على المستوى الإقليمي، تعتبر حرب غزة لحظة مهمة في الصراع بين معسكرين، أولهما المعروف باسم "معسكر الاعتدال العربي"، ويشمل أساسًا مصر ودولًا خليجية، يقوم تصوره بشأن القضية الفلسطينية على مبدأ حل الدولتين؛ وثانيهما "معسكر الممانعة" الذي سأتناوله هنا، وهو مكوَّن من إيران وعدد من الميليشيات العربية التي التفّت حولها. وجميعهم يؤمنون، مثل حماس، بهدف القضاء على إسرائيل، طال الزمن أو قَصُر، وبالتالي يرفضون حل الدولتين ويدينون أي سعي عربي لحل القضية الفلسطينية سلميًا.
الإطار الحاكم: الصراع الإقليمي
الخلاف بين المعسكرين، على أهميته، هو أحد تجليّات خلاف أعمق يتعلق بتشكيل بنية المنطقة ككل؛ فمعسكر الممانعة إسلامي، يتصور مستقبل المنطقة في شكل دولة إمبراطورية إسلامية واحدة، تقوم بطبيعتها هذه على أنقاض الفكرة الوطنية، التي تُعتبر الأساس الذي بُنيت عليه أنظمة الحكم العربية الحالية.
لذلك، ليست صدفةً أن يتكون معسكر الممانعة بالأساس من ميليشيات. فالميليشيات هي أهم أداة متاحة لضرب مبدأ سيادة الدولة في الصميم، لأنَّ الأساس الذي تقوم عليه سيادة أي دولة هو احتكارها لتشكيل التنظيمات العسكرية من جيوش وأجهزة أمن رسمية.
لكنَّ مساهمة دولة ما، مثل إيران، في إنشاء أو تمويل ميليشيات، يعتمد أيضًا على توفر ظروف ملائمة داخل البلد المعنيِّ، تُزعزع الأوضاع فيه ليتحول إلى دولة فاشلة، بما يتيح الفرصة لتكوين الميليشيات وبسط سيطرتها على أجزاء من أراضيه.
المنطقة العربية لها تاريخ طويل مع الميليشيات، بسبب ضعف التكوين القومي في عدد معتبر من دولها. لكنَّ الميليشيات الفاعلة الحالية لم تعد تحمل أيديولوجية تحرر وطني أو أيديولوجية ثورية يسارية، بل أصبحت جميعها، باستثناءات محدودة، تحمل أيديولوجية إسلامية، وبالتالي تحمل تصورًا "إمبراطوريًا"، بمعنى أنه متجاوز للشعوب والقوميات وحدود الدول، بما يسمح لها بإعلان الولاء لدولة تُعتبر أجنبية بالمفهوم الوطني، مثل حالة حزب الله لبناني الجنسية، إيراني الولاء.
خلاصة ذلك أنَّ التكوين الميليشياوي لهذا المعسكر متسقٌ تمامًا مع مبادئه.
يتعارض الشعار البراق "وحدة الساحات" مع الشعار التكتيكي الإيراني القائل بـ"الصبر الاستراتيجي"
والواقع أن جمهورية إيران الإسلامية نفسها لها طابع ميليشياوي، فالنظام الحاكم يمتلك قوةً ضخمةً موازيةً للجيش النظامي، هي الحرس الثوري، المسؤول عن حماية نظام الحكم القائم على مبدأ ولاية الفقيه. وتتبع الحرس الثوري قوات أمن داخلية موازية للشرطة تُسمى الباسيج، كما يتمتع بذراع عسكري للعمليات الخارجية يسمى فيلق القدس.
ويتولى فيلق القدس تدريب وتسليح الميليشيات الأخرى الموجودة في "معسكر الممانعة"، وعلى رأسها، فيما يخص موضوعنا هنا، حزب الله اللبناني، وميليشيات الشيعة في العراق التي تجتمع فيما يُعرف بـ"الحشد الشعبي"، وكلاهما يتبنى المذهب الشيعي الجعفري، الذي هو المذهب الرسمي لإيران، بالإضافة إلى جماعة أنصار الله (الشهيرة بجماعة الحوثي) في اليمن، التي تؤمن بمذهب شيعي مختلف، هو المذهب الزيدي.
معسكر الممانعة والقضية الفلسطينية
يواجه معسكر الممانعة مشكلة جوهرية في التمدد بالمنطقة بسبب طبيعته نفسها، لأن الشيعة بمختلف طوائفهم أقلية في المنطقة العربية. لذلك لا تستطيع "الممانعة" أن تدعو شعوب المنطقة، بما فيها شعب فلسطين، إلى اتباع مخططاتها السياسية بالدعوة لمبدأ ولاية الفقيه، فتتجه إلى رفع شعارات أخرى، يسارية الأصل، مثل "الدفاع عن المستضعفين"، أو محاربة الاستعمار أو ما تسميه إيران "الاستكبار العالمي"، وبالطبع شعارات إسلامية عامة.
في هذا الإطار، تأتي أهمية القضية الفلسطينية لهذا المعسكر، لأنها لعبت تاريخيًا، ولا تزال، أدورًا أساسيةً في تاريخ المنطقة العربية وصراعات دولها وتياراتها الأيديولوجية. وبالتالي تمثل أفضل فرصة واقعية لنشر أفكاره وبناء الولاء له.
مع اتجاه منظمة التحرير الفلسطينية إلى حل الدولتين، اتجه معسكر الممانعة إلى تبنّي حماس، بتسليحها والمساهمة في تمويلها بطرق معقدة، وإلى تأييدها صراحة في الحرب الحالية.
هذا لا يعني أن معسكر الممانعة الشيعي يتبنى القضية الفلسطينية كمجرد أداة أو ذريعة؛ فسياسة العداء لإسرائيل أساسية في عقيدة هذا المعسكر، على أسس دينية. وقد تحوَّل هذا الإيمان المشترك إلى ما يشبه قيام حلف عسكري بإعلان شعار وحدة الساحات عام 2021، بمناسبة إطلاق صواريخ على إسرائيل من سوريا ولبنان وغزة في الوقت نفسه.
لكن هذا الشعار البراق يتعارض مع الشعار التكتيكي الإيراني القائل بـ"الصبر الاستراتيجي"، الذي يعني تجنب المواجهة المباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة، وحتى مع دول الجوار، إلى أن تتوافر القوة الكافية والظروف الملائمة.
وإلى أن يحين ذلك الوقت، تستعمل إيران أذرعها كخط مناوشة أمامي يتحمل عبء مواجهات محدودة مع إسرائيل، خصوصًا حماس وحزب الله.
حرب غزة ومأزق معسكر الممانعة
بصرف النظر عمّا إذا كانت حماس شنت عملية السابع من أكتوبر من تلقاء نفسها، أو بعد تشاور مع قوى "وحدة الساحات"، فإن عنف رد إسرائيل، وعزمها على استئصال قوات حماس وحكمها لغزة، وضع الحلف بأكمله في مأزق صعب: إما الرد على خطة الاستئصال بشن حرب على إسرائيل، وفقًا لشعار وحدة الساحات، أو الاعتصام بتكتيك "الصبر الاستراتيجي".
واقع الأمر أن هذا المعسكر بقيادة إيران التزم بالتكتيك الأخير، مع محاولة إنقاذ مصداقيته، أو حفظ ماء وجهه، بالقيام بعمليات محدودة، كإثبات لجدية التضامن مع حماس. وهو تضامن لا يمكن القول بأنه رمزي، لكنه بالتأكيد يترك حماس عمليًا لمصيرها، مع التأكيد المستمر على أنَّ حماس شنّت هجوم السابع من أكتوبر بقرار منفرد، لم تشارك فيه قوى الممانعة الأخرى.
مع بداية الحرب، بادرت ميليشيا حزب الله بشن هجمات محدودة على شمال إسرائيل، حددها حسن نصر الله، قائد الحزب، بمصطلح قواعد الاشتباك، الذي يعني نوعًا من التناسُب بين الهجمات المتبادلة. وقال إن الهدف هو إشغال الجيش الإسرائيلي عن الهجوم بكامل قوته على غزة، واعتذر بأنَّ تحديد الهجمات بهذا الشكل يرجع إلى مراعاته لبقية طوائف لبنان التي لا تريد تعريض البلاد لويلات حرب شاملة مع إسرائيل.
كذلك أخذ الحوثيون يطلقون الصواريخ والطائرات المُسيّرة على الملاحة الإسرائيلية، أو المتجهة إلى إسرائيل، عند مرورها في بحر العرب وجنوب البحر الأحمر، معلنين أنَّ عملياتهم ستتوقف حين تتوقف حرب غزة. كما أطلقت ميليشيات شيعية عراقية تنتمي إلى الحشد الشعبي صواريخ على القوات الأمريكية القليلة التي بقيت في العراق باتفاق مع حكومته.
جميع الخيارات مُرّة بالنسبة لحزب الله وإيران فخيارهما المفضل وفقًا لتكتيك "الصبر الاستراتيجي" هو بقاء الوضع على ما هو عليه
أما الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل مؤخرًا، فلا يدخل ضمن عمليات التضامن مع حماس؛ فقد اقتصر هدفه المُعلن على الرد على تدمير إسرائيل مبنى قنصليًا إيرانيًا في سوريا، اجتمع فيه عددٌ من قادة الحرس الثوري الإيراني. وأكدت إيران مرارًا أنها تشارك الولايات المتحدة الأمريكية الرغبة في عدم توسيع نطاق حرب غزة.
لكن هذه السياسة لم تُخرج معسكر الممانعة من مأزقه، لأنها لم تحقق نتائج مهمة. فالضربات المحدودة التي شنها حزب الله لم تخفف عمليات إسرائيل العسكرية على غزة، بل تلقت ميليشيا حزب الله ضربات موجعة، فضلًا عن اغتيال كوادر حمساوية كانت تعيش في لبنان.
الأهم من ذلك، أنَّ إسرائيل لم تعلن التزامها بقواعد الاشتباك المذكورة، بل أعلنت أنها ستحقق "السلام للجليل"، أي شمال إسرائيل، سلمًا أو حربًا. فإما أن تتراجع ميليشيا حزب الله بعيدًا عن خط الحدود نحو نهر الليطاني، وإما أن تدخل إسرائيل بجيشها إلى لبنان لتصفيتها كما تفعل حاليًا مع ميليشيا حماس.
وجميع هذه الخيارات مُرّة بالنسبة لحزب الله وإيران؛ فخيارهما المفضل، وفقًا لتكتيك الصبر الاستراتيجي، هو بقاء الوضع على ما هو عليه.
أما ضربات الحوثي، فقد جلبت البحرية الأمريكية إلى مضيق باب المندب، وكلَّفت الحركة جانبًا كبيرًا من عتادها العسكري، ولم تعوض خسائرها المادية لفشلها في الاستيلاء على سفن تجارية بقوارب مسلحة. وفي النهاية، لم يكن بمقدورها أن تسبب ضررًا كبيرًا لإسرائيل، لأن ميناء إيلات لا يستقبل إلا جزءًا محدودًا من تجارتها البحرية، بينما أضرت بتجارة دول عديدة، في المنطقة وخارجها، منها مصر التي تقلصت عائداتها من قناة السويس بشدة.
كذلك اضطرت الميليشيات الشيعية في العراق إلى إيقاف عملياتها ضد القوات الأمريكية لما سببته من معارضة سُنِّية وكردية صريحة، ومن إحراج للحكومة العراقية، بما قد يهدد استقرار هذا البلد الذي بَنَت فيه إيران نفوذًا عريضًا ومصالح كبرى.
فوق ذلك، حَرم التحالف نفسه، برد فعله المحسوب هذا، من التمادي في هوايته المفضلة في ابتزاز الدول العربية باتهامها بالتخلي عن القضية، كما جعل تحريض حماس "للعرب" على "الزحف" نحو فلسطين قليل المصداقية في ظل محدودية تطبيق شعار "وحدة الساحات".
ومع ذلك، إذا كانت هجمة السابع من أكتوبر أحرجت بشدة معسكر الممانعة، فإنها أفادته من ناحية أخرى، بعرقلة قطار التطبيع بين إسرائيل والسعودية، وأفادت القضية نفسها بإعادتها على رأس أولويات منطقة الشرق الأوسط بجميع دولها.
الخلاصة
يواجه معسكر إيران وأذرعها خيارات صعبة.. فإما أن تندلع حرب إقليمية واسعة لا يريدها، وإما أن يضطر إلى تقديم تنازلات تُضعفه، خصوصًا على الجبهة اللبنانية. كما أن عودة القضية الفلسطينية إلى مركز الصدارة في الساحة الإقليمية قد لا يصب في مصلحته، وقد يُفيد معسكر الاعتدال العربي، الذي يتناول المقال القادم أزمته الخاصة.