ما، ولو كانت دولة ميليشياوية. ومن جهة أخرى، لم تستطع هذه الميليشيات تحمل مسؤولية الدفاع عن مصالح سكان البلاد التي فككتها، لأنها عاشت بالتحديد على إضعاف سلطات البلاد وأمنها. ينطبق ذلك على قطاع غزة، بقدر ما ينطبق على العراق واليمن ولبنان.
كما أن حكم الميليشيا، والنظام الميليشياوي في إيران، أثبت أن اختراقه سهلٌ من الداخل، بما جعله مرتعًا لعملاء إسرائيل. لأن هذا النوع من الحُكم، وإن كان قادرًا بالعنف على فرض التأييد أو الصمت، فإنه ينشر، لهذا السبب بالذات، العداء السري نحوه بين قطاعات عديدة. بالإضافة إلى أن طبيعته الميليشياوية تزيد الفجوة بينه وبين السكان، بما يعزز اغتراب قطاعات واسعة عنه، بخلاف الدولة الوطنية. وكذلك بسبب ما ينتج عن هذا التمييز من إفقار للكثيرين كنتيجة لامتصاص الميليشيات، والنظام الميليشياوي، للموارد لتحقيق أهدافه الخاصة.
فوق ذلك، ليس للميليشياوية، بطبيعتها نفسها، أفق سياسي، باستثناء خدمة الدولة الراعية، تحت راية هدف مشترك. لكن الهدف المشترك نفسه غير واضح في حالتنا هذه؛ فرغم، أو بسبب، اعتماد هذا المعسكر على القضية الفلسطينية في نشر سلطته ونفوذه ودعايته، لا نجده يطرح أي تصور لحلها، سوى القضاء على إسرائيل، وهو ما يُعتبر بحقٍّ هدفًا خياليًا في أي مدى منظور.
يدفع غموض الهدف نشاط هذه الميليشيات فعليًا إلى محاولة تمزيق المزيد والمزيد من الدول العربية، خصوصًا الأردن ومصر حاليًا، بحجة عرقلتها للمقاومة أو عدم مشاركتها فيها. وتتحالف في ذلك مع قوى من قبيل الإخوان، لأن هذا التمزيق من شأنه أن يفسح المجال أكثر فأكثر للحالة الميليشياوية، ونشرها في المزيد والمزيد من المناطق التي ما زالت دُولًا؛ وهو ما يعني أن تحرير فلسطين يمر في هذه العقيدة بتحرير المزيد والمزيد من شعوب المنطقة من دولها.